لم يوجه أبي الخصيب الدعوة لي لرؤية الجرافات وهي تقتلع نخيله وتخرّب أرضه , بل ذهابي إلى هناك وأنا أبحث عن ارض اشتريها . فرؤية واقع الحال هناك هو الذي أوحى لي بأن للقضاء حكاية مثيرة للاهتمام, لا ينبغي لأحد أن يدير ظهره لها. ففي موقع قريب له صلة بمعاداة النخيل وتخريب الأرض بدأ القضاء بسرد حكايته بطريقة التلميح بالصور التي لا يمكن أن يغفل عنها أي ناظر فأدركت أنه يحكي قائلآ:
” بزغت وتفشت من صلب الفساد وصمت الدوائر المعنية, وربما بسبب غفلتها, ظاهرة جديدة هي ظاهرة ” طمر جوانب العديد من الأنهار وتجريف الأراضي واقتلاع النخيل ” من قبل مستوطنين جدد نزحوا من بقاع مختلفة من المحافظة بشكل خاص وربما من محافظات أخرى من البلاد بشكل عام , لأسباب بيئية معروفة لدى تلك الدوائر وعامة الناس على حد سواء قد وقفت وراء هذا النزوح (=الهجرة).
الجدير بالذكر أن عددا من أراضي القضاء كانت من ممتلكات مواطنين تنحدر أصولهم من سكان الجزيرة العربية. استوطن هؤلاء منذ أمد بعيد في هذا القضاء لأسباب عديدة: أولا, أنهم كانوا أثرياء. ثانيا , انبهارهم بالطبيعة الخلابة التي تفتقر إليها بلدانهم الصحراوية . ثالثا, طيبة أهلها وأسعار الأرض الزهيدة آنذاك بالنسبة إليهم. من بين هؤلاء مواطنون سعوديون وكويتيون تملكوا العديد من الأراضي أثناء حقبة ما قبل استقلال الكويت سنة 1961.
سجلت هذه الأراضي بأسمائهم في دائرة التسجيل العقاري وبقيت حتى وقتنا الحاضر, ولكن بسبب ظروف شتى وأهوال عصفت بالبلاد وما أفرزته من آفة كبرى هي الفساد التي استشرت في مختلف مفاصل الحياة , إضافة إلى وفاة الكثير من هؤلاء المالكين ورحيل الباقي منهم إلى بلدانهم ما جعلهم يتركون أراضيهم عرضة للنهب والسلب رغم أنهم وضعوها تحت وصاية وكلاء من أهل المحافظة وفق إجراءات قانونية أصولية.
ولكن بعد سقوط النظام البائد, زاغت عيون الطامعين والحاسدين , وسال لعاب البعض من هؤلاء الوكلاء وانضمام نفر ضال من الفاسدين إليهم ممن لا يستحي من الله ليبدءوا لعبة الهجوم على أراضي الغير بالبيع والشراء بطريقة إصدار وكالة رسمية من قبل المالك الجديد الذي قام بتحويل الأرض باسمه إلى المشتري الجديد من مختلف الشرائح الاجتماعية.
الجميع يعلم أن العقود السابقة التي وثّقت الحروب والنزاعات والانتفاضات من ناحية , والتطور في ثقافات الشعوب جراء الشبكة العنكبوتية ومفاهيم العولمة الجديدة وتردي مستوى خط الفقر وعدم قدرة البعض على تخطي الجوانب السلبية التي أفرزتها على الرغم من وجود جانب أخر لا يأتي بالإثم إليهم ساهمت بشكل كبير في نشوء الفساد بكل أصنافه حتى وصل الحال إلى تبني البعض لأساليبه ذات الطابع الإرهابي.
هذه العوامل أضرّت بالمواطن والبلاد فجعلت الأول ضحيتها الأولى وجعلت من الثاني ضحيتها الثانية, بل وتجاوز الأمر حتى بلغ الأمن القومي الذي لا يفرق بين حماية المواطن وأراضي البلاد لتنال منه. لا يوجد من هؤلاء المستوطنين من لا يعرف القانون أو الشرع الإسلامي, فالتجاوز على ممتلكات الغير من دون وجه هو عمل باطل وتدميري لا يرضى به الله ولارسوله في الوقت نفسه “.
نعم ..لقد تم التنبيه إلى فساد الإجراءات الجارية والخاصة بتحويل الملكية في دائرة التسجيل العقاري على لسان مسئولين كبار في الحكومة المحلية من ناحية , ونفي هذه الإدعاءات من قبل
مسؤول تلك الدائرة من ناحية اخرى. لكن هل مزاعم المسئولين كانت من دون أدلة قاطعة حتى يجري نفيها ؟! وإن كانت تلك الأدلة واضحة مثل قرص الشمس كما يقولون فكيف يتم نفيها والسكوت عما ينبغي فعله؟!
المهم في هذه المقالة هو الإصغاء لحكاية أبي الخصيب الذي ألمح ثانية قائلا : ” إن أصحاب الأراضي الجدد الذين تقع أراضيهم على حافة الأنهار الصغيرة أو الكبيرة , عمدوا إلى طمرها إلى حد النصف الغرض منه توسيع تلك الأراضي على حساب الحق العام والمحرّم على الرغم من أن البائع يمنح المشتري مترا واحدا مجانا ليبتعد عن حافة النهر عند البناء. وهناك من يلجأ إلى تشييد قناطر إن لم تكن جسورا فوق تلك الأنهار ليصل أرضه بالضفة الأخرى التي يمتلكها ليجعلها مقاطعة له ليصرف بها ما يشاء من دون أن يولي اعتبارا لقوانين البلاد السارية.
المدهش في الأمر أن القائم به يدرك أنه يهين القانون ويحتقر الدولة ما يجعله يترك إحساسا لدى الآخرين من أنه رجل لا ينتمي إلى أي أساس ديني ليخلق نوعا من عدم الثقة به , بل واحتقاره وعدم التعامل معه والدعوة إلى مقاومته.
وهكذا فإن الوضع الحالي هو استغلال للضعف في إجراءات الدوائر الزراعية المعنية التي ينبغي أن تنظم عملية تخطيط وبناء الأراضي الزراعية التي تقع على ضفاف أو أوعية الأنهار وفق القوانين الخاصة بالملكية الزراعية السارية, أما خلاف ذلك فإن للطمر وضعف التخطيط تداعياتها السلبية التي لا يمكن تجاوزها على المدى القريب والبعيد .
فعلى المدى القريب, إن ذلك يجعل الدوائر المعنية في محل اتهام , كونها غير متحالفة مع الدولة وذلك بتعاطيهم الرشاوى لتحقيق مكاسب فردية على حساب المواطن والبلاد. كما وان تجريف النخيل من ناحية وطمر أوعية الأنهار إلى حد النصف بمادة السبيس من ناحية أخرى سيؤدي إلى تدمير الثروة الزراعية والى ضعف في تدفق المياه , لاسيما أن مادة الطمر الفائضة تندفع لتقترب من الضفة الأخرى مما يسبب الضيق لهذه الأنهار فتكون عرضة للدرن وتراكم النفايات . وفي حال كهذه , لا تستطيع مركبات النفايات الوصول إلى تلك الأراضي الهشة التي تحولت إلى مكبات.
أما على المدى البعيد , فإن تحويل الجغرافية الزراعية إلى نمط سكاني بهذه الطريقة سيزيد , حتما , من تلوث البيئة , لا سيما الهواء والمياه وهذه بحد ذاتها تشكل تهديدا للحياة بشكلها العام , بل وتتناقض مع أي شيء يرتبط بالملامح البشرية.
أما التكهن بمصير الأنهار بعد إعاقة وصول مكائن الكري إليها بسبب انعدام الغاطس فهو أمر سهل , إذ سيجري نهبها من قبل الآخرين تباعا, أما مكائن الكري فستتوقف عن العمل ما يجعلها تؤول إلى الصدأ والخراب. وستتفشى الفوضى في التعامل مع الأراضي الزراعية التي تحمل ذات المواصفات ما ينجم عنه تدمير جزئي وحيوي من اقتصاد البلاد رغم ترنحه.
ومن ناحية أخرى , فإن إشاعة هذا الأمر أمام الناس يجعلهم متعودين على خرق القانون وخلق انطباع يتطابق مع الفكر الإرهابي الذي يدعوا الى العبث والتدمير , وسيتم القضاء على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الباقية التي لم يجر ضمها إلى هذه اللعبة الشيطانية لحد الآن إن لم يتكلم أحد” .
توقف أبي الخصيب عن البوح ليسألنا في الختام سؤاله التالي: من إذن ينظم الحياة ؟ هل هي الدولة أم المواطن ؟