23 ديسمبر، 2024 5:29 ص

أتحدث عن لبنان وأريد العراق

أتحدث عن لبنان وأريد العراق

عندما انتخب البرلمان اللبناني قبل ستة أشهر ظل فترة طويلة غير قادر على إصدار بيانه السياسي الأول الذي يعبر عن أولوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وذلك لأن أعضاءه ليست لهم رؤية محددة عن تلك الأولويات والصحيح هو إن لكل منهم أولوياته المتعارضة مع أولويات الآخرين . ولا زال البرلمان اللبناني عاجزاً عن انتخاب رئيس للدولة بسبب الخلافات السياسية بين أعضائه . نفس الأمر تقريبا حدث هنا في العراق في الدورة السابقة عندما استغرق تشكيل الحكومة أكثر من خمسة أشهر وظل منصبا الدفاع والداخلية شاغرين حتى نهاية الدورة وكذلك الأمر بالنسبة لغالبية مؤسسات الدولة التي ظلت تدار بالوكالة طيلة الفترة الماضية لأن البرلمان لن يوافق على تعيينهم بسبب الخلافات والصراعات الطائفية والسباق على المناصب.

في لبنان تحافظ الدولة على وجودها فقط بسبب الإرادات الدولية التي تقتضي مصالحها بقاءه ولولا ذلك لتشظى البلد إلى دولة في الجنوب ودولة في البقاع وأخرى في جبل لبنان وأخرى في شماله وربما تنشأ أخرى هنا وأخرى هناك. كل طائفةٍ أو حزبٍ أو عائلةٍ لها دولتها الخاصة بها.

كذلك الأمر في العراق إذ إن هناك إمكانية لتشظيه إلى دويلات عدة لولا الإرادة الدولية فالكرد مهيئون تماما وراغبون بشدة في إقامة دولتهم لا يمنعهم من ذلك إلا الإرادة الدولية والظروف السياسية غير المؤاتية لإقامتها . وفي المحافظات الغربية هناك أصوات كثيرة تنادي بالأقاليم وهناك من يرغب من الحركات السياسية الطائفية السائدة هناك في إقامة دولة. وفي الجنوب كانت المطالبة بالإقليم ترد دائما على ألسنة السياسيين الذين يقولون إنهم يمثلون تلك المناطق ، إلا أن هذه المطالب خفت بعد أن أحكم أولئك السياسيون قبضتهم على السلطة. ولا زالت بعض الأصوات تتعالى في البصرة مطالبة بإقليم لها يكون غنياً جداً لأنه يحوى أكبر حقول النفط في البلد ولديه الموانئ ويجاور دول الخليج التي يرغب بعضها في تشظي العراق واختفاءه من الخارطة و و و..

في لبنان تمسك بزمام السلطة أحزاب طائفية متعددة تستمد عوامل وجودها وبقائها من دعم أجنبي متعدد الأشكال. وهذا يصدق عليها جميعاً ، كل منها يتكئ على جهة خارجية تدعمه وتمده بكل أسباب البقاء المادية والسياسية والإعلامية ، والعسكرية إن اقتضى الأمر !!!!!!.

أما الأحزاب التي تريد الحفاظ على هويتها الوطنية والتي تريد القفز على طائفية النظام السياسي والحفاظ على هويتها الوطنية واستقلالها فإنها ضعيفة لا تقدر على مجاراة الأحزاب القوية المدعومة من الخارج والتي تمسك بزمام السلطة وتتحكم في اقتصاد البلد.

هل يختلف الأمر في العراق؟ كلا…. نفس الكلام يصدق على الأحزاب التي تمسك بزمام السلطة. يقولون إن أعضاء مجلس النواب يتناولون هواتفهم النقالة عند طرح أي موضوع هام تحت قبة البرلمان ليتصلوا بالجهات التي ( تنصحهم ) أو التي( تدلهم ) أو التي ( تأمرهم) باتخاذ الموقف المطلوب حيال القضية المطروحة.

إن السبب في ذلك كله هو الطائفية التي أقيم عليها وعلى أساسها النظام السياسي في العراق. فالطائفية لا تبني دولة. في لبنان مضت أكثر من ستين سنة على تأسيسه ولم تتمكن الأحزاب الحاكمة من بناء دولة متكاملة الأركان قائمة بذاتها ، بل هي دولة ظلت تتعرض للإنفجارات و في أحسن الأحوال هي قاب قوسين أو أدنى من الانفجار. الدولة هناك تضعف يوما بعد يوم وتفقد مقوماتها شيئاً فشيئاً. ولولا الإرادة الدولية لما بقيت لحد الآن ، لولا المصالح الدولية لابتلعها الجيران النهمون للتوسع.

وفي العراق نرى الدولة تضعف شيئاً فشيئاً وتفقد مقوماتها يوماً بعد يوم. أصبح كل حزب بمثابة دولة تعتمد في وجودها وقوتها على جهة خارج البلد . أصبحت هناك سلطات متعددة ومراكز قوى خارج سيطرة الدولة ، بل إن بعضهم يصرح علنا بالقول : ما هي الدولة ؟ نحن نعمل ما نشاء. لقد أصبحت دولة منخورة على شفير الإفلاس و لولا الإرادات الدولية لابتلعها الجيران النهمون للتوسع. يتندر العراقيون ، الذين هم على وعي سياسي عميق بسبب ما مربهم من أحداث جسام فتحت عيونهم على كثير من حقائق السياسة وخفاياها وألاعيبها، يتندرون عندما يتصدى سياسي للحديث عن شؤون البلد وشجونه لاسيما أيام الانتخابات، بالقول : على أية جهة يتكئ ومن أي أنبوب يتغذى ؟!!!!

والسبب هو طائفية النظام السياسي التي تجعل الولاء للطائفة وليس للوطن …والولاء للطائفة يقود بطبيعته إلى خارج الحدود . لقد غدا هذا الأمر طبيعياً عند كثير من السياسيين وأصبحوا يصرحون به علناً . بالرغم من أنه أمر معيب في المعايير الوطنية وفي الفكر السياسي المعاصر الذي غادر الطائفية منذ قرون.

مرت أكثر من ستين سنة ولم يعِ ساسة لبنان ذلك وهم لا يريدون إدراكه لأن مصالحهم الطائفية والفئوية والعائلية مرتبطة به ويدركون جيداً إن مغادرة النظام الطائفي ستلقي بهم خارج الحياة السياسية وربما خارج البلاد. وفي العراق مرت إحدى عشرة سنة ملأى بالدم والدمار والنار والجثث الممزقة والأشلاء والمفخخات والتهجير والتمييز والفقر والضياع وتمزق البلد ولم يدرك الساسة الطائفيون إن الطائفية هي السبب في كل ذلك . وإن ذلك لن ينتهي إلا بعد مغادرة الفكر الطائفي والنهج الطائفي والشد الطائفي.

مع إننا نعلم ان هؤلاء حتى لو أدركوا ذلك فإنهم عاجزون عن التغيير لأن الأمريكان والإنكليز الذي أسسوا لهذا النظام وصاغوه قد جعلوه غير قابل للتغيير إلا عبر نسفه من الأساس.