22 ديسمبر، 2024 5:52 م

أنا أحب الصيف بحرارته ولهيب شمسه !.
عبارة ردّدتها جادّاً وما أزال ، فتثير التعجب والإستغراب لدى الأصدقاء .
أحب هذا الفصل إلى حد الشعور ببعض الحزن حين تلوح بوادر رحيله .
ألحّت عليّ هذه الكلمات لأكتبها مع صباح ( الفاتح من أيلول )، كما يعبّر إخوتنا الليبيون،حين نكون قد غادرنا الأشهر المصنفة ضمن أشهر الصيف وصرنا على أعتاب الخريف .
حب الصيف يرتبط بذكريات الطفولة وبواكير الشباب التي نحنّ إليها .
الصيف في خاطري استعادة للعطلة الصيفية حيث تنتهي سنة دراسية ونودع معها محطة دراسة واختبار وتعامل إلزامي مع بعض مواد الدراسة التي لا نميل إليها بحكم التكوين النفسي والإجتماعي والتربوي .
الصيف استذكار لليالي النوم على سطوح المنازل يوم كان كثير من الدور يخلو من مبردة الهواء ، ناهيك عن المكيفات .
في الصيف كان انتظامنا ورفاق الطفولة في شلل تجد متعتها في الجلوس في الظل على رصيف أحد أزقة الحارة والحديث الذي لا ينتهي عن الآباء وبرامج التلفزيون وآخر الأخبار وأماني المستقبل .
في الصيف كانت فرصة الذهاب والأصدقاء إلى السينما لمشاهدة عروضها الصباحية عند الساعة العاشرة .
وفيه فرصة الإستمتاع بضفاف دجلة ومياهه واللهو على رماله حين ينحسر الماء وتظهر( الجزرات ) وتنتشر ( الچراديغ ).
وفي أوله يحلو للناظر مشهد سلال التوت والمشمش ثم التين عند أطراف البساتين ويطيب مذاقها في الأفواه . وفي وسطه يكون مشهد الرطب الذي نضجت أنصافه مثيراً للشوق إلى حلاوته وإلى تناغمه مع ( طاسة الفافون ) الممتلئة باللبن البارد .
وفيه كانت تنتصب مسقفات بسيطة موقتة تُصنع من القصب أو سعف النخيل يباع فيها (الرقّي ) الذي يجد فيه الفقير ، مصحوباً بالخبز وجبةطعام لذيذة .
وفيه تفوح في البيت رائحة الريحان والكراث ليطيب معها مذاق ( عروگ الطاوة ) الساخن الذي تعدّه يد الأم الحنون بعناية ونفس طيبة .
وفيه تخرج (كرويتات) مقاهي الحارة إلى الأرصفة والساحات في الأمسيات فيحلو منظرها في أعيننا حين نمر بها ونشاهد آباءنا يمارسون ألعاب اللهو البريئة بانسجام واستمتاع وأصوات أحجار الدومينو تتعالى من الموائد حتى انتصاف الليل ، وحول المقاهي يجد الباعة المتجولون المكان المناسب لعرباتهم متخذين منها مطاعم متنقلة ، باحثين عن الرزق الحلال من خلال أسياخ ( الكباب والتكّة والمعلاگ ).
وعلى ضفاف دجلة، عند شارع أبي نؤاس الخالد ، كانت تتجاور المقاهي الصيفية ومطاعم السمك المسكوف وتتناهى إلى أسماع المارة أجمل الألحان .
وفيه كان يجول بائعون آخرون يدفعون عرباتهم المعبأة بالثلج الذي يغمر قطع المرطبات المثلجة ( اللكي ستيك ) أو القدور الملآى بمرطبات لذيذة نصف مجمدة يطلقون عليها ( الأزبري ).
وفيه كان يحلو لعب الكرة دون انتظار غروب الشمس في ملاعب ترابية ، وكان بعضنا أثناءها حافي القدمين !.
فيه كان بائع الثلج يتخذ مكاناً لمخزنه ( الكشك ) في الحارة ، ومنه ينطلق بدراجته الهوائية ليوصل قالب الثلج أو نصفه الذي يقصه بالمنشار ، أو حتى ربعه أحياناً ، إلى هذه الدار أو تلك مؤكداً أن خدمة التوصيل ( Delivery )عريقة في بغدادنا !.
وفيه كان آباؤنا وأمهاتنا يرددون مثلاً سائراً يقول “الصيف معاش الفقير”، لكن الذي يبدو أن كونه معاشاً للفقير قد انتهى مع انتهاء مرحلة من أروع مراحل حياة جيلنا .
يسعدني أنني وجدت نفسي ، في مهجر الغربة، في مدينة قامت على رمال وصخور صحراء يتشابه صيفها وصيف بغداد فأواسي أصدقائي الذين يعيشون غربتهم في مدن الشمال بين الصقيع وكآبة شتاء طويل .