ليس ‘الفيتو’ الروسي سوى تعبير عن الرغبة في الذهاب بعيدا في المشاركة في التأسيس لهذه المرحلة الجديدة، التي صار فيها استخدام السلاح الكيميائي في الحرب على الشعب السوري وجهة نظر وغطاء لمزيد من الجرائم.
في مثل هذا الشهر قبل ست سنوات قال الشعب السوري كلمته. انتفض على نظام أقلوي أراد استعباده إلى ما لا نهاية. كان انتقام النظام من الشعب السوري، ولا يزال، فظيعا. لم يعد سرا أن ما تشهده سوريا هو المأساة العالمية الأكبر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
قرّر النظام، بدعم إيراني وروسي، كشفه موقف موسكو الأخير في مجلس الأمن، أن المطلوب الانتهاء من الشعب السوري، ومن سوريا نفسها. هل تتمكّن الأطراف الثلاثة من ذلك؟ الثابت أنّها ستفشل في الانتهاء من الشعب السوري. لا يستطيع نظام القضاء على شعب، أيّا تكن الوسائل التي يلجأ إليها، بما في ذلك السلاح الكيميائي، وأيّا تكن القوى الخارجية التي يستعين بها. لن تتمكن الأطراف الثلاثة من القضاء على الشعب السوري، حتّى لو كان “الفيتو” الروسي الأخير في مجلس الأمن، وهو السابع منذ العام 2011، يعني تشريع استخدام السلاح الكيميائي في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري.
على الرغم من هذا “الفيتو”، الذي كان روسيا – صينيا، الأكيد أن الشعب السوري سينتصر. لو كان الشعب السوري سيتراجع، لما كانت ثورته مستمرّة منذ ست سنوات. لكنّ سوريا التي عرفناها لن تقوم لها قيامة للأسف الشديد بعدما خلقت الحرب المستمرّة منذ آذار ـ مارس 2011 وقائع جديدة على الأرض. لا بدّ من أن تكون لهذه الوقائع، التي هي أبعد من “الفيتو” الروسي – الصيني، انعكاسات في غاية الخطورة في المدى الطويل، خصوصا على بلد مثل لبنان، إضافة إلى دول الجوار الأخرى.
هناك ما هو أبعد بكثير من “الفيتو” الذي يعطي فكرة عن عجز روسيا عن لعب دور إيجابي في مجال البحث عن مخرج في سوريا. فإذا وضعنا جانبا المشكلة الضخمة الناجمة عن تدفق هذا العدد الكبير من اللاجئين السوريين على لبنان والأردن، تأتي على رأس هذه الوقائع تمكّن إيران من إزالة الحدود الدولية بين لبنان وسوريا. جعلت إيران، بفضل ميليشيا “حزب الله” التي ليست سوى لواء في “الحرس الثوري”، الرابط المذهبي فوق كلّ ما عداه، بما في ذلك الحدود المعترف بها بين دولة وأخرى.
إنّه الواقع الأخطر الذي تركته الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري. هذا الواقع سمح في وقت لاحق بظهور “داعش” وتوسّعه في العراق وسوريا متجاوزا الحدود بين الدولتين. هذا الواقع جعل من السهل قيام “الحشد الشعبي” الذي يضمّ مجموعة من الميليشيات المذهبية العراقية التابعة لإيران بالمشاركة بالحملة على “داعش”. ليس “داعش”، في نهاية المطاف، سوى تنظيم إرهابي يوفر كل المبررات التي يحتاجها “الحشد الشعبي” لتنفيذ ما تطمح إليه إيران في العراق، بدءا بتغيير طبيعة المدن في هذا البلد المهم الذي كان إلى ما قبل فترة قصيرة بلدا عربيا فيه قوميات عدّة، لكنه كان من بين الأعضاء المؤسسين لجامعة الدول العربية.
ليس معروفا إلى أي مدى ستتغير الخرائط نتيجة ما يمارس في سوريا، وما آل إليه الوضع فيها. لكن الثابت حتّى الآن أن طبيعة المجتمعات في كل دولة من الدول العربية التي تأثّرت بما يدور في سوريا ستشهد تطورات أساسية في ضوء وقوع أراضي تلك الدولة تحت أربع وصايات وسقوط الحدود اللبنانية ـ السورية لأسباب مرتبطة بالمشروع التوسّعي الإيراني.
بعد ست سنوات على الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري، تكونت في البلد أربع مناطق نفوذ. هناك منطقة نفوذ إيرانية، وأخرى روسية، وثالثة تركية، ورابعة إسرائيلية. المضحك المبكي في الموضوع أن النظام مازال يتحدث بين حين وآخر عن السيادة السورية بلسان بشّار الأسد أو أحد مساعديه.
من الصعب توقع كيف سينتهي الوضع السوري في المستقبل المنظور. لكن “الفيتو” الروسي الأخير لا يشجع على التفاؤل، خصوصا أنّه يعكس رغبة في دعم نظام مستعد لكلّ شيء من أجل القضاء على شعب بكامله.
هذا لا يعني أنّ في الإمكان تجاهل أن عنصرا جديدا طرأ على الوضع السوري. يتمثّل هذا العنصر الجديد في رغبة الإدارة الأميركية في إقامة “مناطق آمنة” داخل الأراضي السورية على حدود الأردن وتركيا… وربّما لبنان الذي زاره أخيرا السناتور بوب كوركر، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي. حرص كوركر، الذي كان مرشحا لأن يكون وزيرا للخارجية مكان ركس تيلرسون، على الذهاب إلى بلدة عرسال التي يفوق عدد اللاجئين السوريين فيها عدد المواطنين اللبنانيين.
فتح تجاوز “حزب الله”، أي إيران، للحدود اللبنانية – السورية، الباب أمام كل أنواع التغييرات وصولا إلى التدخل العسكري الروسي بهدف الحؤول دون الإعلان رسميا عن سقوط النظام. ما تشهده أرض سوريا حاليا من أحداث مصيرية مرتبط، إلى حد كبير، ببداية التدخل الإيراني عبر ميليشيات لبنانية وعراقية وأفغانية لإنقاذ النظام العلوي. أسّس إلغاء الحدود اللبنانية – السورية لكل أنواع التدخلات، وصولا إلى التواطؤ التركي مع روسيا كي يَسهل إخراج مقاتلي المعارضة من حلب.
الملفت إلى الآن، أن إسرائيل تتفرّج وتكتفي بتوجيه ضربات جوية بين حين وآخر تستهدف أسلحة وصواريخ مرسلة إلى “حزب الله” عبر الأراضي السورية. لم يصدر عن أي مسؤول إسرائيلي كلام يفهم منه ماذا تريد حكومة بنيامين نتانياهو التي تبدو راضية عن وجود منطقة نفوذ لها، كما أنهّا تنسّق بالعمق مع روسيا، باستثناء رغبتها في تفتيت سوريا، ملتقية بذلك مع ما يستهدفه النظام فيها.
يصعب توقع كيف سينتهي الوضع السوري في المستقبل المنظور. لكن (الفيتو) الروسي الأخير لا يشجع على التفاؤل، خصوصا أنه يعكس رغبة في دعم نظام مستعد لكل شيء من أجل القضاء على شعب بكامله
لعل أقرب ما يكون للموقف الرسمي لإسرائيل ما صدر عن رئيس الأركان ووزير الدفاع السابق موشي يعلون الذي يحضر مؤتمرا في موسكو لمؤسسة أبحاث تابعة للكرملين اسمها “فالداي”. قال يعلون الذي استقال العام الماضي من وزارة الدفاع، لكنّه لا يزال قريبا جدا من المؤسسة الأمنية والعسكرية، “إن إسرائيل على استعداد لدعم التعاون الروسي ـ الأميركي من أجل تقسيم سوريا إلى علويستان وسنّستان وكردستان”، مضيفا “أن سوريا والعراق من الدول الاصطناعية التي لا داعي لمحاولة إعادة إحيائها”.
لم يصدر أي رد على يعلون من المشاركين في المؤتمر. فضل المشاركون الروس وغير الروس الصمت. إنه تأسيس لمرحلة جديدة في سوريا بدأت بتطور في غاية الخطورة لم يحسب كثيرون لمدى أهميته وأبعاده يتمثل في الاستهانة بالحدود اللبنانية – السورية، والاستهانة بلعب ورقة الرابط المذهبي وجعله فوق سيادة الدول ومبدأ الانتماء الوطني أولا.
ليس “الفيتو” الروسي سوى تعبير عن الرغبة في الذهاب بعيدا في المشاركة في التأسيس لهذه المرحلة الجديدة، التي صار فيها استخدام السلاح الكيميائي في الحرب على الشعب السوري وجهة نظر وغطاء لمزيد من الجرائم.
يعبّر موقف موسكو، الذي تشارك فيه الصين، والذي يشجّع على ارتكاب مزيد من الجرائم في حقّ الشعب السوري، أفضل تعبير عن الاستثمار في كلّ ما من شأنه إقامة كيانات طائفية ومذهبية في كلّ منطقة المشرق العربي وما هو أبعد منه.
نقلا عن العرب