18 ديسمبر، 2024 2:21 م

آن الوقت ليبتكر العلم صدق مكانه

آن الوقت ليبتكر العلم صدق مكانه

آنَ الوَقتُ لِيَبْتَكِرَ العِلمُ صِدقَ مَكَانهِ
وجدتني أنني لم أكتب سطرا قصيرا واحدًا عن ما تم بلبنان العربية وقت الانفجارات أو بمعنى أكثر دقة التفجيرات التي حدثت هناك ، لا من باب عدم الولاء أو الانتماء للعروبة وللمصاهرة العربية السياسية والاجتماعية والرياضية بين دول الوطن العربي الكبير مساحة ، لكنني في الوقت نفسه وجدتني أيضا مضطرا للتعاطف مع أهل لبنان في حادثة الانفجار التي وقعت والناس في غفلة ونوم عميق ، ليس بالضرورة من أجل الافتتان بالجمال اللبناني الساحر ، ولا بالجبال المكسوة بالأخضر الجميل ، أيضا لم يكن التعاطف بسبب مشاهدتي القديمة للبرنامج الباهت البليد الموسوم بستار أكاديمي الذي أصاب كثيرا من الشباب العربي بعقد نفسية مستدامة ، ولا بالقطعية بسبب تعاطف نسبي غير موجود من الأساس مع السيد حسن نصر الله وحزبه الديني السياسي الشيعي ، أيضا لا من أجل المشاهد الأكثر قسوة التي طالعتها على شاشة التلفاز فلدى ذاكرتي مشاهد أكثر قسوة وفظاعة .إنما لسبب مغاير تماما يتوافق مع قناعاتي الفكرية والوجدانية والتي انعكست بالضرورة على سلوكي الاجتماعي والشخصي ، تعاطفت من أجل صوت فيروز ، نعم هي فيروز وحدها التي تربطني بلبنان لا التاريخ أو حتى اللغة التي باتت متفرنجة لدى أهل لبنان .
فيروز التي حملت بصوتها عبر عقود طويلة أحلاما ومطامح عربية سادت وتسود بفضل صدقها الفني وتجربتها الأكثر ريادة ، تعاطفت أيضا مع لبنان من أجل الفاتنة ماجدة الرومي التي تعلمنا كل معاني العشق والغرام وشياكة العواطف من خلال صوتها الذهبي ، من أجلهما فقط كان التعاطف لأن لدي ولدى وطني العربي الكبير ثمة أمور وأسئلة راهنة تبحث عن إجابات شافية ووافية .
فمنذ أسابيع قلائل انتهت على خير انتخابات مجلس الشيوخ المصري التي أفردنا لها سطورا بالحديث عن الإحداثيات المتوقعة وقد حدثت بالفعل ليس ضربا من التنجيم إنما قراءة تأويلية لواقع معاش ، وللأسف لم تكن الانتخابات على مستوى المرشحين الذين فازوا فوزا باهتا أو الناخبون بنفس القدر من اهتمام الدولة المصرية بالحدث .
ورغم أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يسعى جاهدا لبناء وتشييد دولة على أسس وقواعد ديموقراطية رصينة تعتمد على المؤسسات التشريعية القوية إلا أن هؤلاء المرشحين ظنوا أنهم بصدد الترشح لانتخابات أحد الأندية بالأقاليم ، غابت البرامج الانتخابية وظهرت السير الذاتية وكأنهم يتقدمون للحصول على فرصة عمل لا أكثر ، لم يلتحموا بالشارع سوى أحزابهم وكأننا نعيد تجربة انتخابات مجلس النواب والشورى وقت حكم جماعة حسن البنا حينما وصلوا إلى سدة الحكم في غفلة تاريخية .
أيضا الناخب لم ير أية مصداقية تجاه المرشح المشهد الذي دفعه إلى التقاعس بل والسخرية أيضا ، وكل ما أرجوه من مجلس الشيوخ أن يظل ساندا ومساعدا حقيقيا للدولة والرئيس في مناقشة قضايا المستقبل واستشراف غد جديد يليق بالوطن الذي نشهد بالفعل أنه يتعافى اقتصاديا واجتماعيا .
ولست بمنأى عن مناقشة المجادلات الإعلامية بين مؤيد ومعارض بشأن زيادة أسعار مترو الأنفاق في مصر، أو تخفيض وزن رغيف الخبز وكنت أود بدلا من اجترار أحاديث شبكات التواصل الاجتماعي حول هذين الموضوعين أن أستمع إلى جلسات مجلس النواب التي ناقشت الأمرين ، وأكاد أظن أن المجلس لم يتطرق لمثل هذه الموضوعات لاسيما وأن أعضاءه اليوم باتوا على ترقب بالغ الإدراك والوعي باقتراب الانتخابات التشريعية المقبلة ولعل هذا المشهد هو صاحب السيطرة المطلقة على عقول الأعضاء الموجودين والطامحين في استمرار عضويتهم بالمجلس.
لذلك فضلت تناول القضية الأكثر حديثا في الأوساط المنزلية والإعلامية أيضا وهو إعلان نتائج الثانوية العامة وارتفاع نسب النجاح والمجاميع وأسعار الجامعات أيضا وكأننا نعيش في زيادة مضطردة دون الانشغال بانحسار مياه النيل التي نأمل في زيادة حصتها أيضا.
انتهى ماراثون الثانوية العامة ولا أعرف سبب التسمية بالماراثون وكأننا في لهاث طويل بنفس مقطوع بحاجة إلى غرفة العناية المركزة والبقاء لفترة على أجهزة التنفس الصناعي. وحينما انتهت التجربة لم نعرف الخطة البديلة التي طبقها واستخدما السيد وزير التعليم حينما عصفت بنا جائحة كورونا مدارسنا فتوقفت الدراسة وما كان عليه سوى تقليص المقررات التي امتحن فيها الطالب ونجح وظفر وحصل على أعلى الدرجات في تاريخ مصر التعليمي عبر عصورها وهو المشهد الذي ينبغي أن نتوقف أمامه طويلا بالتأمل من أجل انتقاده وبيان مثالبه لا الإشادة بالوزير وسياساته الغائبة التي أعنيها بعدم الإفصاح والإعلان عن خطة بديلة واضحة الملامح إزاء توقف الدراسة حتى ظهور النتيجة .
وبشتى الوسائل والطرائق وجدنا مئات بل ربما آلاف الطلاب الذين حصلوا على مجاميع استثنائية أشبه بفوائد القروض البنكية أو المنح والمساعدات الأجنبية التي تمنح لمصر سنويا ، مجرد أرقام دون دلالة أو رصد حقيقي للعائد التعليمي من هذه الدرجات المرتفعة، وهذا يدفعنا بقوة أن نعلن بأننا نقف بحق على أعتاب التجديد ، فهل هذا يقين ؟ وهل هذه الدرجات الاستثنائية وارتفاع المجاميع مؤشر حصري بأن هناك طفرة في إعمال العقل ومن قبله اعتماد تطبيق التكنولوجيا في التعليم والتمدرس؟ .
وربما تتفق معي أو تختلف بأن هناك بالضرورة ثمة عوامل ومسببات معرفية تكاد تكون متأصلة هي التي رسخت الاعتقاد لدينا بوجود أحكام مسبقة مانعة من النظر والتفكير في قضايا التعليم المعاصرة ، كذلك المشكلات والإحداثيات المتعلقة بثقافة الاختبارات والنتائج بوجه عام ، ويمكن إجمال هذه المسببات في سلطة مسميات كليات القمة ودخول كليات وبرامج تعليمية بعينها دون النظر بروية عن مدى صلاحية الطالب بتلك الكليات والبرامج الدراسية ، وهي سلطة تاريخية تم التكريس لها تحديدا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي يزعم أصحاب تلك الفكرة البائدة بضرورة دخول أصحاب المجاميع العالية كليات الطب والصيدلة والأسنان وغيرها من الكليات العلمية مثل الطب البيطري والتمريض والعلاج الطبيعي التي لا تزال تتسيد مشهد الارتقاء في السلم التعليمي منذ الثانوية وصولا إلى درجة البكالوريوس .
ويبدو أن ثمة علاقة وطيدة وقوية بين راديكالية التفكير في التعليم ومستقبله ، وبين التجديد والاجتهاد الفقهي والديني ، والشاهد يؤكد على أن تلك الراديكالية المطلقة لم تفكر بجدية في العلاقة المنطقية بين حصول طالب على درجات مرتفعة في مواد تبدو عاجزة وقاصرة عن تنمية التفكير الناقد والإبداعي التخييلي وبين دخول الكليات العلمية ، نفس الدرجة والقدر والمساحة بين حصول الطالب بالشعبة الأدبية على درجات مرتفعة في اللغات الأجنبية تجعله كفيلا باقتناص مقعد متميز بإحدى كليات اللغات .
كلتاهما ؛ راديكالية التعليم ، وراديكالية الفكر الديني لم يرهقوا أنفسهم بالبحث عن دعائم ومرتكزات معرفية وأيديولوجيات رصينة وراسخة تتمتع بقدر من المرونة من أجل توطيد تلك الفكرة التي يكرس لها أنصار كل فريق راديكالي بما يضمن لديهم ولدى أولياء الأمور والمعلمين من جهة ، وبين النخبة والتنويريين من جهة أخرى استمرارية الوجود والشهود الحضاري لتلك المعتقدات التي لم تصلح في ظل كشف عورة العلم والعلماء لدينا منذ جائحة كورونا الكونية المستبدة .
ولذلك تشهد الجامعات الكثير محالات فشل الطلاب الأكاديمي عند التحاقهم بالكليات التي اتفق على تسميتها بالقمة ، نظرا لاختلاف الاستعدادات والإمكانات من جهة ، ومن جهة أخرى أن غياب معايير ومؤشرات لقبول هؤلاء الطلاب الحاصلين وفق بطارية اختبارات تقيس قدرتهم الاستشرافية للالتحاق بهذه الكليات .
هذه الملامح السريعة تجعلنا نقف قليلا عن كلية من الكليات العلمية وهي كلية العلوم التي تنتشر بكافة جامعات الوطن العربي ، وإذا اقتنصت من وقتك بعض الدقائق وأجريت استطلاعا للرأي حول الطلاب الذين التحقوا بمثل هذه الكليات وهي كلية العلوم الأساسية الخاصة بدراسة الكيمياء والفيزياء والأحياء وعلوم الحاسب وعلوم الحيوان والجيولوجيا لاكتشفت أو لوقفت عند جملة من الحقائق التي تؤكد يقين هذا الفشل والتقاعس والتخاذل العلمي من جانب علمائنا وأساتذتنا الأكاديميين المتخصصين في العلوم إزاء كل المشكلات التي تعتري واقعنا العربي والمصري على السواء .
ستجد أن المنتسب لكلية العلوم هو من خاب حظه ومستقبله الذي ظل يحلم به أن يلتحق بإحدى كليات القطاع الطبي فيصير طبيبا ، ولا ولن أصدق طالبا واحدا يدعي أنه دخل كلية العلوم في أية دولة عربية من أجل أن يصير عالما اللهم إن كان والده يعمل بتلك الكليات ويتخذه مثالا نموذجيا لمستقبله ، سوى ذلك فالكلية صارت ملجأ طبيعيا وفطريا لمن فشل في اللحاق بكليات الطب والصيدلة والأسنان والطب البيطري والتمريض فلم يجد سوى كلية علمية أخرى تعوض إخفاقه في الثانوية العامة الماراثونية ومن أجل أن يلتصق بمؤسسة علمية تصبح بديلا مناسبا لما كان يطمح إليه وتتناسب مع دراسته في مرحلة الثانوية .
هذا مشهد كفيل بأن يظل الطالب طوال سنوات دراسته يفكر فيما كان يسعى إليه وهو طالب بمرحلة تسبق الجامعة رغم أن الجامعات العربية والمصرية لو كلفت نفسها وأعدت مجموعة من الاختبارات المتخصصة لقياس الاستعدادات العلمية لكان هذا الطالب أولى الناس بالالتحاق بما كان يرغب دراسته ، لكن فكرة الاعتماد والاقتصار فقط على المجموع هي سبب حرمانه ، الأمر الذي سيؤثر على حالته المزاجية بعد ذلك لأنه يبحث عن ماضي مستقبله وهو يعيش الحاضر ، هذا إن أصبح بعد ذلك أستاذا أكاديميا من المنوط به أن يصير عالما متخصصا يحل مشكلات بلاده فيما بعد وهي رغبة وطنية لدي ولدى رئيس الجمهورية المصري عبد الفتاح السيسي حينما دعا علماء مصر أن يكونوا سباقين في اكتشاف أو إنتاج أو حتى تخمين لقاح يواجه جائحة، لكن هذا الأستاذ لن يحل شيئا لأنه تفرغ لأبحاثه التي يترقى بها في السلم الأكاديمي والمجتمعي وهو بالضرورة لم يكن مؤهلا أيضا لأن يصير عالما للأسف.
وهذا ليس من باب النقد أو الانتقاد لحالات بدت كاشفة لواقعنا العلمي الراهن ، فهذا يأتي من المعمل ، وذاك يحضر أدواته العلمية وتراكيبه الأكثر تخصصا والنتيجة لا تحتاج إلى جواب ، حتى تدريب الطالب الذي يدخل الكليات العلمية فهو بحاجة ماسة إلى التدريب ، بالنسبة لكليات القطاع الطبي الأمر يبدو سهلا يسيرا ، فتدريبه يتم بالمستشفيات الحكومية التابعة للجامعات والدولة ، لكن في حالة تدريب طلاب كليات العلوم الأساسية التي نعتمدها نظريا بأنها المؤشر الحقيقي على تقدم الأمم وتطور الحضارات ، هذا التدريب ـ وإن أخطأت الوصف والتوصيف ـ يتمل بداخل معامل تلك الكليات غير المتطورة أو المؤهلة والكفيلة بإعداد عالم متخصص في مجاله ، ووفق إمكانات مادية قد لا تليق بالصنع والصنيع الاستشرافي .
والمستقرئ والرائي لواقع وراهن البحث العلمي في الوطن العربي يفطن إلى حقيقة مطلقة ثابتة وراسخة هي أننا لم نعد بالقدر الكافي من حيث الكفاءة والمقدرة العلمية لمجاراة ومنافسة علماء الغرب ، ولا تكفي حجج الأكاديميين العرب من نقص الإمكانات المادية والمعامل المتطورة ؛ لأنهم يدفعوننا إلى الظن بأنهم مقطوعي الأيدي ، وأن ما درسوه بالخارج والداخل مجرد شذرات ولطائف علمية لا أكثر ، فالمتابع للمشهد العلمي بالجامعات يرى الكثير والكثير من معامل العلوم المتطورة ، والكارثة الشجونية هي أن معظم الدول العربية منذ سنوات ليست بالبعيدة بدأت في تدشين وافتتاح مدارس رائعة للمتفوقين في العلوم والرياضيات والهندسة والتكنولوجيا ، ومدارس أخرى تقنية متطورة وذلك في مراحل التعليم قبل الجامعي ، ورغم هذه القفزة الاستباقية في التعليم المدرسي وما أفرزته من نماذج طلابية متميزة بالفعل شاهدتها بنفسي ، لم نر هؤلاء الأكاديميين يقتربون شيئا فشيئا من مشكلاتنا المجتمعية والصحية والاقتصادية والإنسانية لإضفاء البصمة العلمية على تلك المجالات الحياتية .
فوجدناهم يكتشفون ويبتكرون ويبرهنون ما لا طاقة لمجتمعاتنا العربية بها ، وهم يتوهمون أن مفاد مخترعاتهم وأبحاثهم تضيف لإنسانية العرب المعرفية ، لكن حقيقة الأمر أن علومهم لم تعد صادقة لمجابهة واقع معاش وغد أكثر التصاقا بواقعنا العربي.
أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية (م)
كلية التربية ـ جامعة المنيا