آه لو كنت تدري.. لما سألتني أين كنت؟..
جاء يسألني.. لائما.. معاتبا.. بالله عليك، أين كنت؟.. ماذا أقول لمن كان السبب في هذا الغياب ؟.. آه لو كنت تدري.. لما سألتني أين كنت ؟.. سؤالك، أيقض المواجع.. وسالت له المدامع.. جوابي سئمت منعه المسامع.. كيف لي أن أجيبك وأنت أدرى بالجواب مني؟..تلك أيام معدودة.. حسبتها ستمضي.. عشتها أسيرة.. بين المد والجزر.. بين ثورة الشك والغضب الساطع.. إنها رحلة بين الأمس والغد.. علي أجد في الهروب ملاذي.. فلم أجد سوى.. من هم أكثر هما مني.. رأيت عيونا تبكي لا تدمع.. أوجها كانت بالأمس تلمع.. كتبا تملأ الرفوف لا تقرأ.. بيوتا شيدت من المرمر حتى لا تسكن.. مسرحيات بلا عنوان.. تنتظر مخرجا.. وجدت أصحاب الفخامة لا تسود ولا تحكم.. شعوبا خلقت لتركع.. ترى في الدمى أعلامها.. وفي الهزائم أمجادها.. كبيرهم مريض.. وصغيرهم لا يفقه شيئا.. دساتير أبوابها مفتوحة بلا معنى.. شعوب صامدة بلا جدوى.. تصنع طواغيتها بيدها راضية مرضية.. تقدس من يذللها.. حد العبودية.. تكره من يرفع شأنها.. شعوب لا تشبه في شيء.. ما تحدثت عنه الأساطير والكتب السماوية.. هي مفردات بسيطة.. المروءة والشهامة.. الفخامة والسيادة.. الحرية والكرامة.. تكاد تخلو من قواميسها.. أصبح مفهوم الأرض والإنسان مجرد صفحة من تاريخها.. أجساد.. إرادة على الرصيف مركونة.. لا حياة فيها.. ودعتها الحياة منذ ستين عاما.. حكومات لا تستحيي أتت لتمثل نفسها.. برلمانات صورية.. لا ديمقراطية فيها.. مماليك.. على وزن صعاليك.. ولاؤها لجهات أجنبية.. أضحى أمرا ملحا.. حكامها.. تزحف نحو الاندثار.. تزج بشعوبها نحو الدمار.. وهي ضاحكة.. مدن عجيبة.. لا أحد يرغب في أن يسكنها.. منشآت فارهات على رأسها عقول فارغات.. أنظمة برأسين.. بوجهين.. بقلبين.. بقرنين.. تفتي في أمرنا.. أحكام تنطق في المحاكم.. ليست ككل الأحكام.. قرارات غير مستقلة في رأيها.. صناعها خدامها.. من الضفة الأخرى.. فرغم قانون الجاذبية الذي يحكمنا.. ورغم قانون القرب الذي يجمعنا.. اختارت الجارتان ألا تتفقا.. لا أدري كم من وقت مضى عن المعارك الضارية.. وكم من دهر سيكفي كي تنهض الآلهة.. هل أبكي اسبانيا عن كارلا التائهة.. أم أنعي جارتي الحائرة.. أم أبكي الوجه الشاحب والعيون الغائرة.. هل ابكي صمتك يا حجاج الذي أصبح يشبه صمت المدائن في العاصمة.. ؟ أم أعلن عن موت آدم الذي لم يعد بيننا.. أنظمة رجعية.. تقدم أبناءها قربانا للآلهة.. أنظمة رأسمالية.. فاسدة.. أينعت.. حان قطافها.. يا لها من ظالمة..
آه لو كنت تدري.. لما سألتني أين كنت.. غيابي.. هروبي.. هذياني.. فيه شيء منك ومني.. إذا كان الغياب قد دام أسبوعا أو أسبوعين.. فإنه نال مني عمرين.. الأول ضيعته في جمع العتاد.. بحثا عن الخلد.. والثاني أخذوه رغما عني.. تسألني يا حجاج عن سبب الاختفاء.. قسرا ام طواعية.. دلالا أم ضلالا.. لست أدري.. أهي رغبة في الاعتزال.. أم خطوتين نحو الأمام؟.. صدقني، لست أدري.. اعتكاف من أجل جلد الذات.. أم قصيدة عنوانها “أين كنت؟”.. هي مغامرة انتحار (Suicide).. أم محاولة البحث عن الحياة ) (Résurrection.. لست أدري..
التقيت بمن انتظرت مجيئهم للاعتذار.. وجدت نفسي أقوم بذلك بدلا عنهم أمام كل الأنظار.. تلك أيام.. أسبوع أو أسبوعان.. قمت بجولة علي أجد فيها ذاتي.. فلم أجد سوى ذكرى إنسان.. محطم.. مكسور.. بلا جدار.. شظايا ذكريات.. هنا وهناك.. جزر لم أجد فيها.. المتعة التي حكت عنها جدتي.. يوم الميعاد.. بل فيها موتى.. تحكي عذاب الدنيا للأموات.. ضحايا حرب غير متكافئة.. بطلتها تحاليل مختبرات.. تفقدت أحبابا.. أصبحوا اليوم في عداد المفقودين.. قمت بجرد الممتلكات.. علها تدلني على مكان عنوانه الصفاء.. وجدت رمادا.. دموعا سالت على أرض الأجداد.. تباع في المزاد.. وجدت خرابا سببه العناد.. شاهدت فلما اسمه الإخوة الأعداء.. ما أقساه من عناد.. فاللعبة واضحة للعيان.. مآمرة.. قد تدوم يوما أو يومين.. أسبوعا أو أسبوعين.. مسرحية لن يدفع ثمن تذكرتها.. سوى الأغبياء.. مهزلة.. سيحكيها التاريخ للأبناء.. مكتسبات.. تباع في زمن قل فيه الوفاء..