يبالغ السياسيون الإسلاميون العراقيون في إظهار حبهم للديمقراطية وتمسكهم بأحكامها. وكثيرون منهم لا يكتفون بالكلام وحده، بل يلصقون (الديمقراطية) بأسماء أحزابهم وحركاتهم وتنظيماتهم، فيرتكبون بذلك خطيئتين كبريين.
الأولى بحق الدين الإسلامي نفسه. فهم يقولون، ربما بغير وعي ودون قصد، إن الإسلام غير ديمقراطي، لذلك فهو بحاجة إلى استيراد أنظمة سياسية من الخارج، وينسفون خصوصيته السياسية المتوارثة والمسماة بالشورى، وهي البعيدة كل البعد عن الديمقراطية الغريبة التي ُتعد في نظر الكثيرين من منهم بدعة مستوردة من الغرب (الاستكباري) العلماني. (وكلُ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
والثانية بحق الديمقراطية وفرسانها الحقيقيين. لأنهم بادعائهم بأبوتها في العراق يجعلون المواطن البسيط يكره اسمها ويلعن الساعة التي جاءت إليهم فيها. فإن كانت الديمقراطية هي الغش والكذب والتآمر والرشوة والاختلاس والاقتتال والمفخخات فلا كانت ولا كان أصحابها.
وأغلب الظن أن هذا الخبط ناتج إما عن قصور في فهم الدين، أو في فهم الديمقراطية، أو في فهمهما كليهما، أو أنه عمل مقصودٌ بذاته هدفه خداعُ الجماهير والكسب غير المشروع.
والغرض من هذه المقالة ليس الدخول في جدل حول الشورى والديمقراطية والمفاضلة بينهما، ولكن الهدف أن ننظر إلى المسألة من زاوية صلاح رجل الدين العراقي للسياسة، ومدى صدقه في ارتداء عباءة الديمقراطية وهو لا يعنيها ولا يحبها ولا يطيقها، بل إن بعضا من هؤلاء الإسلاميين (الديمقراطيين) قادةُ مليشيات قتالية مسلحة مارست وتمارس القتل والاغتيال والتهديد بقوة السلاح عندما يريدون ترويض شركائهم في المحاصصة.
وحين تجادلهم حول هذا المَسخ المَعيب للديمقراطية يرد عليك بعض كتابهم بأنهم (منتخبون من قبل الشعب العراقي في انتخابات حرة نزيهة ديمقراطية شهدت لها الأمم المتحدة والإتحاد الأوربي والهند واليابان وروسيا والصين والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمات المجتمع المدني الأجنبية والعراقية وراقبها ما يربو على (300) ألف مراقب).
ويغيب عن هؤلاء أبسط مفاهيم الديمقراطية، وهو أن عملية الانتخاب وحدها ليست ديمقراطية، حتى لو كانت انتخابات صحيحة، وغير صورية، وغير مزورة، ولم يقرر الحاكم نفسُه نتائجها قبل أن تبدأ، وذلك بإرهاب الناخبين بخناجر كتائبه المسلحة وسيوفها، أو بفتاوى الشيوخ والسادة المعممين وعاظ السلاطين، أو بأحكام القضاء المدجن، أو بشراء الناخبين بوظائف أو بأموال مسروقة من خزائن الأمة، أو واردة من وراء الحدود.
أما شروط الديمقراطية الأخرى، كالقبول بالآخر، والوسطية، واحترام الرأي المخالف، والتداول السلمي للسلطة، وضمان حرية الفكر والعقيدة، فأمور هامشية لا يرون غضاضة حين ينكرونها، أو يتحايلون عليها ويعملون بعكسها.
ومثلما يصعب اجتماع الصيف والشتاء على سطح واحد، فلا يمكن أن يكون ديمقراطيا رجلُ متعصب لمعتقداته وحدها، وممسكٌ بعاداته وأفكاره المتخلفة المتوارثة، وخاضع، بشدة، لمرجعيته الدينية أو العشائرية، وطائع لولي أمره طاعة ًمطلقة.
إن الديمقراطية في النهاية ثقافة وسلوك وطبيعة. والسلطة الديمقراطية لا تولد إلا من رحم شعب ديمقراطي. (كيفما تكونوا ُيولَّ عليكم).
ولأننا تربينا على الاستبداد والعصبية القبلية والطائفية والعنصرية، جيلا عن جيل، فمن الطبيعي ألا نلد إلا حكاما غير دمقراطيين.
وانظروا ماذا حل بالعراق، وماذا جرَّت عليه ديمقراطية الحكام المعممين (قلبا وعقلا وروحا)، حين داسوا بأحذيتهم الطائفية المتعصبة على الديمقراطية، وعلى الدستور، وعلى المنطق والأصول، فمزقوا الصفوف وأعاقوا البناء وضيعوا الأمن والأمان، وبعثروا ثروات الوطن وجوعوا أهله وشردوا منهم ملايين.
شيء آخر. إن أغلب هؤلاء السياسيين الدينيين العراقيين تخرجوا من مدرسة الإمام الخميني السياسية التي تقضي بسحق كل من يخالف إرادة الولي الفقيه باعتباره خارجا على سلطة الإمام المنتظر، بموجب نظرية الخميني التي عارضها ويعارضها كثيرون من أئمة الشيعة ومفكريهم الكبار.
وأصل فكرة الولي الفقيه يتلخص بما يلي. إن من ثوابت الفكر الشيعي أن «الشرعية» الكاملة لا تقوم إلا بظهور الإمام المهدي المنتظر. لكن الخميني أدرك أن ذلك يعني عمليا استحالة تحقيق العدالة قبل يوم الظهور. وعلى ذلك أقام نظريته التي تقول بإمكانية النيابة عن الإمام المنتظر، لحين ظهوره.
وبناء على ذلك فإن جميع الساسة العراقيين المؤمنين بسلطة الولي الفقيه لا يستطيعون، ولا يريدون، ولا يقبلون بغير ديمقراطية النظام الذي أسسه الخميني، وتابع ولايته ورعايته المرشد الأعلى من بعده.
وديمقراطية النظام الإيراني لها قواعدها الخاصة في تنظيم عملية الانتخاب، وفي تحديد الموالاة والمعارضة. فالموالاة واجب شرعي على الجميع. والمعارضة التي يمكن السماح بها هي فقط تلك التي تخرج من رحم النظام نفسه، على ألا تخرج عن حدود الأمور المعاشية والتنظيمية والإجرائية وغيرها من الأمور الهامشية، ولا ترقى، ولا يسمح لها بأن ترقى إلى شؤون السياسة العليا وأسرارها.
وبموجب هذه الطبيعة السياسية لا حرية لمعارضة من خارج النظام. أما في الترشيح وفي الانتخاب فالنظام نفسه هو الذي يقرر، وحده، من يترشح ومن ينتخب .
وصادف مرات عديدة أن ُرفعت من قوائم المجازين بالترشح أسماء كثيرين، بعد أن تمت مراجعة سجلاتهم وتبين أنهم إصلاحيون معارضون لسلطة الولي الفقيه، حتى وهم من كبار قادة النظام نفسه، وأخلصهم لفكر الخميني .
ومن أهم منجزات هذه الديمقراطية ما حدث في صيف 2008 عندما تظاهرت ملايين الإيرانيين في طهران والمدن الرئيسية الأخرى للتعبير عن غضبهم إزاء نتائج الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل في ذلك الوقت. فقد فتك النظام بالمتظاهرين وفعل بهم نفس ما يفعله اليوم بشار الأسد بمعارضيه السوريين.
وبعد مقتل المئات واعتقال الآلاف من المتظاهرين المواطنين العاديين، توجه النظام إلى الكتاب والمثقفين والصحفيين الإصلاحيين وقادة الحركة فلقنهم دروسا بالغة الهمجية والعنجهية والظلم والاستبداد. ثم، بعد كل ذلك، صدرت أحكام بالإقامة الجبرية وبالسجن على معظم قادة الحركة، وتم نفي البعض منهم إلى مدن نائية أخرى غير مدنهم، وُحرم على كثيرين منهم ممارسة العمل السياسي لسنوات.
وقد استطاعت أعداد كبيرة من المعارضين مغادرة إيران إلى المَهاجر لمتابعة الكفاح من الخارج. أما الذين لم يتمكنوا من مغاردة إيران فقد دفعوا وما زالوا يدفعون ثمن الطموح غير المشروع إلى العدالة والحرية والكرامة.
هذا مع التذكير بأن الأمم المتحدة صنفت إيران، ولعدة سنوات، بأنها الدولة الثانية في العالم في عمليات الإعدام. وليس خافيا ما يقوم به النظام في الحياة اليومية الاعتياادية من التحكم بالسفر والإقامة والتنقل، وفي العمل الحر والتجارة، وفي القراءة والكتابة، وحتى في المأكل والملبس والاستماع. وقد أغلقت شبكة الإنترنيت بالكامل، مرارا، وحُجبت مواقع، وأغلقت صحف، ومنعت أعداد كبيرة من منظمات المجتمع المدني غير السياسية،. وسجل النظام في قمع التظاهر والاحتجاج لا يحتاج إلى تفصيل.
من كل هذا نصل إلى الخلاصة وهي أن من المستحيل وجود عراقي واحد يحترم نفسه وأهله ووطنه يريد ديمقراطية وديمقراطيين من هذا النوع. وبالتالي فإن حياتنا لن تنصلح ولن تعود عزيزة وآمنة ومزدهرة، كما كانت، إلا إذا خرج هؤلاء من حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإلا إذا تم فصل الدين عن الدولة، تماما ونهائيا، ودخل شعبنا في العصر الديمقراطي العلماني الحقيقي الذي يضمن المساواة لجميع المواطنين في الحقوق والواجبات، ويرفع عنهم سيوف القهر الديني والعنصري والطائفي، ويغسل عقولهم وقلوبهم من الأوهام والخرافات والأساطير، ويجعل رجال الحكومة موظفين لدى المواطنين، ولا يجعل المواطنين عبيد الحكومة.
حينها سوف يجد الساسة المعممون أنفسَهم مرغمين على اختيار واحد من اثنين، إما أن ينزعوا عمائمهم ويدخلوا عالمَ السياسة في القرن الحادي والعشرين، وينصاعوا، دون مواربة، لأفكار العصر الحديث وثقافاته وقوانينه الإنسانية المتحضرة، أو أن يغادروا شوارع السياسة وأزقتها وقبابها، ويعودوا إلى جوامعهم وحُسينياتهم، ويتفرغوا للصلاة والدعاء، ويتركوا السياسة لأهلها وفرسانها.
بعبارة أخرى. لن تكون لدينا ديمقراطية حقيقية ما دام في في وزارات الخارجية والمالية والتعليم والثقافة والإعلام والسياحة، وفي الشرطة والجيش، مسؤولون يُحرمون التماثيل والغناء والموسيقى، وما دامت لدينا نائبات في البرلمان ملفعاتٌ بالسواد وظيفتهن فقط هي الدفاعُ عن السيد (القائد)، والجهاد ضد التحضر والتنور والتقدم، والدعوة إلى التمسك بجهالة الجاهلية الأولى، والجهاد من أجل عدم خروج أحد من كهوف الظلام.