حين غزت امريكا في نيسان 2003 العراق واحتلته ، واصدر الحاكم المدني بريمر مئة قرار احدثت تغييرات صادمة في تدمير الدولة وبنية المجتمع العراقي ، كان الشعار الأبرز هو أشاعة الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان مرتكزات اساسية لعملية التغيير في المحاور السياسية والاقتصادية والاجتماعية . إذ ان النظام الديمقراطي يقوم على التعددية الحزبية وحرية التعبير والرأي وحقوق الانسان التي طالما قمعت وأغتيلت إبان الحكم الشمولي الذي امتد اكثر من ثلاثة عقود وكان استمرارا للسنوات التي سبقت قيامه جراء الصراعات والاقتتال والتسقيط والازاحة السياسية التي سادت الحياة السياسية والحزبية بعد العراق الجمهوري .
تلك الازاحة التي تهدف الى الاستئثار بالسلطة والتمسك بها وكانت سببا لطغيان الحاكم وقمع الاحزاب والمعارضة التي ظهرت نهاية عقد السبعينات مما ولد نزوحا وهروبا حزبيا وسياسيا لكل قيادات وقواعد الاحزاب العلمانية والاسلامية الى خارج العراق . على الرغم من اختلاف المعارضة الايديولوجي بيد انها شكلت قوة وعاملا من عوامل الضغط لأسقاط الديكتاتورية من ناحية وزيادة عديدها بحكم الدعم من الدول الحاضنة لها من الناحية الاخرى .
والغالب لتلك الاحزاب هو الفكر السياسي الديني القائم على الطائفية والمذهبية التي تفسر وتحلل الدين من خلال مذهبها ومنهجها في الحياة .
وبلغ عدد الاحزاب الاسلامية استنادا الى تقارير الاستخبارات قبل سقوط النظام السابق 29 حزبا بأختلاف اتجاهاتها الفكرية جميعها كانت خارج البلد تتلقى الدعم من تلك الدول التي نشأت فيها ، واتخذت من الدين غطاءً ومنهاجا فكريا وشعارا لها في عملها الحزبي ومعارضتها للنظام السياسي السائد في العراق . ولكن تلك الاحزاب توالدت وانشطرت وتناسلت حتى غدت تشكل العلامة او الصبغة السائدة بعد تصدرها للمشهد السياسي بعد التغيير الذي اصاب بنية المجتمع والدولة .
والثابت ان التعددية تفضي الى التنوع والاختلاف لصناعة مجتمع مدني متطور ومؤشر الى النمو والازدهار وهي ايضا مؤشرا الى البناء الديمقراطي وشكل النظام السياسي الجديد ، غير ان التعددية التي ظهرت هي في اسماء الاحزاب والحركات والتيارات السياسية اي في الشكل وليس في الجوهر للحصول على اكبر عدد من المنتمين اليها لتسنم مواقع في السلطة وتشكيل حاجزا دون وصول الكفاءات المستقلة اليها . وهذا التوالد أفادة منه الاحزاب الرئيسة بسبب غياب قانون الاحزاب والصراع والاقتتال المذهبي وتردي الوضع الامني لاتكاء تلك الاحزاب على الدين والطائفة والمنطقة فضلا عن التدخل الاقليمي الفاضح ورعاية سلطات الاحتلال لمخطط التقسيم حتى بعد خروجهم من البلد وتعميق الطائفية والقومية والفئوية والعشائرية في المجتمع العراقي الذي عانى كثيرا من تداعيات هذا التنوع الذي ينبغي ان يكون عامل قوة
وابداع ونهوض ، تحول الى الضد من تلك الصفات والمزايا الجميلة التي تتزين بها معظم المجتمعات في العالم المتحضر والمتخلف .
ان دعوات وشعارات سلطات الاحتلال المتعلقة بالبناء الديمقراطي ، لاشك انها نظاما سياسيا يسعى اليه المجتمع والاحزاب المنتشرة حاليا ، ويقينا ان هذا النظام والبناء كان هدفا ناضلت اليه كل الحركات والقوى السياسية خلال العقود المنصرمة ومنها الاحزاب الاسلامية .
بيد ان السؤال الذي يطرح مع التغيير السياسي وشكل النظام الذي صيغ في الدستور العراقي الصادر 2005 بأنه نظاما ديمقراطيا ، وهذا النظام يعتمد على الانتخابات ،التداول السلمي ، حرية الرأي والتعبير ، منظمات المجتمع المدني ، تشكيل الاحزاب ، حقوق الانسان وصناعة الرأي العام وغيرها من المحاور التي تقوم عليها الديمقراطية كنظام سياسي كان ومازال سائدا في الغرب ومعظم دول العالم التي طالها التغيير منذ عقد السبعينات ومازال مستمرا بفضل الغزو الثقافي وطموحات الشعوب في القضاء على الانظمة الاستبدادية والدكتاتورية التي استغلت تلك الشعوب ردحاً من الزمن ومنها الدول العربية التي كانت ومازال قسم كبير منها يعاني من شكل النظام السياسي القائم على القمع وقهر الانسان .
السؤال هو اذا ما كانت تلك الاحزاب الاسلامية سواء في العراق او البلاد العربية التي التقى فيها المقدس ( الدين ) والمدنس (السياسة ) واحياء سلطة الخليفة في التعامل مع مشكلات الحياة في المجتمع وشكل الدولة ، فيما تسعى وفق النظام السياسي الحالي الى الايمان وتطبيق النظام الديمقراطي الغربي نموذجا في البناء الجديد والتغيير الذي جرى في تلك البلدان لماذا تسمي نفسها اسلامية ، وتطبق النظام الغربي منهجا في العمل السياسي والبناء الجديد للدولة ؟ فهي تقع حينئذ في فخ الازدواجية الثقافية إذ ان الاحزاب في النظام الديمقراطي تعتمد الوطنية أساً للعمل السياسي وتسعى الى الارتقاء والنمو والمشاركة الجمعية في بناء الوطن دون الاتكاء على الطائفة او القومية او العشيرة وانما المواطن حيثما يكون واشاعة وترسيخ المواطنة التي نخشى ان تندحر بعد ان عانت السقم الطويل من سياسات الحكام والاحزاب على مدى نصف قرن .