ربما لا يمكن لعقلنا البشري القاصر أن يتخيّل عظم وحجم الأحداث من حولنا لاسيما وأنها تحمل بين طيّاتها عمليات تحوّل يصعب على عقولنا البسيطة إدراكه وتفسيره وفق أحكام المنطق الذي تألفه، وأزعم أنه ليس هناك مركز دراسات أو مؤسسة فكرية قادرة على توقّع الأحداث التي أضحت واقعاً ملموساً اليوم ولو قبل أيام قليلة من وقوعها.
بالأمس القريب كنّا نتحدّث عن سيطرة المشروع الإيراني على المشهد في الشرق الأوسط، وكانت إيران تفتخر بمحورها وهلالها الذي بات واقعاً على العالم أجمعه التعامل معه..
وبالمقابل كانت ولا زالت (إسرائيل) تتحدث عن مشروعها الكبير الذي يتعامل معه البعض باعتباره أمراً مسلّماً به ولا مجال لمناقشته أو التفكير في مواجهته، بل يطرح السيناريوهات التي من الممكن أن تتعامل معه وتستوعبه بل وتستفيد منه.
وليست سوى أيام، حتى باتت إيران مشغولة بنفسها تلملم ما لها من عناصر وشبكات استخبارية موزّعة في بلدان المنطقة بعد أن أصبح اصطيادهم أسهل من اصطياد العصافير، فيما باتت تخبئ القيادات والرموز السياسية والأمنية خشية استهدافهم.
أما (إسرائيل) فإنها وإن بدت اليوم بالنسبة للبعض في أقوى مراحلها، إلاّ أن الدراسات والإحصاءات تشير إلى أن الأمور في داخل الكيان ليست على ما يرام، فالوضع الداخلي في انقسام وصورة الدولة التي لا تهزم حطمتها أحداث السابع من أكتوبر والديون في تزايد ولا نصر حقيقي على الأرض، فحماس لا زالت تقاتل في غزة وحزب الله لا يزال قادر على إطلاق الصواريخ واستهداف المستوطنات (الإسرائيلية) فيما تجمّد مسار التطبيع مع دول المنطقة.
هذه الأحداث هي ليست الأولى على الإطلاق، بل إن التاريخ حافل بقصص صعود وهبوط الدول منذ بدء الخليقة، فإين الإمبراطورية الرومانية وأين الإمبراطورية الفارسية وإين الحضارات البابلية والآشورية وما قبلها. كلها اندثرت ودفع بعضها بعضاً.
فبالعودة لمئة سنة خلت فإننا سنجد الحال نفسه، فمع بداية القرن كانت بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وكانت الإمبراطورية العثمانية تمتد سيطرتها لداخل العمق الأوربي وفرنسا وإيطاليا وألمانيا فيما كانت الولايات المتحدة دولة حديثة النشأة يرفض شعبها الإنخراط في الشؤون الدولية، ثم ما لبثت الحرب العالمية الأولى أن تقع لتتفكك الدولة العثمانية وتتحول ولاياتها لمغانم يتقاسمها المنتصرون في الحرب وهزمت ألمانيا شر هزيمة وعاد شعبها عقوداً إلى الوراء.
سنوات وتندلع الحرب العالمية الثانية، وهنا انقسم العالم إلى دول الحلفاء ودول المحور ولنتخيّل عالماً لا تلعب فيه أمريكا إلاّ دوراً ضئيلاً، فالمشهد السياسي الدولي تسيطر عليها بريطانيا وفرنسا، وبالمقابل كانت دول المحور تمثلها ألمانيا وإيطاليا واليابان.. سنوات وتنهار ألمانيا ويحتلها الحلفاء وتخرج الدول الكبرى منهكة بسبب الحرب.. ولتبدأ تلك الدول في التخلي عن الاستعمار المباشر بعد أن بدأت قوتها في التراجع.
بالمقابل أندفعت إلى الواجهة دولاً أخرى تتمثل بالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وهنا صعد نجم الشيوعية حتى باتت الأحزاب الشيوعية إحدى أهم التشكيلات السياسية في البلدان العربية والإسلامية، وإلى جانبها تيارات قومية ووطنية أخرى، أما التيار الإسلامي فكان يوصم بالرجعية والتخلّف وأضحت المظاهر الإسلامية مظاهر غريبة غير مقبولة على المستوى المجتمعي.
دخلت الولايات المتحدة في حرب باردة مع الاتحاد السوفيتي تخللتها بعض المواجهات غير المباشرة هنا وهناك المصحوبة بضبط النفس بعد أن امتلك كلا الطرفان السلاح النووي، لكن كل طرف كان يحيك خيوط المواجهة مع الطرف الآخر لينهي وجوده ولو معنوياً.
سنوات ويعلن أنهيار الاتحاد السوفيتي بلا رصاصة واحدة، الاتحاد بات عاجزاً عن معالجة مشاكله الداخلية لاسيما على المستوى الاقتصادي.
حجم المفاجأة أذهل الجانب الأمريكي الذي كان يحيك المؤامرات ليلاً ونهاراً لتفكيك الاتحاد السوفيتي لكنه تفاجأ بسقوط السوفييت لينفرد الأمريكان بصدارة المشهد في السياسة الدولية.
ثم اليوم نرى عودة الروس -الوريث الأهم لتركة الاتحاد السوفييتي- ومن الشرق في آسيا نجد الصين لتبدأ في تصدّر المشهد إلى جانب الولايات المتحدة.
هذه التحولات الدراماتيكية على مستوى العالم لا يمكن تفسيرها بمعزل عن إرادة القوة المسيطرة على هذا الكون والحاكمة له بسننها ومعاييرها، ألا وهي إرادة الله (عز وجل)..
إن سنة التغيير ليست بجديدة على هذا الكون المحكوم بنواميس وقوانين الله (عز وجل) وهي ذاتها التي تكلم عنها أبن خلدون في مقدمته عندما أشار إلى أطوار الدولة، إذ شبهها بالأطوار التي يمر بها الإنسان في حياته بدءاً بالطفولة ومن ثم الفتوّة والشباب وصولاً إلى مرحلة الشيخوخة والنهاية.
وهكذا كان الأمر بالنسبة للدول ما بين صعود وهبوط على مدار التاريخ، فالإمبراطورية البريطانية بدأت وانتهت وكذا فرنسا النابليونية والاتحاد السوفيتي وهو بلا شك مصير الهيمنة الأمريكية التي بدأنا نشهد تراجعها في السنوات الأخيرة، والمشروع الإيراني لم ولن يكون بمعزل عن ذلك.
مشكلتنا الحقيقية أننا وبسبب المادية التي سيطرت على عقولنا وتراجع علاقتنا بالله (عز وجل) وبكتابه وبحثنا عن الحلول في كتب أخرى تحكمها القوانين المادية في الحياة من حيث القوة والتأثير فإننا بدأنا نتعامل مع متغيرات الحياة من منطلقات قد تتعارض مع نواميس الكون التي شرعها الله (عز وجل)، لكن الحياة ما تلبث أن ترينا تلك القوانين جهاراً لتذكرنا بالحقائق ففي كل حدث عبرة وذكرى يقول ربنا سبحانه وتعالى (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
هذه المشكلة نتج عنها عجزنا عن التعامل مع هذا التغيير، بالتالي نجد أمواج الأحداث الدولية تتجه شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً حاملةً معها تحولات كبرى فيما نكتفي على المستوى الشخصي والدولي بموقف المتفرّج المترقب أملاً في أن تنتج هذه الأحداث ما يحقّق مصلحته، إن القوى المساهمة في عملية التحوّل والتغيير لها أجندتها الخاصة ورؤيتها بالتالي فهي عندما تراقب فهي تضع أمامها أهدافها التي تحاول توظيف عملية التغيير في صالحها.
فالولايات المتحدة تترقب الوضع في سوريا وكيف يمكن تطويعه لما يخدم مشروعها لا مشروع العرب والمسلمين وكذا روسيا وفرنسا وهكذا الدول الكبرى تباعاً.
أما نحن فللأسف لازلنا نعتقد أن الحل قد يأتي من الشرق أو من الغرب لمعالجة ما نعانيه من أزمات على المستويات كافة وهذا لم ولن يكن في أي وقت من الأوقات.. ولنتذكر دائماً:
(إذا لم تكن تمتلك خطة فإنك ستكون بلا شك جزءاً من مخططات الآخرين)
ولنا في نظام الأسد عبرة وكيف وظّفه الروس والإيرانيون لمدة زمنية معينة ثم ما لبث الجميع أن تخلّى عنه بعد أن أضحى لا يعبر عن تطلعاتهم ليترك لمصيره المشؤوم..