لقد خلف السيد جو بايدن في العراق أبناءً كثيرون، وهاهم اليوم قد كبروا، وأصبحوا قادرين على حمل السلاح، وهز الرايات، وإنشاد الأغاني المفرقة. جو بايدن نائب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، والمعروف عند العراقيين باعتباره “مهندس مشروع تقسيم العراق” وفقاً لما تنشره وسائل الإعلام عبر تصاريح منسوبة إلى القائمين على العملية السياسية، وظل بايدن، يؤكد مراراً، أن إنشاء الأقاليم الثلاثة (الشيعي والسني والكردي) بات خياراً “ملحاً وضرورياً” لاحتواء الأزمة في العراق. ولكن من ذا الذي يدعو إلى التقسيم؟ بالرغم من زوال الاحتلال، وعبور آخر جندي أمريكي في نهاية عام 2011 الأراضي العراقية إلى دولة الكويت، لتنتهي صفحة غير مشرقة من تاريخ العراق، وبدلاً أن يخرج العراقيون فرحاً إلا إن الجميع فوجئ بوجود أزمة سياسية كبيرة تعصف في العراق اثر الإعلان عن تورط مكتب نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي بقتل مواطنين وتفجير سيارة مفخخة في مبنى مجلس النواب. ولكن ما حصل في قضية طارق الهاشمي (الذي فضل اللجوء إلى تركيا التي تعلن صراحة العداء للعراق)، جرى استنساخه في قضية حماية وزير المالية رافع العيساوي، إلا أن هذا الأخير وبالاعتماد على زخمه العشائري في الأنبار أعلن استقالته من الحكومة، وبدء المرحلة الأكثر خطورة في الخطاب السياسي الذي يعتمد الاعتصام، وهو نفس التكتيك الذي اعتمدته المعارضة السورية في حربها ضد نظام بشار الأسد، وجرى حمل أعلام الجيش الحر، وأعلام البعث، وأعلام القاعدة جنباً إلى جنب، في توليفة غريبة تضيع فيها الحقيقة لمن يحاول فك رموز هذه الانتفاضة العشائرية ذات الشعارات المتناقضة، فقد طرحت في البداية مجموعة من الطلبات التي تتركز حول إطلاق سراح السجينات مهما كان جرمهن، حتى النساء المتهمات بقضايا شرف أو قضايا جنائية. وقد وصف متعاطفون مع نظام صدام تلك الاعتصامات بأنها (قادسية ثالثة) في إشارة إلى (القادسية الثانية)، وهي الحرب التي شنها صدام حسين على إيران بدافع إعادة الجزر العربية الثلاث (طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبو موسى) إلى دولة الإمارات. ورفع المعتصمون شعارات تنادي بإطلاق المعتقلين وإلغاء المادة الرابعة من الدستور الخاصة بمكافحة الإرهاب، وشعارات طائفية مثل شعار “لن تتوقف إلا بزوال مخلفات الاحتلال الأميركي واجتثاث النفوذ الإيراني”، و”سنعيد المالكي على الدبابة التي جاء على ظهرها”، في إشارة إلى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي. وبالفعل سمعنا أناشيد (القادسية الثانية) تنطلق من مكبرات الصوت تحت المنصات، وعاد اللون الزيتوني ليظهر من جديد، وتم تسمية الجمع، فمن جمعة (قادمون يا بغداد) إلى جمعة (حرق المطالب)، وصولاً إلى جمعة (الخيارات المفتوحة) التي أعلنت صراحة ثلاثة خيارات: (إما إقالة رئيس الحكومة العراقية الحالي نوري المالكي، أو حرب أهلية يخسر فيها العراق أبناءه وهو ما لا نرتضيه، وإما أن نحكم مناطقنا بأنفسنا “حكم ذاتي” وهو ما يسمى هنا بالإقليم). وقد وضع خيار التقسيم في آخر القائمة ولكنه الخيار المحبب للمعتصمين الذين لم يقفوا في العراء طوال الشهور الماضية من أجل إسقاط حكومة اشتركوا هم فيها، مؤكدين ” أن أمام المعتصمين خيارات محدودة، والخيار هو للمعتصمين، وأمامنا أسبوع، والعلامة الشيخ السعدي هو قائدنا، وهو من سيفاوض ليختار الأفضل لأهل السنة في العراق”. وما هو الأفضل في نظرهم غير التقسيم؟ لكن ليس جميع المعتصمين يدعون إلى ذلك فقد تم اختطاف المنصات، وتغيير مسار الاعتصام إلى وجهة يريدها أبناء بايدن، ولا يريدها أبناء العراق من المحافظات الست المنتفضة، وهي في الحقيقة أربع محافظات فقط وليست ستاً، وهي نفس المحافظات التي رفضت انتفاضة الجنوب والشمال ضد نظام البعث، حين وصفها رجل الدين صبحي الهيتي في لقائه مع صدام حسين بعد القضاء على انتفاضة آذار عام 1991، بأن هذه المحافظات، بيضاء، لم تحدث فيها ثورة مضادة للنظام، وهي – أي المحافظات البيضاء-حسب قوله (تمثل القيم والأصالة والوطنية والشجاعة، وهي الحامية الأصيلة للنظام والعراق بتاريخه الطويل). وقد أكد هذا المفهوم مجدداً النائب أحمد العلواني أحد أبرز قادة الاعتصامات بقوله: (نحن بناة الدولة). وليس بعيداً عن هذه الشعار والمنصة التي أنتجته تم قتل جنود مجازين عزل (سنة وشيعة) كانوا عائدين إلى أهلهم. وهذه الحادثة التي عاد صداها إلى الشارع العراقي متضمخاً بدماء العراقيين الأبرياء، حيث أعلنت الأمم المتحدة أن أكثر من ألف شخص قتلوا في هجمات في العراق في أيار من العام الحالي، مما يجعله الشهر الأكثر دموية منذ ذروة الصراع الطائفي في عامي 2006 و 2007، وهو ما يثير مخاوف من عودة الاقتتال الطائفي مرة أخرى. وبحسب بعثة الأمم المتحدة (يعكس تجدد العنف تزايد التوتر بين الحكومة العراقية التي يقودها الشيعة وبين الأقلية السنية التي تتهم الحكومة بتهميشها منذ الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين عام2003). وكان السيد عبد العزيز الحكيم قد أعلن من مدينة السليمانية أواخر العام 2005 ، أن ” الفدرالية خيار صحيح في كردستان العراق وخيار صحيح في وسط وجنوب العراق ذي الأغلبية الشيعية لأنها ستسهل “مكافحة الإرهاب”، متهماً “التكفيريين والصداميين” بمحاولة إشعال “نار الحرب الطائفية”. وأضاف “نعيش اليوم ظروفا حساسة، فالصداميون والتكفيريون مارسوا جرائم القتل الجماعي وعمليات التهجير والاغتيالات تعبيراً عن الحقد الدفين ضد آل البيت ومحاولة إشعال نار الحرب الطائفية للقضاء على المكاسب التي تحققت بعد سقوط صدام ونظامه”. فقامت الدنيا عليه ولم تقعد، واتهم الحكيم في حينها بأنه يسعى لتجزئة العراق، وكان النائب العراقي والوزير السابق وائل عبد اللطيف قد أعلن فشل مشروع إقليم البصرة، لعدم تمكنه من الحصول على نسبة 10 في المائة من أصوات الناخبين في المحافظة. وكانت مجموعة من المثقفين ورجال الدين تحدثوا عام 2005 عن مشروع إقليم الفرات الأوسط الذي يضم محافظات كربلاء والنجف وبابل والكوت، لكن المشروع انتهى بانضمام أنصاره الى المجلس الأعلى في الترويج لفكرة إقليم الشيعة بعاصمتين إحداهما اقتصادية في البصرة والأخرى سياسية في النجف. إن فشل فكرة الأقاليم بدءاً بمشروع إقليم البصرة وانتهاءً بمشروع المحافظات (الست)، دليل على رفض الشارع العراقي للفيدرالية برمتها، وقد التقط حزب الدعوة بقيادة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي مبكراً هذا التوجه وترجمه عبر المطالبة بتكريس سلطة المركز دستورياً بدلا من التوجه الى تشتيتها في السلطات المحلية. ولم يكرر رئيس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي السيد عمار الحكيم دعوة والده السيد عبد العزيز الحكيم لإقامة إقليم شيعي، بل أعلن تمسكه بالدستور كضامن لجميع العراقيين وكان ذلك خلال الاجتماع الرمزي الذي حضره قادة الكتل لتوحيد الرؤى والوقوف بوجه الإرهاب، وشهد مصافحة (تاريخية) بين رئيس الوزراء نوري المالكي ورئيس مجلس النواب أسامة النجيفي بعد خلاف بينهما استمر عدة أشهر، والاجتماع ليس مضيعة للوقت ولا مهرجاناً لتقبيل اللحى وتبادل العناق، فقد يكون ذلك الاجتماع هو نهاية العنف الذي يعصف بالعراق، العنف الذي تدعي بعض الأطراف بأن جذوره سياسية وليست طائفية، وتخفي أطراف أخرى عدم قدرتها على الدخول في مصالحة وطنية حقيقية بين الفرقاء السياسيين، تقدم تنازلات متبادلة بين أطراف النزاع من شأنها أن تنهي الإرهاب، والقتل على الهوية، والكراهية بين العراقيين، وتنزع فتيل الحرب الطائفية، وتقطع الطريق أمام مشروع بايدن.