ما أن كنت أرتدي القيافة العسكرية لألتحق بوحدتي العسكرية إبان الخدمة الإلزامية، إلاّ وكان شعور عجيب ينتابني. من صعب أن تغادر كنف أبيك وتترك عطف أمك وتلتحق بمكان فيه الموت أكثر رجاحة من الحياة والذلة تسبقها الغبطة. أناس يتسابقون في ترضية الآمرين ويتملقون للتنصل من واجب ما أو للحصول على رغيف خبز زائد. الأمر الذي يجعل الإنسان متجرداً من كل القيم السّامية ويسوق الفرد لأن يتحول إلى آلة تعمل بالأوامر ليس إلاّ.
تقول العرب “إذا خليت قلبت” وعلى هذا المبدأ فإن في الوحدة العسكرية هذه شخص برتبة نائب ضابط يدعى أبو شريف كان إنساناً سوياً على خلاف الموجودين الآخرين. يعمل في مكتب السيد الآمر ويرتدي الملابس النظيفة وهو المسؤول المباشر عن كل شيء في هذا المكتب. توطدت علاقتي به بسبب عملي في قلم الوحدة حيث الكتب الواردة والصادرة التي تتطلب العرض على الآمر مروراً بأبو شريف.
أبو شريف كان رجلاً مستقيماً يقيم الصلاة ويدعو إلى الخير. الأمر الذي عزز الأواصر بيني وبينه. كنت أجالسه على الدوام، نصلي معاً ونخفف عن كاهلنا وطأة المعسكر وهمومه.
ذات يوم تلقينا خبر نقل السيد الآمر من وحدتنا والتحاق آمرٍ جديد. استلم الآمر الجديد مكتب الأمرية وبدأ بمهام عمله. كالعادة أذهب إلى السيد الآمر لتوقيع الكتب لخاصة بالوحدة. أجالس أبو شريف ونتحدث كما هو دأبنا. الأمر الملفت للنظر أن أبو شريف لا يصلي معي كما كنا في عهد الآمر السابق. المسألة غريبة بالنسبة لي إلى حدٍ بعيد فهل ترك الصلاة يا ترى أم أنه هجر الصّلاة بمعيتي؟
دفعني الفضول إلى السؤال من أحد الجنود القدامى عن حالة أبو شريف هذا. صعقني هذا الجندي بجواب غريب حين قال أن أبو شريف لا يصلي حتى يعلم مذهب الآمر الجديد. أي إذا كان الآمر سنياً يقوم بالصلاة على الطريقة السنية وإذا كان شيعي المذهب يتصرف على ضوء ذلك. أما إذا كان الآمر يحتسي الخمور والمشروبات الكحولية فإنك سوف تجد أبو شريف هذا ثملاً كل ليلة. وحتى يتبن الخيط الأبيض من الخيط الأسود لدى أبو شريف، فهو يتجنب الصلاة للحصول على أقصى درجات الإرضاء للآمر الجديد بغية إبقائه في محله معززاً مكرماً مقرباً إلى الآمر. ويروى أن أبو شريف هذا أطلق تسمية شريف على ولده البكر نسبة إلى إسم آمر الوحدة حين رزق بولد.
حتى أنت يا أبا شريف، كنت من الغاوين وسيد المنافقين بعد أن اعتقدت أنك أبو شريف فعلاً ولم يكن كذلك إلاّ بالإسم.
وإن كان قد انقضى على الحادثة سنين طوال، إلاّ أن بعض حوادث اليوم تذكرنا بالذي مضى. مشهد رؤيتي لشخص ملحد لا يقيم وزناً لحدود الله يقوم ويصلي خلف رئيس الحزب، أعاد إلى الأذهان حادثة أبو شريف كشريط فلم تراجيدي. لا يختلف الموضوعان من حيث الفحوى والمضمون النفاق نفاق وإن تعددت أشكاله والتملق المنبوذ نفسه وإن تغيرت الأزمان والأماكن. لكن السؤال الذي حيرني هو: الملحد الذي صلّ خلف رئيس الحزب هل كان على وضوء يا ترى أم لا؟