22 ديسمبر، 2024 2:08 م

أبو فراس الحمداني والحنكة السياسية والإعلامية

أبو فراس الحمداني والحنكة السياسية والإعلامية

كان الشعر قديمًا بمثابة وزارة الإعلام الذي يقدِّم فيها كل شاعر برنامجًا خاصًا به، والبارع الذي يقدم برنامجًا لا يضاهيه فيه أحد. ومع إتساع رقعة الدولة الإسلامية، قرَّب الحكَّام الشعراء وأجزلوا لهم العطاء؛ لكونهم بوقًا إعلاميًا نافذًا يوصل رسائل الحاكم وولاة الأمور للشعب المتواجد في بقاع مترامية الأطراف. والشعراء كونوا ما يعرف حاليًا بالصحافة الصفراء التي تعلي شأن المرغوب فيهم، وتبخس مكانة من يطالهم الغضب. وعلى هذا، انتشرت قصائد المدح والذم.
وقلَّة من الشعراء الذين اتخذوا من موهبتهم الشعرية وسيلة للمطالبة بالحقوق والتعبير عن موقفهم من ولاة الأمور وأحوال البلاد؛ مثل ابن الرومي وابن المقفع. وبذلك، تم توظيف الشعر كإعلام موازي لصوت المعارضة التي كان مصيرها القمع، مثل ابن الرومي الذي كان مصيره الموت مسمومًا. وأما ابن، المقفع فلقد شهد ميتة بشعة قُطِّعت فيها أوصاله حيًا وكانت تلقى أمام عينه بتنُّورٍ حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
لكن، مع الشاعر “أبي فراس الحمداني” الوضع مختلف وشديد التعقيد؛ حيث يعد الشاعر الوحيد الذي استطاع أن يعتلي منصة “النَّاشط الإعلامي” للمطالبة بحقوقه. بيد أنه طالب بمآربه بكياسة مكَّنته من نيل بعضٍ منها دون إثارة غضب الحاكم.
والشاعر الشهير “أبو فراس الحَمْدَاني” (320 – 357 هـ) هو أمير وفارس وقائد عسكري من بني حمدان التي حكمت أجزاء من شمالي سوريا والعراق تحت اسم الدولة الحمدانية، واسمه “أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان الحمداني التغلبي الرَّبَعي”. وهو ابن عم “سيف الدولة الحمداني”.
و”أبو فراس الحمداني” تجربة فريدة في الشعر، وكما يقول الأديب “الصَّاحب بن عباد”: “بُدئ الشعر بملك، وخُتم بملك” ويقصد الملك الضليل “إمرؤ القيس”، “أبو فراس الحمداني”. وبالرغم من نسبه وفروسيته، إلا أن حياته كانت سلسلة من المآسي اخْتُتِمَت بمآساة موته. فمنذ طفولته، عاش حياة من القهر النفسي وذاق اليُتم صغيرًا؛ فلقد قتل عمُّه والده حتى يستأثر بالحكم. لكنه استطاع بقوَّة إرادته أن يخفي أحاسيسه ويتكيَّف مع حياته الجديدة على خير وجه؛ مما جعل ابن عمه “سيف الدولة الحمداني” يلمح فيه النبوغ، فقرَّبه منه، وجعله يترعرع في بلاطه الزاخر بالشعراء وعلماء النحو.
وانبلجت قوَّة “أبو فراس” الداخلية في نبوغه الفكري الذي سار في رافدين شديدي التناقض؛ فلقد شبّ فارسًا يدافع عن إمارة ابن عمُّه ضد هجمات الروم ويكيل الهزائم لقائدهم “الدمستق”. لكن في وقت السلم، كان يجالس الشعراء وينافسهم. ويكفي أنه عاصر الشاعر الكبير “أبو الطيِّب المتنبي” وأثبت جدارته أمام أشعاره. فلقد كان الشعر له بمثابة المتنفس الوحيد الذي يمكنه من التعبير عمَّا يموج في نفسه من مآسي دون أن يلحظ الآخرين. ويظهر ذلك في عفَّة نفسه حينما كان يترفَّع عن هدايا وعطايا ابن عمُّه “سيف الدولة الحمداني” التي يمنحها للشعراء. وحدث أن “سيف الدولة” دعى الشعراء المُجيدين أن يأخذوا ما شاؤوا من جياد خصصها لهم، فما كان من “أبو فراس الحمداني” إلا أن امتنع عن قبول عطايا الحاكم مؤكدًا له أن ما يملكه من جياد قليلة بالفعل تكفيه وتغنيه. فصداقته لابن عمه ليس هدفها نيل العطايا، بل التوكيد على نسبه وأحقيَّته باعتلاء مناصب تليق بمكانته. ولقد ولاه ابن عمُّه وهو لا يزال في السادسة عشرة من عمره على منبج (وهي مقاطعة في شمال شرق محافظة حلب في سوريا).
ووقوعه في الأسر كان نقطة فارقة في حياته، بالرغم من قسوتها على نفسه؛ فلقد خلَّدت تلك الفترة ذكراه إلى أبد الآبدين وجعلته واحدًا من الشعراء ذوي البصمة الواضحة في مجال الشعر، مع الأخذ في الاعتبار أن إجمالي انتاجه الشعري هو ديوان واحد فقط، لكن كتب له الخلود وترجم إلى عدَّة لغات.
وحدث يومًا أن الحظ قد خان الأمير والفارس الباسل “أبي فراس الحمداني” فوقع أسيرًا للروم، – التي كانت هجماتهم المتكررة على الدولة الحمدانية سلسلة من الكر والفرّ والانتصارات والهزائم – ونقلوه إلى حصن منيع في منطقة على الفرات تدعى “خرشنة”، واستمر أسيرًا هناك لفترة أربعة سنوات، والتي فيها تجلَّت موهبته الشعرية في أسمى أشكالها حيث صقلها فترة الأسر الطويلة. وأشعار “أبو فراس” الأسير كانت رسائل إعلامية تستهدف ابن عمُّه نفسه بأسلوب مستتر، حيث كان يعاتبه شعرًا على عدم الهرولة لنجدته وعلى نسيانه إيَّاه. وتم تصنيف أشعاره تلك التي يطلق عليها “البُكائيَّات” بشعر “السجون”. وفي أشعاره المرهفة الحسّ أظهر ما يعانيه من شعور يلازمه باليُتم والأسى على نفسه وهو سليل الأمراء، لكنه بات أسيرًا. وزاد من إحساسه بالعجز والهم ما علمه عن مرض أمُّه، وإصابتها بالوهن يومًا تلو الآخر إلى أن وافتها المنية، وهو لا يستطيع أن يفعل لها شيئًا أو يودِّعها عند الموت.
وقصائد “أبو فراس” كان منها الرُّوميات والبكائيَّات، ولعل من أشهرها كانت قصيدة “أراك عاصي الدمع” التي غنَّت كلماتها كوكب الشرق السيدة “أم كلثوم”، فصارت إنصافًا جديدًا له وتخليدًا عظيمًا لذكراه، وصنِّفت كواحدة من أشهر قصائد الغزل في الشعر العربي. ولقد لخَّص في هذه القصيدة شيئًا من سيرته الشخصية؛ فمن يطابق بين حياة “أبي فراس” والمعاني التي يطرحها في قصائده يجد أنه يستنطق ذاته ومشاعره، فباتت أشعاره نفسية، بعيدة عن الزيف، تموج بالإحساس بالوحدة والغربة التي منشأها التنقُّل منذ الطفولة من مكان إلى آخر دون استقرار. فصار يستنطق الموجودات، وقيل أن في قصيدة “أراك عاصي الدمع” والتي تعد أفضل قصائده على الإطلاق أن الحمامة التي كان يوجه لها كلماته جعل منها جارة له وكأنها آدمية. لكنه لم ينسَ أبدًا أنه سليل ملوك وفارس حتى في أحلك الظروف. ولعل مطالبته بالملك بعد موت ابن عمُّه كانت السبب في نصب المكائد له وتهميشه عمدًا، إلى أن قتِل ذبحًا على يد “قرغوية” الذي قدم رأسه إلى الحاكم “أبي المعالي” الذي لا يزال طفلًا في التاسعة من عمره.
مقتل “أبي فراس” وهو لا يزال في السابعة والثلاثين من عمره يتناسب مع بكائياته ومع سيرته التي كانت سلسلة من المآسي والإحساس بالغربة التي لم يكن يطفئ لهيبها إلا قوله الشعر حتى يعبر عمَّا يجيش بنفسه، ويعاتب، ويطالب دون لومة لائم. وعلى عكس شعراء المعارضة، لم يقتل “أبو فراس” بسبب أشعاره، لكن بسبب الخوف من فروسيته واحتمال هيمنته على حكم الدولة الحمدانية.