كان حي دوميز في كركوك، عود الثقاب الذي أشعل بنزين أحداث كركوك الأخيرة. دوميز اشتعل في الـ 3 من أوغست الماضي بمصرع اثنين من العراقيين الأكراد بنيران قوَّات العراق الأمنيَّة. حصيلة الضحايا المدنيين بدءً من دوميز و لحدِّ كتابة هذه السطور أربعة، و من المتوقع منطقياً و للأسف ارتفاع هذهِ الحصيلة في الأيام القادمة، ما دام الاتفاق السياسي بين بغداد و “البارتي” الحزب الديموقراطي الكردستاني فيما يخص عودة الأخير للمدينة، يُشبه عُلبة كبريت كامِلة خرج منها عود دوميز لأجل التحمية في هواء العراق السياسي.
الزَّعم لكل من رئيس الحكومة السيد محمد شياع السوداني و “البارتي” بأنَّ العودة هي لأغراضٍ انتخابيَّة، لا يتفق مع تطنيش الأول و المقذوفات الإعلامية المُنخفضة الشِّدَة للثاني عن دوميز، و الأحداث التي تراكمت في كركوك منذ بداية أوغست الماضي، مؤدية إلى المزيد من الأحداث المؤسفة في نهاية هذا الشهر الساخن. “البارتي” اختار بدايات سبتمبر الحالي، لاستخدام مدافع الشاشات الفضائية و منصات السوشيال ميديا، لقصف الرافضين لعودته إلى المدينة.
تطنيش رئيس الحكومة، انتهى في الـ 3 من سبتمبر، بإصدارِ مروحة قرارات، لتبريد هذه المحافظة الساخِنة بالقوميات و النفط. كان منها اقتراح تسليم هذا الحزب الكبير مقراً آخر غير “المقر المتقدم”؛ الذي يقع على طريق كركوك – أربيل، و بقاء هذا المقر السابق لـ “البارتي” تحت سيطرة قيادة القوات العراقية المشتركة. كذلك صبَّ رئيس الحكومة بعدها مزيداً من الاسمنت المُسلَّح على اقتراحه، بالإعلان عن منح 500 مليار دينار شهرياً لحكومة كردستان العراق التي يُديرها “البارتي” حالياً، و رشِّ المحكمة الاتحادية الماء على هذا الاسمنت، بقرار إيقاف تسليم المقر المتقدم “حِفاظاً على السلم الأهلي”.
ادعاء “البارتي” بأنَّه يبحث عن عودة سياسيَّة لا أظافر أمنية فيها، لا يتفق مع وقائع الزمن القريب. مثلاً تقرير “هيومن ووتش” في 2014، أشار إلى قيام الحزب بعد مضي شهور من الصراع مع داعش، بتفريغ القُرى العربية المحيطة بكركوك من السكان، مستعيراً أسلوب كهرمانة.. وضع إشارات على البيوت العربية بدل الجِرار، لتخليلهم كنازحين، و اعتقال آخرين في سجون كردستان العراق. طبعاً، هذا إذا أردنا تناسي حضور يده الأمنية و المخابراتية الثقيلة.. الأسايش و الباراستن. الحزب يتهمُ الرافضين لعودة قوات البيشمركة الخاصَّة به إلى كركوك، بأنهم ليسوا من أبناء المدينة و إنَّما ميليشيات إيرانية تحديداً ميليشيا عصائب أهل الحق.
عودة “البارتي” إلى كركوك، تأتي لضمان دعاية حزبية ذات أجراسٍ قوميَّة له، بأنَّه لم يخسر كركوك، و بالتالي تمزيق حظوظ منافسه “اليكتي” الاتحاد الوطني الكردستاني التي تسير في عربة حلفائه من “الإطار التنسيقي”. النتيجة، ما حققهُ منافسنا بخيانة استرددناهُ بكرامة. تهمة الخيانة هي الذيل الإعلامي الذي يلصقهُ ” البارتي” بمؤخرة كُل سياسات “اليكتي” مع بغداد.
جمال هذا التفسير مملوء بالسليكون الإعلامي رغم جانب الصواب فيه. لكن هذا السيليكون كما يبدو غير قادر على مجاراة حاسة الشم الحادة لأنف “البارتي” فيما يتعلق بمطابخ القرار الإقليمية و الدولية. هذا الأنف التقط في الـ 16 من يوليو الماضي، ممكنات زيارة السوداني إلى دمشق، و التي كان منها الاتفاق بشكلٍ مبدئي على تفعيل انبوب كركوك – بانياس النفطي، كبديلٍ محتمل لأنبوب النفط الواصل بين كركوك – جيهان، و تفكير بغداد أيضاً ببديلين آخرين هما كركوك – العقبة و تفعيل الممر الاستراتيجي بين البصرة – كركوك. عليه فإنَّ الضغط على بغداد سيتحوَّل إلى زرزور لا بد من اتفاقه مع عصفور المصالح التركية للطيران بعيداً عن قفص “البارتي”.
بارود الرصاص التحذيري الذي انطلق من بندقية البيان المشترك لوزيَّريْ خارجية تركيا و إيران في الـ 4 من سبتمبر فيما يخصُّ كركوك ” ندعم التمثيل المتساوي لجميع مكونات المجتمع في المدينة”، ساهم أيضاً في إطالة ساعات عمل أنف “البارتي”. أمّا تحذير الوزير التركي هاكان فيدان من تصاعد “نشاط البككة في كركوك”؛ فقد دفع الحزب للتلويح بكركوك كـ ” قنبلة موقوتة”.
“البارتي” و في نفس اليوم.. أي الـ 4 من سبتمبر، استخدم ضابطاً رفيعاً متقاعداً من البيشمركة كرسالةٍ زاجِلة، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، للإعلان عن إمكانية زيادة عدد ألوية البيشمركة إلى 28 لواءً، و الاستعداد بشكلٍ حقيقي هذه المرَّة لتوحيد قيادة هذه الفصائل بعيداً عن تدخلات “البارتي و اليكتي”. و بالتالي المُطالبة بحلِّ قضية كركوك فيما بين سطور هذه الرسالة الزاجِلة.
الحزب يعاني سورياً أيضاً من موقف واشنطن الذي بدا وسطاً، في النزاع الأخير ما بين العشائر العربية في دير الزور و قوات سوريا الديمقراطية “قسد”. الاقتتال قد يؤدي إلى قطع ذراعه السياسي هناك.. تحديداً المجلس الوطني الكردي، و المُسيطر عليه من قبل نُسختيه السوريتين اللتين تحملان نفس الاسم “الحزب الديمقراطي الكردي”، لكن الثاني يُشير إلى نفسه اختصاراً بـ “البارتي”. سببُ وجود هاتين النُسختين إن الأولى ترى ضرورة الاتفاق مع الحكومة السورية، أمّا الثانية فهي بالضد من الاتفاق مع دمشق!
موقف واشنطن الوسطي، يبدو تجربة ميدان؛ فـ “قسد” ليست مقبولة من جميع الأطراف المُنافِسة للولايات المتحدة في سوريا. العشائر العربية في مشهد شرق الفرات و غربه تبدو خياراً أفضل، و تركيباً أكثر مرونة لاستخدامها كخطوط حمراء مع أنقرة، طهران، و مع لاعبين محليين مثل كردستان العراق. أمّا بالنسبة إلى نزع سلاح المعارضة الإيرانية الذي تُطالب به طهران و يتردد “البارتي” بتنفيذه فهو يُحتِّمُ علينا الاستعانة بالتاريخ. السكرتير العام الأسبق للحزب الديمقراطي الكردي في لبنان جميل محو زَعَمَ في مُذكَّراته ” إنَّ معظم المقاتلين في صفوف بيشمركة العراق هم من أكراد إيران”. محو كان يتحدث عن السنوات التي امتدت من 1961 إلى 1975، و التي تسميها الأدبيات العراقية الكردية بـ “الثورة”. المؤكَّد أنَّ التاريخ لا يُعيد نفسه كردياً.. و الله أعلم.
المُفارقة إنَّ دخول “البارتي” إلى كركوك حدث بعد استلامه الضوء الأخضر من قبل النائب وصفي العاصي، رئيس تحالف “العروبة” المُشكِّل من تحالف الجبهة العربية الموحدة و تحالف “العزم” الذي ترعاه ميليشيا العصائب، مما دفع رئيس الجبهة التركمانية حسن توران إلى التلويح بمقاضاته. ما حصل يؤكد إنَّ “البارتي” خسر ثمن جهود تلميع النظام في واشنطن، من خلال فُرشاة كلمات عضوه البارز و وزير خارجية العراق الحالي فؤاد حسين في فبراير الماضي. كلمات الوزير كانت مؤثِّرة و الدليل كركوك.
جماعة “الإخوان المسلمون” في العراق حاولت مع نائبٍ سابق في البرلمان العراقي و محلِّل سياسي حالياً، التذكير بدور مسعود بارزاني المُشرِّف في استقبال العراقيين النازحين من مناطق البلاد الغربية، و الفارين من “داعش” بعد أن قيَّدتهم بغداد بسياسة “الكفيل” على جسر بزيبز. لكن القول “لولا بارزاني ثُمَّ عون الباري لما بقي سُّنة في العراق” كان أسلوباً راقياً جدَّاً ولا يتناسب مع أخلاق التحالف مع طهران، ولم يُقدِّم خدمة سياسية رفيعة لرئيس حزب “تقدم”، تعوِّضُ موقفه نصف الجالس و نصف الواقف من رجوع “البارتي” إلى كركوك “نحن مع عودة الحزب لكن بطريقة قانونية و بدون صدامات سياسية”.