كثر الحديث في ظروفنا الحالية عن ثورة الرابع عشر من تموز للعام 1958والتي اسقطت النظام الملكي وأسست اول جمهورية فتية في تاريخ العراق السياسي المعاصر, ثم أطيح بالثورة في 8 شباط عام 1963 عند استلام البعث للسلطة وبعدها تحول العراق الى مسرح للأنقلابات والمؤمرات العسكرية والمخابراتية والحزبية وكان آخرها قبل الأحتلال الامريكي للعراق هو انقلاب 17 تموز للعام 1968 الذي أتى بالبعث مجددا للسلطة. وكان الحديث عن ثورة تموز يتداوله بصورة خاصة فريقين: فريق انصار الثورة وحلفائها ومؤازيريها يها والذي يرى ان الانقلاب على الثورة سبب في اهدار فرص تاريخية للعراق واستقراره وتقدمه وازدهاره نعاني منها الى اليوم, والفريق الآخر يرى أن في ثورة تموز هو عمل انقلابي عسكري أسس لمسلسل الانقلابات اللاحقة والذي قطع الطريق على التجربة الملكية الناشئة في الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.
أذا كانت الشعوب هي التي تزكي أنظمتها او تحجب عنها الشرعية فأن ثورة 14 من تموز/1958 تمتعت منذ انطلاقتها الأولى وحتى نهايتها على يد النظام الأنقلابي البعثي الفاشي في 8 شباط/1963 بزخم جماهيري هائل واستعدادات ذاتية للدفاع عنها, ولم يكن موقف الشعب العراقي انذاك موقفا انفعاليا عابرا بل استند الى مجمل المعطيات الأقتصادية والأجتماعية والأنسانية العامة التي كان برنامج الثورة يتبناها ويسعى الى تحقيقها وكانت بمجملها تستجيب لمطالب الشعب العراقي في تحسين ظروف العيش والحياة العامة والسيطرة على ثروات البلاد بعد ان أخذ الفقر والبؤس والعوز والفساد مأخذه في حياة الناس في الحقبة الملكية وبالتالي كانت الثورة استجابة لتفاعلات العوامل الذاتية والموضوعية التي وصلت ذروتها في رحم النظام الملكي. وقد كانت للثورة انجازات كثيرة وأهمها القضاء على الإقطاع وإلغاء قانون دعاوى العشائر وإصدار قوانين عادلة كثيرة مثل قانون الأحوال الشخصية وقانون الإصلاح الزراعي وقانون مجانية التعليم وقانون تأميم النفط وكذلك التطور الملموس في الاعمار والاسكان والصحة وعموم الخدمات قياسا بعمر الثورة التي لم تكمل الخمس سنوات.
ومن اراد ان يطلق تقيما لثورة 14تموز اليوم عليه ان يقيم ذلك الحدث ضمن خصوصية الزمان والمكان الذي وقعت فيه الثوره واعتقد سيسعفنا منهج البحث التاريخي وادواته في وضع الثورة في سياقها الذي نشأت فيه, وبالمقابل أن من يمجد الملكية العراقية اليوم عليه ان لا يتأثر في تقيمه بنموذج مملكة السويد أو الدنمارك او المملكة البريطانية ويتخذها محكات لأضفاء الهالة على المملكة العراقية, فالملكية في العراق كانت تعكس في طبيعتها تحالفات الأقطاع والعشائر مع سلطة الكومبرادور. كما ان الباحث الموضوعي في هذا الشأن عليه ان يقتفي اثر منهجية البحث العلمي الشاملة في الاحاطة بالظاهرة وملابساتها ومراحل تشكيلها, فعندما تنتقد جوانب عديدة في مسار ثورة تموز القصير عليك انسانيا ان لا تبارك الانقلاب عليها وتشجع على سفك المزيد من دماء الابرياء, او تسكت عن عقود لاحقة من الحروب والظلم الاجتماعي التي سببها نظام البعث الى ما قبل سقوطه في 2003 على يد المحتل الامريكي.
اما ما يشار الى الظواهر اللاانسانية التي حدثت في بداية الثورة من سحل وقتل وتعذيب لرموز النظام الملكي فهي ظواهر يندى لها الجبين وغير مقبولة قيميا واخلاقيا وانسانيا وان السلوك الوحشي اتجاه من يعارضك مرفوض جملة وتفصيلا, ولكن للامانة التاريخية وهناك وقائع جرت في العهد الملكي فاقت اضعافا مضاعفة حجم ضحايا ثورة تموز ” ان صح التعبير ” وان اعداد من سقطوا في ظل النظام الملكي ” على سبيل المثال لا الحصر ” في مدينة الحي الصغيرة لوحدها عام 1956 أو في سجن الحلة أو في انتفاضة 1948 يفوق ما حدث في 14 تموز. عدا عن المجزرة التي ارتكبت ضد عمال النفط المضربين في كركوك، وعمال النفط في البصرة، ووثبة كانون عام 1948 ضد معاهدة بورتسموث، وانتفاضة تشرين عام 1952 في بغداد، ومجزرة عام 1933 ضد الآثوريين في الشمال والتي ذهبت ضحيتها في اقل التقديرات خمسة آلاف ضحية, الى جانب الاعدامات والتصفيات الفردية للكثير من القيادات السياسية المعارضة والنشطاء السياسيين. الى جانب الرعب اليومي للاجهزة السرية والمخابراتية.
اما اعمال العنف والتصفيات الجسدية لرموز النظام الملكي ولاحقا لرموز اول جمهورية فأنها تعبر جليا عن سلوكيات القطيع الخطيرة في المنعطفات التاريخية واكثرها خطورة تلك التي يغذيها خطاب الثقافة الشوفينية والعنصرية الذي يشدد من قبضة الكراهية واستباحة الدم والتحريض على القتل. ان مرور 61 عاما على ذكرى الثوره واستعصاء أزمة الحكم وعدم المقدرة على حل المعضل السياسي وعدم وجود انجازات في الحاضر جعل الناس اكثر نكوصا وتقهقرا وعودة الى الماضي للبحث في ثناياه بما يشبع رغبتنا في الأنجاز ولعل الأفراط في الحنين الى الملكية واعتبار كل ما حصل فيها هو مثالي ويجب استذكاره وتكراره هو مؤشر لأحباطات الحاضر وعدم القدره في ألتماس افق مستقبل افضل. اما الهجومات هنا وهناك على ثورة تموز فهي اسقاط سيكولوجي بأمتياز في تحميل الآخرين فشل المنظومات السياسية التي أتت ما بعد الثوره الى يومنا هذا حيث خاتمتها الأحتلال الأمريكي واسقاط الديكتاتورية عبر الأحتلال والذي اسقط الدولة ومؤسساتها ولم يسقط النظام ومنظومته الأخلاقيه.
ان البحث المحايد نسبيا في ثورة 14 تموز عام 1958وتناولها في اطار الظروف الوطنية والاقليمية والدولية التي نشأت فيها يضعها في مكانها الصحيح, ولا يمكن لنا ابدا تقيم الثورة انطلاقا اليوم من اسقاط ظروف الحاضر المتغير ومطالبة الثورة ما يجب ان تكون اليوم عليه فهذا مغاير لسنة الحياة المتجددة بدون انقطاع وخاصة في السياسة, ولكن بما لا يقبل الجدل كان قائد الثورة الشهيد عبد الكريم قاسم وطنيا مخلصا ومحبا لشعبه بفطرته الخالصة, اراد الخير للعراقيين ولكن الشوفينية القومية والتعصب الاعمى والاستحواذ على السلطة لم تدعه يكمل مشواره. كل بلاد العالم وخاصة المتحضر منه تحترم ثوراتها الوطنية والتحررية رغم اختلافاتهم في تقييم الاحداث ولكن يبقى الاعتزاز برموزها قائما الى اليوم وكل حسب ادائه ومهمته في ظروف تختلف نوعيا عن ظروف الحاضر.
بالتأكيد ان الحديث عن عبد الكريم قاسم اليوم في العراق وخاصة بعد سقوط النظام الدكتاتوري ومرور 16 عاما على ما يسمى النظام الديمقراطية في العراق هو الآخر ذو شقين: الاول يدعو الى الاستفادة من دروس الثورة لأصلاح الحياة العامة في العراق والوقوف ضد الاحترابات القومية والمذهبية التعصبية والشوفينية التي حرفت مسار ثورة الرابع عشر من تموز ويدعو هذا الفريق ايضا الى الذهاب بعيدا وجديا في تنفيذ مشروع الاصلاح الشامل في منظومة الحكم الفاسدة ودرء خطر عودة داعش مجددا, وفريق لا يستطيع تجاوز اخطاء الثورة التي حصلت والارتقاء ببدائل التفكير المنتج لأعادة صياغة الحاضر في مستجدات العصر وضروراته وشعارهم دوما: ” لو مو عبد الكريم قاسم لكان أحنة هسه بنعيم الملكية “. انها فعلا ازمة فشلنا في استثمار الماضي ايجابيا وصعوبتنا في بناء حاضر ومستقبل افضل ..