لم تعد جلساتهن مؤنسة كما كانت سابقاً، لن تظلمهن ومن الأفضل أن تكون أكثر دقة في التعبير: ” أنا لم أعد آنس بجلساتهن الآن”.
رددت هذا القول في نفسها مراراً، تستغفر الله مخافة أن تكون قد أخطأت بحق جاراتها اللواتي ما قصّرن يوماً معها، لا بفرح ولا بحزن، يوم غادرها زوجها وقد زرع بذرته التي تجذرت في تربة حمراء مروّاة، قاصداً بلداً بعيداً قال أنه لن يغيب فيه أكثر من سنة، ليعود إليها محمّلاً بما يحقق لهما كل أحلامهما الحياتية، قالت له يومها :” لا حلم لي غيرك ، وقد تحقق ، بل ولقد ولّد لنا حلماً آخر أحمله في رحمي، فلمَ السفر ؟”. لكن أحلامه تعدّت أحلامها كثيراً، وقد عزم على تحقيقها…
وضعت حملها ذكراً بهياً، في غيبة من المسافر ، وانتظرت قدومه من بلاد الأحلام كي يختن ابنه، جاءتها ورقة تخبرها أنها كانت تنتظر السراب، والسراب لن يأتي أبداً، أبدلها بتربة أخرى زرع فيها وينتظر الثمر، أما هي، فحرة طليقة بائنة، طعنة الظهر هذه شاركتها بها جاراتها، لم يتركنها تحتسي حسرتها بمفردها، ثرثراتهن البرئية بلسمت جرحها بطريقة غريبة، الآن عرفت سببها، تمتماتهن كانت في باطنها رقية شافية، ودعوات مخلصة كانت لها عوناً على التخطي، والمضي في الطريق… وهي ترتشف أول الرشفات من فنجان قهوة الصباح في إحدى الصباحات الصيفية، وقد اعتذرت عن دعوات جاراتها لها لاحتسائها عندهم، مفضّلة العزلة في بيتها الريفي الصّغير، بعد أن أخذت نسائم الربيع الهائج فلذة كبدها الوحيد في غياهب اختطاف فجائي لم تعرف أين استقر به، تراقب صوصين صغيرين وقد هجم أحدهما على الآخر بعنف تجاوز اللعب، تصايحا فحضرت إحدى الدجاجات مسرعة لتنقذ صوصها وقد أدماه الآخر، تذكّرت كيف كانت تهرع لتخليص وحيدها من براثن خصم ضخم جمعته به عراكات الطّفولة وعنجهية المراهقة، كانت تخرج بابنها وقد تهتك جلده بأماكن عديدة، وتلألأت نقاط الدم النازفة من وجهه ويديه وقدميه، تأخذه وهي توبّخه وتوبخ خصمه معه، و تسب الجهل والتخلف الذي يوقعهم بالخصومات والعراك، لماذا يختصم الناس ويتعاركون ؟ و من أجل ماذا تقوم الحروب ؟ وما هي الغنائم ؟
لم يمكنها عقلها البسيط أكثر من طرح أسئلة لم تملك لها إجابات شافية، تذكر فقط أن البشر هم أبناء قابيل قاتل أخيه هابيل، نعم البشر بالمجمل أبناء قاتل، وليس أبناء مقتول ، إذ لم يتسنَّ لهابيل أن يرزق بذرية، قتله أخوه بسبب الغيرة والحسد، حرب البسوس قامت بسبب ناقة، وحروب اليوم تقوم بسبب جشع الإنسان اللا محدود، تكالب على البلاءالأسود يظن أنه بتسلطه عليه سيحوز الخلود…
هل حابى الموت أحداً عبر التاريخ ؟ ألم يأخذ في طريقه الملك والرعية، السيد والخادم ؟ المعافى والمريض ؟ الصّغير والكبير؟
كم حصد الموت أحياءً قبرناهم في الذاكرة و هم مايزالون يرتعون من رحيق الحياة ونعمها، وكم أبقينا من الأموات أطيافاً لا يغادروننا أبداً.
انتبهت من شرودها على طرق عنيف على باب الدار جعلها تهرع إليه مسرعة، علّه خبر عن وحيدها، فتحت الباب ليرتمي أمامها جسد ضخم، نما الشعر في معظم أجزائه، حتى بدا كالوحش، وقد تدافع فوقه شبان الحي، يكيلون له الضربات واللكمات والركلات، أبعدتهم عنه، و ساعدته على الوقوف، وهم يتسلقون فوق بعضهم للوصول إليه و الاستمرار بضربه، نهرتهم، صاح أحدهم : “لقد قتل ابنك يا خالة !”.
صمت قاتل جثم على صدور الجميع …! حرَّكه صفعة ضعيفة من كفها الهزيل باتجاه وجه قابيل، وسؤال يبقى بلا جواب :” لماذا قتلته ؟”.