19 ديسمبر، 2024 12:26 ص

أبو حيان التوحيدي …. ومحنة المثقف

أبو حيان التوحيدي …. ومحنة المثقف

“فلقد فقدتُ كل مؤنس وصاحب، ومرافق ومشفق، ووالله لربما صليت في الجامع، فلا أرى جنبي من يصلي معي، فإن اتفق فبقال أو عصار، أو نداف أو قصاب، ومن إذا وقف إلى جانبي أسدرني بصنانه، وأسكرني بنتنه، فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محتملاً للأذى، يائساً من جميع من ترى”

ابو حيان التوحيدي

في كل زمان وفي كان مكان يعيش المثقف عزلة ويدفع ثمنا باهظا لاعِمالهِ للعقل وتوظيفيه للنقد وتشخيص مشاكل المجتمع والحث على الفكر والتفكر والنقد .. وهكذا كان هو الحال مع اديب الفلاسفة وفيلسوف الادباء ابي حيان التوحيدي ، ولد في بغداد 310 هـ وتوفي في شيراز 414 هـ

عاش يتيما فقيرا كادحا عمل في سوق الوراقيين الذي كان السبب في سعة علمه واطلاعه وتبحره ، اولى التوحيدي العقلَ خصوصية كبيرة وكان شغله الشاغل في جميع مؤلفاته وتحديدا العقل الناقد فتعرض لنقد كبير وحاد من علماء عدة فقال عنه الذهبي ت748ه :

“الضال الملحد أبو حيان، علي بن محمد بن العباس، البغدادي الصوفي، صاحب التصانيف الأدبية والفلسفية، ويقال: كان من أعيان الشافعية… كان أبو حيان هذا كذابا قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان، تعرض لامور جسام من القدح في الشريعة والقول بالتعطيل، ولقد وقف الوزير الصاحب كافي الكفاة على بعض ما كان يدغله ويخفيه من سوء الاعتقاد، فطلبه ليقتله، فهرب، والتجأ إلى أعدائه، ونفق عليهم تزخرفه وإفكه، ثم عثروا منه على قبيح دخلته وسوء عقيدته، وما يبطنه من الإلحاد، ويرومه في الإسلام من الفساد، وما يلصقه بأعلام الصحابة من القبائح، ويضيفه إلى السلف الصالح من الفضائح، فطلبه الوزير المهلبي، فاستتر منه، ومات في الاستتار، وأراح الله، ولم يؤثر عنه إلا مثلبة أو مخزية” .

وانتقده ابن الجوزي ت 508 ه نقدا لاذعا فقال عنه ايضا : زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، والتوحيدي، والمعري، وشرهم التوحيدي لانهما صرحا ولم يصرح.

الا ان هناك شخصيات اخرى كانت معجبة به ايما إعجاب امثال السبكي صاحب كتاب طبقات الشافعية الذي رد على قدح الذهبي له فقال :

“شيخ وصاحب كتاب البصائر وغيره من المصنفات في علم التصوف كان فاضلاً مصنفاً له المصنفات الحسنة كالبصائر وغيرها، وكان فقيراً صابراً متديناً إلى أن قال: وكان صحيح العقيدة قال الذهبي: كذا قال، بل كان عدواً لله خبيثا، وهذه مبالغة عظيمة من الذهبي) فرد على كلام الذهبي وقال ان هذا الراي مبالغ به ولايستند الى حقيقة ..

الف كتب عدة منها الامتاع والمؤانسة وهو كتاب عظيم عبارة عن مسامرات 37 ليلة نادم بها ابو حيان التوحيدي الوزير ابا عبد الله العارض الفه بطلب من الوزير البويهي وهو عبارة عن كتاب في الادب والفلسفة والفكر والبلاغة .

كما الف كتاب اخر اسماه البصائر والذخائر هو عبارة عن موسوعة اختيارات ضخمة، تقع في عشرة أجزاء، انتخبها أبو حيان من روائع ما حفظ وسمع وقرأ فأجمل ماقال فيه :

“إلهي – يدعو إليك بلسان الأضطرار، وباطنك يخبر عنك بسعة فضاء الأعتبار، وفعلك يدل عليك الأسماع والأبصار، وحكمتك تعجب منك الألباب والأفكار، لك السلطان والمملكة، وبيدك النجاة والهلكة، وإليك إلهي المفر، ومعك المقر، ومنك صوب الإحسان والبر، أسألك بأصح سر، وأكرم لفظ، وأفصح لغة، وأتم إخلاص، وأشرف نية، وأفضل طوية، وأظهر عقيدة، وأثبت يقين، أن تصد عني كل ما يصد عنك، وتصلني بكل ما يصل بك، وتحبب إلي ما حبب إليك، فإنك الأول والثاني، والمشار إليه في جميع المعاني، لا إله إلا أنت” .

.
بعد ان عاش حياة بائسة فقيرة في الوقت الذي كان يرى جهال الناس ينعمون بالملذات والاموال قرر ان يحرق جميع كتبه بعد ان ادرك ان لا جدوى منها في مجتمع لايدرك قيمتها ولاقيمة هكذا فيلسوف عظيم غقرر حرقها جميعا فما وصلنا اليوم هو ماانتشر بين الوراقين قبل ان يحرق فقط .

حياة الفيلسوف المتصوف الاديب ابو حيان التوحيدي تستحق الدراسة والتوقف عندها لانها اقرب واشبه الى حياة كل مثقف ومفكر انشغل بالمعرفة وبلغ درجة عالية من الوعي فكانت العزلة والشقاء ضريبة ديفعها .

هل الثقافة محنة يعيشها المثقف في وسط مجتمع لايولي أي اهتمام للعقل و المعرفة والفكر والمثقف ؟

وهل كان ابو حيان التوحيدي محقا في حرقه لمؤلفاته بعد ان ادرك ان لافائدة منها وسط مجمتع لم يعرف قيمتها ؟