على مواقع التواصل الأجتماعي ، شاهدت لقطات من فلم عرضته قناة (المدى)، عن مهندس ميكانيك يبيع (اللالنكي) في الشارع ، وقد يبدو لقاءً عابراً شأنه كل اللقاآت الصحفية التي تبرز تقصير وأهمال الحكومة الهائل والمذهل لكل نواحي الحياة التي يعيشها المواطن ، ولكن هذا اللقاء كان مؤلما ومحبطا وخطيرا ومخيفا بمعنى الكلمة ، يبين لنا ، وكأن النخبة المتعلمة والأكاديمية مستهدفة وبتعمد ، وبالتالي حشرها في زاوية ضيقة من شظف العيش والمعاناة .
هكذا يعيش شبابنا (الخرّيجون منهم ) صراعا شديدا ، بين طموحه أن يتزوج ويفتح بيتا ، ويتقاضى ما يكفيه ، وبين خذلان الحكومة وأهمالها له ، بين احتياجاته المشروعة جدا ، بل من ابسط حقوقه ، وبين سياج ضخري أصم وأخرس ينطح السماء ، غلفت الحكومة نفسها به ، تصوروا هكذا شاب بين نارين ، خصوصا ان كان غير محصن بالأخلاقيات والأنضباط الأجتماعي ، و تعتريه رغبة عارمة في الأثراء السريع ، لكونه عانى من الحصار ومن عدة حروب ، وأحتلال وما صاحبه من فساد وعنف وأمراض ، قد سلبته درعه ومتراسه ، سيتصرف بلا شك كالنمر الجريح ، وسيلجأ الى الأستفادة من سموم وأفرازات ما يسمى (العراق الجديد) ، وبغطاء شرعي لأعمال أجرامية ، غطاء من الممكن توفره بسهولة (ان فهمتم قصدي)!.
سيشعر من أعماقه ، ان الأخلاقيات والألتزام والأصول لم تفده بشيء ، لأنه يجد أصحاب الشهادات المزورة ، وأصحاب المحسوبية والمنسوبية ، قد أنعموا بالوظائف والمناصب والكراسي والأبّهة والمكاسب الكبيرة ، وهو يجد نفسه أفضل منهم بأشواط ، لكنه يراوح في بقعة صغيرة من الأرض لا تقوى على أحتوائه !
أطلعت على بعض المشاركات في تلك المواقع ، وكانت مرعبة ، تستحق الدراسة والمراجعة والتأمّل ، دعوات تشبه التمرد بعدم (توريط) الطلاب أنفسهم بالدخول الى الجامعات وحتى المدارس ، هي دعوات لتطليق ومقاطعة التعلم والدراسة لعدم جدواها حسبما يرون ، فالطلاب الذين تخرجوا من 10 سنوات لم يحصلوا على وظائف ، هي دعوات لأفشاء الجهل ، بأعتباره (نعمة) !، وصار الطالب الجامعي يذهب لجامعته بهدف ارضاء أهله ، فقد أغتيل طموحُه ! ، وأقول أيضا ، أن الدولة غير ملزمة بتعيين كل الخريجين ، وأنه من الممكن أن ينخرطوا بالعمل في الشركات الأهلية ، ولكن توقف التنمية في البلد نهائيا ، سبّب توقف تلك الشركات الأهلية عن العمل .
كنت أحرص على ادخال أولادي الى الجامعات ، مدفوعا بمبادئي ، ومتشدقا بشتى الأعذار ، من قبيل ، لا يصح الا الصحيح ، الشهادة مركز اجتماعي قبل كل شيء ، أوضاع البلد ستستقيم ، ومرت السنون ، واذا بأوضاعنا تسير عكس اتجاه الزمن !.
وها أنذا اليوم ، قد أُسقط في يدي ، وأعترف أن الأعذار قد نفذت مني ، وأفرغت جعبتي من كل جمل التفاؤل والأقناع ، وهم يرون بأنفسهم واقعا مرّا ملموسا وعلى الأرض وواضح كالشمس .
شباب هذا اليوم صاروا على قناعة من العسير تغييرها ، من ان التحصيل والتفوق والكفاءة ، أخر ما يهم الدولة ، فالتجربة أكبر برهان للأسف الشديد ، فما جدوى المذاكرة والتعب وسهر الليالي ، وهم يرون اصحاب الشهادات المزورة والفاشلين على قمة الهرم الأداري للدولة ، وأن لا شيء يشفع لهم الا بالانتماء لأحزاب (نص ردن) هي رمز الفشل ، أو التزلف والتقرب من (الذيول) ، عسى ان يحصلوا على وظيفة ، أو دفع مبالغ طائلة لأجل حجز (سرقفلية) التعيين !.
لقد رأى شبابنا بأم أعينهم اليوم ، عن طموحات عراقيين أصلاء ، تسلحوا بأعلى درجات التحصيل العلمي والاكاديمي في الغربة ، فوفدوا لبناء البلد بنيّة و رغبة صادقة ونكران ذات ، وشهدنا خيبات أملهم المدوية ، فلم يجدوا مترا واحدا في هذه البلد يؤيهم ، ويحقق طموحهم ، كل الذي وجدوه ، أرضا سبخة لا يمكن بذارها ، وهم يزاحمون ركاما هائلا من الطفيليات السامة السرطانية المتورمة ، حتى ضاق بها الجسد العراقي وملأته فعادوا أدراجهم وهم يلعقون جراحهم ، ويدارون خيبتهم .
من الصعب اقناع الشاب اليوم ، بمردودات الدراسة والشهادة ومكاسبها ، وهو يرى واقعا ملموسا على الأرض مخالفا تماما عما تعلمه ، سيعتبر كل الكلام ، مجرد نظرية غير قابلة للتطبيق.
هكذا يئس الشباب ، وأصطدمت كل طموحاتهم وأمالهم بمستقبل مشرق ، بحائط أصم ، صمت القبور ، فتوجّهت أنظارهم شمالا ، حيث أوربا ، وحيث المجهول ، وسيندرج المحظوظ منهم ، تحت وصاية المجتمع الدولي الذي لا نثق به ، عين المجتمع الذي فرض علينا حصارا مجرما ، المجتمع الدولي الذي همه شرعنة زواج المثليين !، فحدثت أكبر موجات هجرة للشباب في تاريخ البلد .
والأدهى وجود عشرات الجامعات الأهلية ، وما أن يتخرج منها الطالب ، حتى يكتشف ان جامعته غير معترف بها من قبل وزارة التعليم العالي التي أجازتها !.
لا أقول انها مسألة وقت حتى تنفجر تلك القنابل الموقوتة ، لأن بوادره قد بدأت فعلا ، وما عمليات السرقة والتسليب والأختطاف التي تحدث يوميا ، الا نتيجة طبيعية لهذا الأهمال .