ظهر تيار الحداثة في أوروبا مع مستهل القرن العشرين كنتيجة لحركة من التمرد تفشت في أرجاء القارة الأوروبية منشأها فساد تسرَّب للحياة الاجتماعية و الثقافية والحياة السياسية. فرفضت الشعوب الهدوء والخمول الذي ساد مناحي الحياة لدرجة الإفساد؛ بسبب التقيُّد بأفكار واهية للحفاظ على صورة أمجاد بالية جعلت الحكَّام يخشون التغيير. وأسفر عن الاهتمام بالصورة مع الخوف من التغيير إلى إفلاس أخلاقي، مما حفَّز المفكرين والفنانين المعاصرين إلى التطلُّع لوسيلة لضخّ دم جديد في شرايين القارة؛ لصنع مجد تغلِّفه صورة جديدة. ومن ثمَّ، أعيد استكشاف الحضارات البدائية من وجهة نظر فنية، فتكونت ثقافة جديدة طرحت القديمة جانبًا، فقوَّضت التقاليد وامتدت لمقاليد السلطة. وازدهر التيار الحداثي في الفترة 1900-1930، وصار الأساس لقوام الحياة العصرية حتى وقتنا الحالي؛ لأنه يحثُّ على عدم الرضا والتمرُّد على القوالب الجامدة. علمًا، بأن التقدم هذا منشأه التنقيب في الحضارات الأخرى.
بيد أنَّ، الحداثة التي اعتبرها العالم تيار متمرد ومبتكر ليست استحداث وسبق أوروبي؛ حيث سبقهم العرب خلال الدولة العباسية، وخاصة في عصرها الذهبي (785-847). فبعد الفتوحات الإسلامية، وتملُّك العرب بقاع كثيرة من العالم، تمرَّدوا على حياة البداوة والغلظة، بعد التطلُّع إلى الحضارات الأخرى. فانفتاح العرب على الشعوب الأخرى، وخاصة على حضارة الفرس المترامية الأطراف أسست لنظام اجتماعي جديد جعل من الطبقية واللهو في حياة الترف والملذَّات عنوان. فهجر العرب العيش في منازل بسيطة أو خيام، وانبروا لسكن القصور والبناءات الفخمة، وارتدوا أبهى الثياب، وانفتحوا على طعام الدول الأخرى، فكثرت مجالس الشرب والسمر واللهو؛ وخاصة في بيوت الحكَّام. و كان يُزين تلك المجالس الشعراء والأدباء، فانعكس على فنونهم؛ رغبة لمسايرة التيَّار المتقدم. وعلى النقيض، ازدهر تيار التصوُّف والزُهد كرد فعل مناويء لابتعاد الشعب والحكَّام عن تعاليم الإسلام الحنيفة.
وبما أن الشعر من أسمى أنواع الفنون في ذاك العصر، فجاء وليدًا لتلك البيئة الحداثية، متمرِّدًا على موضوعات الشعر القديمة ومُبتكرًا لبنية حديثة للقصيدة امتدت للألفاظ والتراكيب. ومن الجدير بالذكر، أن الشعر أصبح وسيلة للتعبير عن حياة الفرد، فتنوعت موضوعاته بين الغزل والمدح والهجاء والسخرية والترف.
وروَّاد التيار الحداثي في العصر العباسي بشَّار بن بُرد(96- 168) وأبو نُوَّاس (145-198)، اللَّذان اتخذا من التجديد مذهبًا صريح، لكن الاختلاف فيما بينهما يكمن في أن بشَّار بن بُرد مدفوعًا بعوامل نفسية تحثَّه على التجديد للمواءمة بين أشعاره ونزاعات عصره، أما أبو نوَّاس فكان يعمد إلى التجديد ويصنع منه تمردًا صريحًا ذو أهداف واعية. ولم يألو جهدًا في الدفاع عنه. وعمل أبو نوَّاس على صياغة نفسه كأنموذجًا للتيَّار الحداثي من خلال سبك أشعاره كرجع صدى لأسلوب الحياة في العصر العباسي، حيث الإغراق في المجون والملذات والانفتاح على حضارات أخرى وثقافات غريبة على البيئة العربية القفر التي تتخذ من الصحراء مسكنًا، فخرج شعره حداثيًا يثير الجدل بين المتحفظين ويمتع المتمرين على التقاليد وأنماط العيش القديمة أو التقليدية الراغبون في ألوان من الفنون تتساوق وطبيعة الحياة في المجتمع الجديد.
وأبو نوَّاس هو الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن صباح الحكميّ، أبو نواس. ولد في الأهواز – من بلاد خوزستان- ونشأ بالبصرة، وصار شاعر العراق في عصره. ومع رحيله إلى بغداد، اتصل بخلفاء بني العباس ومدح بعضهم تزلفًا لهم وطمعًا في عطاياهم السخية. لكنه لم يقنع بالتمركز في مكان واحد؛ حيث كان دائم البحث عن الجديد والحديث، فخرج من بغداد إلى دمشق، ومنها إلى مصر، فامتدح أميرها. ثم آب من رحلته إلى بغداد، وأقام فيها إلى أن توفَّاه الله. ولقد كان أبو نوَّاس أبيض البشرة وحسن المظهر، ذو لثغة في حرف الرَّاء، وبالرغم من ذلك كان غارقًا في الأحزان، مما دفعه للإغراق في الملذات وحياة المجنون للتخفيف عن نفسه، لكن سرعان ما افتتن بهذه الحياة وصار متمردًا أصيلًا على كل ما هو تقليدي. ولهذا، كانت رغبته في التجديد انعكاسًا لعوامل نفسية وعوامل اجتماعية وسياسية، وجلَّ ما أيَّده على ثورته كان عدم انحيازه للأطراف المتصارعة من الشعبويين والمتحزبين للعروبة. وأعانه عدم الإيثار العرقي على الانتقال بسلاسة من فريق لآخر حسب ما يبديه كل منهما له من عطايا. فلقد برع في أشعار السخرية والهجاء، كسائر شعراء عصره، لكنه كان يفضل عليها الخوض في موضوعات علمية وفلسفية؛ نظرًا لافتتانه بالمذاهب والآراء المختلفة، فأثار موضوعات لم يمسّها العرب الأقدمون.
وبسبب الحرية الواسعة التي نعم بها عصره، استطاع البعض الخوض بجرأة في قضايا دينية جدلية وحسَّاسة، مما أوجد لشعر أبي نوَّاس متنفسًا؛ فاشتهر بمجموعة أشعارة المتفرِّد ة والماجنة التي يطلق عليها الخمريات التي أبرزت ملامح شعره النابض بالحيوية والدائم التجدُّد. إلا أنه كان أيضًا شديد البراعة في أشعار الرثاء التي تذكِّره بآلامه؛ فكان يضع فيها جلّ مشاعره وعواطفه العميقة. وأما الغزل، فلقد كان يوافق هواه ومجونه. ويحكى أبو نواس عن نفسه قائلًا: “ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب. فما ظنك بالرجال؟” مما يوضِّح علاقاته المتحررة الكثيرة. وأما المدح، فكان وسيلته للتقرب من الحكَّام وكبار رجال الدولة والأثرياء؛ ليضمن لنفسه عيشة رغدة ماجنة، وإن برع أيضًا في أشعار الزهد وأجادها.
وثورة أبو نوَّاس على القديم دفعته للتجديد في بنية القصيدة، فلم تعد تحاكي بنية القصيدة الجاهلية. فلم يستهلها بالوقفة على الأطلال، بل بالوقفة الخمرية. واعتمد في قصائده على الإيقاع الداخلي الناجم عن الجناس والتكرار. واشتهر أيضًا بصورِه الشعرية النابضة التي تصف الخمر وتجسِّدها بشكل ملموس، ليدمجها في الاستعارات جاعلًا منها جزء أصيل من الصور الشعرية. أضف إلى ذلك، اعتماده للغة السهلة البسيطة الخالية من التعقيد والتي تجعل أشعاره مفهومة ومحببة في كل العصور، بل وجنح أيضًا لتضمين الأمثال الشعبية؛ للتقريب بين ألوان شعره وذوق العامة، وكل هذا في قالب فصيح دفع الجاحظ لمدحه مؤكِّدًا: ” ما رأيت رجلا أعلم باللغة ولا أفصح لهجة من أبي نوَّاس.” وكذلك الإمام الشافعي بقوله: “لولا مجون أبي نوَّاس لأخذت عنه العلم”.
فلأبي نوَّاس السبق في إخراج الشعر من اللهجة البدوية، وزجه في قالب حضري. وبراعته في جميع أنواع الشعر جعلت خمرياته غير معيبة لشعره بل عنوانًا لريادته لتيار حداثي بالعصر العباسي.