تعارفنا عام 1960 في كلية الاداب بجامعة موسكو, عندما التحقت في الصف الاول وكان ابو بكر يوسف عندها في الصف الثاني, وكنا نسكن في نفس القسم الداخلي للطلبة. كان المصري الوحيد بيننا ( رغم ان مجموعة طلبة الجمهورية العربية المتحدة آنذاك كانت كبيرة ), وكان طالبا مجتهدا وملتزما و يتميز بالرقة والمرح والهدوء وروح المجاملة والابتعاد عن المواقف السياسية المتطرفة و المتشنجة, التي كانتتسود في اوساط الطلبة العرب آنذاك . كنٌا– نحن الطلبة العراقيين –نؤيد عبد الكريم قاسم ونهجه السياسي , ولهذا كنا نحاول ان نتجنب الحديث معه حول عبد الناصر وموقفه المعروف من قاسم , وذلك احتراما وتقديرا لشخصيته التي فرضها بتصرفاته ومواقفه وعقلانيته, وفي هذه الاثناء ظهر اثنان من المصريين واصبحا قريبين جدا منه وهما المرحومان– الشاعر نجيب سرور وماهر عسل, وكان من الواضح انهم أصبحوا يمثلون كتلة مصرية صغيرة ومتميزة عن مجمل الطلبة المصريين , وبعد الحادث الذي هزٌ الاوساط الطلابية العربية في جامعة موسكو آنذاك , عندما وقف المرحوم نجيب سرور في احدى الاحتفالات بالقاعة الكبرى في الجامعة – وبدون سماح من منظمي الحفل – وراء منصة الخطابة والقى خطابا سياسيا ناريا ضد نهج السياسة المصرية الرسمية , والتهبت القاعة بالتصفيق الحاد له, وقد حاول المسؤولون الروس اقناعه بترك المنصة والتوقف عن القاء الكلمة , ولكن نجيب سرور رفض ذلك وأيدته جماهير الطلبة في القاعة بالتصفيق والهتافات له , وهكذا استمر بالقاء خطابه حتى النهاية, ( دفع نجيب سرور ثمن موقفه هذا فيما بعد واضطر ان يترك الاتحاد السوفيتي , وقد كتب ابو بكر تفاصيل هذا الحدث ), وهكذا أصبح ابو بكر واحدا من أقرب الطلبة المصريين الينا,وتشاء الصدفة ان نسكن في نفس الغرفة بالقسم الداخلي للطلبة, وقد كان ذلك عاملا جديدا مساعدا لتعميق علاقات الصداقة بيننا,ثم افترقنا بعدئذ, وعاد ابو بكر الى مصر, ثم رجع لدراسة الدكتوراه, وكنت انا أزور موسكو بعض الاحيان وكنت أحرص ان التقيه, وكنتشاهدا على بدايات نشاطاته الترجمية التي انطلقت آنذاك ومتابعا لها, وكنت سعيدا ان أرى– وبوضوح ساطع – ميلاد مترجم كبير ونجم جديد في سماء الافق العربي- الروسي الادبي , خصوصا بعد ان حصل على شهادة الدكتوراه في الادب الروسي وقرر البقاء في موسكو والتفرغ للعمل الترجمي في دار( بروغريس ) ( التقدم ) السوفيتية للنشر, ثم في شقيقتها دار نشر ( رادوغا) ( قوس قزح), وعدت انا الى العراق وكنت حريصا دائما على اقتناء الكتب التي يقوم بترجمتها حسب ما كانت تسمح به ظروف العراق آنذاك وكنت أفخر بها واتحدث حولها امام زملائي الاخرين واخبرهم بان المترجم هذا هو صديقي, وحاولت دائما ان ادعو طلبتي في قسم اللغة الروسية ان يطالعوها, وأذكر مرة ان عرضت احدى قنوات التلفزيون مقابلة معه في موسكو, فجلست امام شاشة التلفزيون مشدوها وانا اتابع بحب ودهشة ذلك اللقاء الجميل معه , وبعد انتهاء البث, بحثت في اوراقي الموسكوية القديمة عن رقم هاتفه ووجدته طبعا واتصلت به من بغداد وقد اندهش ابو بكر من محادثتي الهاتفية تلك, وقلت له انني شاهدت البرنامج لتوي واشتقت ان اسمع صوته ليس الا.
ترجم الدكتور ابو بكر يوسف عشرات الكتب الادبية الروسية الى العربية وأصبح واحدا من اشهر المترجمين العرب في هذا المجال الابداعي , الا ان اسمه يرتبط قبل كل شئ باسم تشيخوف, اذ انه أول من قدٌم مؤلفاته المختارة باربعة أجزاء ولاول مرة بالعربية, وتعد ولحد الان افضل ترجمة صدرت لمؤلفات تشيخوف باللغة العربية, وقد سأله احد الصحفيين مرة عن أحلامه الترجمية فقال ابو بكر , انه يحلم ان يترجم الاعمال الكاملة لتشيخوف الى العربية, وكم اتمنى ان يحقق شيخ المترجمين المصريين عن الروسية الدكتور ابو بكر يوسف حلمه هذا من اجل ترسيخ ا لعلاقات الادبية الروسية – العربية اولا, وثانيا من اجل اغناء المكتبة العربية والقارئ العربي الذي لا زال– ولحد الان – بحاجة لمعرفة واكتشاف الاجواء العميقة لعوالم تشيخوف وابداعه وفلسفته في الفن والحياة. وعدا تشيخوف, فقد ترجم ابو بكر مؤلفات مختارة لبوشكين وليرمنتوف وغوغول وغوركي وكوبرين وشولوخوف واشرف على اعادة طبع ترجمات المترجم الرائد الكبير الدكتور سامي الدروبي لروايات دستويفسكي الشهيرةوغيرها من المؤلفات الروسية الكلاسيكية, اضافة الى مجموعة كبيرة من مؤلفات الادباء السوفيت ومنهم جنكيز آيتماتوف وبيكوف وماركوف وغيرهم, و من المهم هنا الاشارة ايضا الى مساهمات ابو بكر بترجمة الشعر الروسي , اذ صدرت له عدة كتب مترجمة لقصائد توتشيف وبريوسوف و بلوك ومختارات من الشعر السوفيتي . هذا وقد منحه اتحاد ادباء روسيا عام 2000 عضوية الشرف تقديرا له على مساهماته الترجمية الكبيرة هذه, وهو اول مواطن مصري و عربي يحصل على هذا التكريم الرفيع في تاريخ اتحاد ادباء روسيا, وحصل ابو بكر يوسف كذلك على ميدالية بوشكين عام 2012 لمساهماته العميقة والمتشعبة بتعريف القراء العرب بالادب الروسي ,واود ان اختتم هذه السطور الوجيزة عن هذا المترجم الكبير باعادة نشر ترجمته لقصيدة بوشكين الشهيرة – ( النبي ) , والتي نشرها في سبعينيات القرن الماضي بجريدة ( انباء موسكو ) , وهي ترجمة تكاد ان تكون منسية, ولم يستطع الدكتور ابو بكر نفسه في رسالة شخصية لي ان يحدد تاريخ نشرها بالضبط, ويمكن بالطبع اعتبار هذه الترجمة واحدة من الترجمات العربية المشهودة ببراعتها وجماليتها وامانتها لروحية بوشكين الشعرية.
النبي
++++++
ترجمة د. ابو بكر يوسف
————————
ضربت في متاهة الصحراء
معذبا,والروح ظامئة,
وعند مفترق الدروب
ابصرت ساروفيم.
كالحلم مسٌ بالانامل الرقاق
اهدابي الثقال.
تفتحت مآقي العيون
كالنسر ساعة الفزع,
ولمست يداه مني الاذنين
فجاش سمعي بالطنين والصخب,
أصغيت لارتعاشة السماء,
وخطرة الملاك في السحب
ودبة الاسماك تحت الماء
ودفقة الحياة في الكروم.
وأطبقت شفاهه على فمي
فانتزعت لساني الثرثار,
لساني الكذوب ذا الازرار
ودسٌ بالاصابع الدامية الملطخة
لسان ثعبان حكيم
في فمي المقرور.
بالسيف شق صدري وانتزع
من جوفه المفغور قلبا يختلج
وفي مكانه القى بجمر مستعر..
ممدا رقدت في الصحراء
حتى سمعت صوت الله-
‘‘ قم يا نبي فانظر واستمع
اني نفخت فيك من ارادتي,
طف بالبحار والبلاد
الهب قلوب الناس بالكلام‘‘