18 ديسمبر، 2024 9:18 م

أبو حميد الكعبي.. نورس في شاطىء كربلاء

أبو حميد الكعبي.. نورس في شاطىء كربلاء

يستلني شغفاً هذا الرجل، فتتشظى ملامحه بين أطراف مشاعري، وتتلاطم أمواج سفره على جرف كتاباتي، وكم لقلمي أن يضل مخصلة ينكثه سجعاً، وأحرفي تصرخ بين ثنايا كلماتي، وكم ترك بداخلي من ألم وأنا لم أعرفه إلا من يوم شهادته…!
بعد إن بعث لي أحد أصدقاءه سطورأً عن حياته، وقال لي: إنه رجل أمتطى صهوة الخلود بركاب الشهادة، فما بال قلمك قد قطع لجامه وولى هائما في صحراء غيره؟! عندها جلست ساعات وساعات، وليل متأخر، أقلب الطرف في هذا الرجل متسائلاً:
أين هو الأن ..؟ وماذا يفعل..؟
ماذا يريد أن أكتب له وعنه.؟
وياليته يعرف كم انشغلت به ..!!
إذا ما الله أنعم علينا بالنسيان للتأسي والصبر على المصيبة، وأجزل عليه بالشهادة والحياة الابدية في الجنة، فلماذا الله يبعث غيره ليدون حياته..؟!
ما بين تلك وتلك، والأعاصير التي بدأت تهز جذوع جوفي، وأصوات الماضي التي باتت تتصدى بين كهوف مسامعي، أحسست بتمزق يبعثر أحشائي وأفكاري، وأنا أحاول أن ألملم وجودي وأستجمع قواي، لأرسم صورة لذلك الشهيد السعيد، لكن دون جدوى! ليس لي أن أمزج ألوانه..!
حرب دائرة، تعددت القادة فيها، حتى تشابكت الأطراف بين الفكر والقلم والعاطفة والشعور، فجلست مستسلماً! قد وضعت رأسي بين ركبتي ليلي، وأنا أصرخ وأصرخ، أرهقني ضجيج نفسي، هومت عيناي في غفلة عجيبة آمرهها، ورحلة لم أتقن فيها نفسي، هل أنا يقض أم نائم..؟؟

في عالم أخر؛ وكأن دخان المعركة قد رسم أشباح الموت, والخوف, والحرب فوق مباني المدينة، حاملا بين طياته صراخات الأطفال، وعويل النساء، وهتافات الشيوخ وإستغاثاتهم، فرأيت رجلاً مدجج بسلاحه قد خرج وشق صدر الدخان! كان فارع الطول، جميل القوام، بهي الوجه، والدماء تصبغ ملابسه ولحيته البيضاء، حاملا بين يديه علب ماء وطعام! وهو يصرخ بأعلى صوته : (لا تخافوا, لا تخافوا. يأولادي يأحبائي.. نحن أبناء الحسين)!
لا أعلم حينها من حدث نفسي، ولكن ألقي في روعي بأن هذا الرجل هو ( أبو حميد الكعبي) ..!

رأيت فيه ذاكالبطل الأسطوري نبرة خلود، رغم ما به من أثار للمعركة، والدماء التي تلطخ جسده وثيابه، والدخان المسافر من حوله حاملا أرواح ضحايا الحرب، إلا انه كان مبتسما، خرجت طفلة بستة أعوام من بين تلك البيوت المحترقة! حافية تتلافح قدميها بقايا أسلحة الحرب، وهي تصرخ مع أصوات القنابل والمدافع، ومتجهة نحو “ابو حميد” فأعتنقته قائلة: (عمي أحميني)

لم أتمالك نفسي، وأنا أراقب ما يحصل، جلست (أبكي واصرخ وأبكي) وأنظر بوجه “أبو حميد” وكأن عيناه نطقت بصمت ودمع تحدثني فيقول لي: قبل 1378 عام في كربلاء، وعندما كان دخان معركة الطف يتصاعد من حول أطفال الحسين، يحمل بين ذراته أرواح أهل البيت، وصراخات أطفال تنادي(العطش العطش)! وعويل نساء تندب (يا حسين قد هتكت حرمك)! وهتافات الرجال تقول: (إحرقوا بيوت الظالمين) أيضا خرجت “سكينة” بنت الحسين، ذو الستة أعوام حافية القدمين، تحرق أطرافها بقايا نيران الخيام، وهي تصرخ وتستغيث! فمن يا ترى إحتضنها واعتنقها في ذلك الوقت….؟! ثم بكى وصرخ أبو حميد بصوت عال أيقضني من غفلتي وهو يحتضن تلك الطفلة بقوة ويقول:( يا ليتنا كنا في الطف معك يا حسين)..!

الشهيد (سلمان عصاد جلو الكعبي)، أو بما يكنى (أبو حميد الكعبي) كان رسالة بث واضحة المعالم، تلتقطها قنوات الشهادة من عبر أثير عاشوراء، إقترن أسمه وجسده بالجهاد منذ إطلاق فتوى الجهاد الكفائي، ترك عائلة كبيرة من خلفه، وراح يتاجر مع الله بنفسه، شغفه بالنصر او الشهادة كان يجبره على الإلتحاق للمعركة قبل موعدها، فهو يرى حياته بأن ينذر دمه وجسده للوطن.

سبعون سنة من عمر “أبو حميد” إنقضت وهو يجاهد نفسه بقوت عياله، فكان يرى بسرايا عاشوراء، القوة التي ستوصله لركب الحسين مع الشهداء، حتى إختاره الله ليكون في ركابهم بتاريخ 27/5/2016، كانت شيبته البيضاء، وقاراً يعبئ ويملأ نفوس من حوله أطلاقات العزم والشجاعة والإقدام، فيرونه “حبيب إبن مظاهر” أو “برير أبن خزيم” في كربلاء، وحتماً من يرى “حبيب” أو “برير” حاضراً معه سيجد في نفسه “جون” أو “عابس” أو “وهب” وهكذا بمثل “أبو حميد” ومن حوله انتصرنا وبأسم الحسين.