منذ الأيام الأولى لاحتلال العراق كان هناك هاجس أو تخوف من قبل الأمريكان وحلفائهم (أعضاء مؤتمر لندن سنة 2002) من جهة لا زالت غامضة أو باعثة على القلق لأسباب عديدة، ولا زلت أتذكر جيداً تصريح جنرال أمريكي حول جماعة من الشيعة أسماها (الدائرة القلقة) و (الشيعة غير المنطقيين في جنوب العراق)، وهذا التصريح نقلته صحيفة “النبأ” التابعة للمعارضة العراقية الموالية لإيران العدد “214” بتاريخ (تموز 2001)، وهذا يعني أن هناك شيعة منطقيين (حسب المنطق الأمريكي طبعاً)، وشيعة غير منطقيين، وبطبيعة الأمور فإن الشيعة المنطقيين هم الذين اتفقوا مع الولايات المتحدة ودخلوا تحت عباءتها وعلى دباباتها سنة 2003، أما الشيعة غير المنطقيين فلا يتبقى غير جهة واحدة لا غير، وهم أتباع السيد محمد الصدر (قدست نفسه)، وبالتأكيد فإن قلق وتخوف الأمريكان كان في محله، ولكنهم تعاملوا بحماقة مع الموقف، فبالرغم من أن الصدريين لم يقوموا بأي عمل عسكري أو عدائي ضد أحد، إلا أن الدفع الذي قامت به جهات من (الشيعة المنطقيين) ضد التيار الصدري كان من أسباب شعور التيار بالخطر بالتالي ضرورة الدفاع عن النفس، وأتذكر جيداً تلك الأيام حينما قام بعض هؤلاء المحسوبين على الشيعة بالدفع باتجاه استفزاز التيار عبر إغلاق جريدة (الحوزة) والتي أَدَّت إلى تظاهرات سلمية قام بها أبناء التيار في الكوفة، وقد كان رد فعل القوات المحتلة دموياً، حيث قاموا بفتح النيران ضد المتظاهرين، ثم قاموا بملاحقة الجرحى إلى مستشفيات النجف وقتلوا الكثيرين منهم طعناً بالسكاكين، ومنذ تلك الأيام وقد اتخذ التيار جناحه المسلح المعروف، ومع تقدم الوقت أصبح التيار رقماً لا يستهان به في المعادلة. لا بد من التذكير أن أتباع السيد الصدر هم الذين أداروا شؤون محافظات الجنوب للأشهر التي تلت سقوط النظام، وقد كان أداؤهم مبهراً، بالرغم من الأخطاء، نظراً لحداثة التجربة، كما أن الجانب الأمني لم تستطع الحكومات العراقية المتعاقبة أن تصل إلى ما كان عليه في تلك الفترة، ومن المؤكد أن الصدريين لو استلموا يوماً مقاليد الأمور في العراق لشهدنا اختلافاً واضحاً في الوضع الأمني. ومن أوضح مصاديقها أن المحافظات التي يكون فيها التيار أقل نسبة من غيره يكون الأمن مفقوداً تماماً كما في محافظة ديالى. كما لا ننسى أن الحكومة أيام الموجات الإرهابية استعانت بشكل كلي بأبناء التيار لحماية بغداد وبابل، بينما احتفظوا بمؤيديهم (في الحفظ والصون)، فهم يكسبون (حسب ظنهم نقطتين) الأولى : التخلص من الإرهاب. الثانية : تشويه صورة التيار وتكبيده خسائر في أبنائه.
ومع مرور الوقت بدأ الصدريون يلتفتون إلى الجانب السياسي وألاعيب السياسة، واستطاعوا عبر عدة انتخابات أن يثبتوا أنهم ليسوا جهة هامشية، وهنا لا بد من التذكير أن الصدريين هم الوحيدون الذين يمتلكون قاعدة عقائدية، بينما باقي الجهات يعتبر مؤيدوها وناخبوها نسبة متحركة غير ثابتة، وذلك أن باقي الجهات تعتمد أما على الدعايات الانتخابية بالعزف على وتر العاطفة الدينية وضمان تأييد (المرجعية الكلاسيكية) أو بالتحالف المؤقت مع بعضها أو بتوزيع البطانيات شتاءً ومبالغ هزيلة صيفاً مع القسم (بحق العباس أبو فاضل) ليضمنوا تصويت الناخب لهم، وبالرغم من كل ذلك لا زال الصدريون ينبضون بالحياة في الشارع العراقي، وعندها لجأت السلطة إلى محاولة تصفية التيار في صولاتها الفاشلة. ولم تنجح هذه المحاولات أيضاً، مع أن رئيس الوزراء حاول أن يستفز التيار مرة أخرى حديثاً، من دون مبرر سوى تصريحات التيار بأنهم سيرفضون تسليمه السلطة مرة أخرى. فلو عدنا بالزمن قليلاً لرأينا أن سلبيات تسليم السلطة إلى المالكي أُلقيت تبعاتها على التيار، ولكن الحقيقة ليست كذلك، فمن الصحيح أنهم كانوا بيضة القبان ولازالوا، إلا أنهم كانوا آخر من وافق على ترشيحه، لأنهم واجهوا ضغطاً خانقاً من قبل التحالف عموماً، خاصة بعد رغبة مرجعية التحالف الكلاسيكية.
وها نحن اليوم أما مرحلة شاقة، خاصة أن الفترة السابقة شهدت محاولات حثيثة لشق صف التيار لإضعافه، ولكن المحاولات باءت بالفشل الذريع، فمن المؤكد أن من مصلحة البلاد بقاء التيار متماسكاً، خاصة بعد أن اكتسب خبرة في المجال السياسي والإداري، ولا أعتقد أن باقي المكونات تمتلك مؤهلات إدارية أفضل مما يمتلك التيار، ناهيك عن الحذر الذي يبديه مرشحو التيار والموظفون الحكوميون في مختلف المناصب، للشدة التي تتعامل بها قيادة التيار مع المفسدين منهم، عبر المصارحة مع الجمهور في بيانات معروفة، وهو سلاح أثبت جدواه بوضوح، وهذا لا يعني أن ليس هناك مساحات من الخلل والتقصير والفساد هنا وهناك، إلا أن الحال فيه أفضل من غيره بكثير، خاصة في المكونات النافذة والتي أوصلت البلاد إلى الحضيض.
من الضروري اليوم أن نعي مراهنة الجميع على التيار، خاصة أن البعض يمني النفس بالحصول على تأييده للحصول على رئاسة الوزراء، إلا أن علينا أن لا نقع في نفس المأزق، فالمعروض اليوم ليس أفضل من سابقه، ومن المعروف عن هذه الجهات سرعة نقضها للعهود، خاصة وأنها موتورة من الصدر الأب، ولا زالت حتى اليوم تكن له الحقد والبغضاء، مهما كانت الكلمات التي يلقونها في مناسبات أو ذكرى استشهاده، كما أن التيار ليس بحاجة الى استيراد أو استجداء من يقوم بقيادة البلد، فالأمر أصبح أسهل بكثير مما سبق، وأصبح أبناؤه قادرين على إدارة كافة نواحي الإدارة، كما أن السياسة أصبحت واضحة المعالم لهذا التيار الفتي، والذي اتضحت له أصول اللعبة، من هنا نقول إن المسئولية التاريخية الملقاة على عاتق التيار ليست بالهينة وعلينا أن نتعامل بحذر مع تقييم التاريخ، فها نحن نرى المرجعية الكلاسيكية تدير الأمور من بعيد، وتتحكم بكل مقاليد شؤون البلاد من دون أن تكون في الصورة، فالنجاح لها، والفشل على غيرها، كما جربنا ذلك لعشر أعوام خلت.
وهاهي الزيارات تترى على هذه المرجعية من الشرق والغرب، وآخرها زيارتي داود أوغلو ورفسنجاني، مراهنين على قدرتها بالضغط على كافة مكونات التحالف الشعي، ولكن اليوم ليس كالأمس، ومن أراد أن يتحمل المسئولية فعليه أن ينبري وليس أن يورط الآخرين بينما تتدفق على خزينته أموال (قومسيونات النفط) التي تدفعها شركة شل وغيرها، عبر المستشار القصير.
وكلمة أخيرة لأخوتي في التيار أنتم مؤهلون وأكفَّاء وقادرون على تحمل هذه المسئولية، ولا أعتقد أنكم ستنالون في حالة أي فشل أكثر مما نلتموه من التسقيط والتشهير، والذي قام ويقوم بهذا التسقيط من يحاول الصعود على أكتافكم لكي يتسلل إلى السلطة اليوم أو يفكر في ذلك غداً؟!!، وليس بعيداً عنكم تلك الجهة التي تزلفت لكم بقصد الحصول على وزارة السياحة والآثار لغرض التجارة والمتاجرة، والتي شنت هجوماً قذراً بعد رفض طلبها، فهذا المنصب وغيره جاء بعناء أبناء التيار والدماء التي بذلها، وقاعدته العريضة، وليس لأولئك القابعين في حماية بريطانيا.