قبل الإعلان عن وفاته، انتشرت على الفيسبوك صورة للراحل في حال هزال شديد مع تعليق بان حمودي الحارثي( مواليد 1936) يحتضر في بيت للعجزة بهولندا دون رعاية.
بيد أن نعي أنجال حمودي لوالدهم لا يؤكد رواية الإهمال وان الأبناء يفتخرون بإرث فنان ترك بصمات قوية في مسيرة التلفزيون العراقي وتحولت أعماله مع سليم البصري وكوكبة من الممثلات والممثلين الى أمثال تحكى على مدى أجيال كان نصيب قسم كبير من أبنائها الهجرة والنزوح والتشرد في أرض الله الواسعة بمن فيهم الحارثي نفسه.
لا تتوفر معلومات كافية تليق بمسيرة امتدّت لعقود عن حمودي الحارثي؛ باعتقادي، خلا ما ورد عن نشاته الأولى في أحياء الكرخ ودراسته في بغداد وفرنسا لمدة عامين ومن ثم حصوله على درجة الدكتوراه دون تفاصيل وافية وحرص أنجاله وأقاربه على تسميته “دكتور” وكأن لقب ممثل ومخرج وكاتب سيناريو ومعد برامج لا يلبي الطموح في لف جسد الراحل بالنجوم وليس بالألقاب التي تحولت إلى سبة لمن يحملها عن جدارة بسبب الكم الهائل كالذباب من حملة “الدال” أخت ” الخاء” قبل و بعد احتلال العراق وتفشي التزوير في مختلف نواحي الحياة.
طال التزوير إرث الكوميديا العراقية الميمونة باسم الحارثي وسليم البصري وراسم الجميلي وغيرهم من جيل الرواد الذين ربما لم يبق منهم على قيد الحياة غير بضعة أسماء في الحلقة الذهبية للمسرح والسينما والتلفزيون.
فلم يجد منتجو المسلسل الكوميدي( أبجد هوس) غير موضوع محو الأمية لإمتاع المشاهدين . فيما اصبح مسلسل ( تحت موس الحلاقة) و أسم ( عبوسي) و ( حجي راضي) ومن معهما أقانيم في الذاكرة العراقية وعلامة فارقة لحقبة سياسية واجتماعية لم يتناول الباحثون عند دراستها ظاهرة عبوسي وحجي راضي في الوعي العراقي وتأثير جيل المسرحيين الرواد على مجمل الأحداث السياسية و اتسمت إجمالا بالعنف والانقلابات.
لم يتصد باحث على غرار ما قام به فواز طرابلسي في لبنان لتحليل ظاهرة فيروز والرحابنة في بلد الأرز . فقد أغفل باحثو بلد النخيل وأرض السواد تاثير الأعمال الدرامية والكوميدية على تعامل المجتمع العراقي وتأثره وردود فعله على سياسات أنظمة تعاقبت في الرقابة وفرض الممنوعات او سمحت بهامش من الحرية فجر ينابيع الإبداع غير القابل للتقليد .
كوميديا الحارثي ودراما خليل شوقي وقاسم محمد وابراهيم جلال وفاضل خليل والكوكبة اللامعة كلها لن تتكرر ليس لان الثقافة الفنية العراقية عقيمة، بل لان الإسفاف والتزوير وغوغائية ” سوق مريدي” والأحزاب الكسيحة اللصوصية في العراق بعد الاحتلال؛ أفرزت حكما يمثل اكثر أنواع الكوميديا السوداء فجاجة ؛ نظام لا ينتج ثقافة الضحك والإمتاع ولا يسمح بأعمال إبداعية يبذل معدوها جهدا فكريا حقيقيا للوصول الى المتلقي على عربة اسمها اللذة.
في السنوات الأول ما بعد الاحتلال سعت قناة الشرقية لتقديم مسلسلات تستوحي الإرث الرصين للدراما والكوميديا العراقية، لكن خزينها نفد في غضون أعوام قليلة ، وانتشر ” هوَس” المسلسلات الهابطة ولم تلتزم الأعمال التلفزيونية بقواعد و
” أبجدية ” متعارف عليها في إقصاء متعمد للغة الحوار ا القريب من الفصحى وفرضوا العامية ” الجلفية” و كأنها لهجة كل العراق وانتشرت المفردات الخادشة للسمع والصور النمطية المفتعلة والملفقة.
كان منتسبو الاذاعة والتلفزيون حقبة العقد الذهبي من جيل الحارثي يتندرون على هذا الصنف من الأعمال بتعبير
” يَخبُز” كناية عن عدم العناية بالإنتاج.
يرى الأكاديمي الماركسي فواز طرابلسي في الرحابنة و فيروز الظاهرة الأقرب ثقافيا الى الشمولية الوطنية. ولعل التشخيص ينطبق على ظاهرة عبوسي وحجي راضي، فقد اجتمع كل العراقيين المتنابذين ” من قال وبلا” على الإعجاب حد الإيمان والحفظ عن ظهر قلب لمقولات مسلسل حاول ” خبّازة” عاجزون تقليده فظهر على شكل مأساة فيما التأريخ يظهر في الإعادة على شكل ملهاة.
يوارى الحارثي في الأراضي المنخفضة الغارقة بالأمطار. لم يحصل كمئات والوف المبدعين من أجيال تنقرض لا على حقوق أو تكريم . وقبلها لم يرافق نعش سليم البصري إلى القبر غير حفنة من المشيعين كما يروي مجايل الحارثي والبصري قاسم الملاك، أحد آخر الحلقات المتبقية في السلسلة الذهبية للدراما العراقية المنقرضة.
آه ديكي!!
ياويلي عليك ياعراق!
سلام مسافر