لم يعد جديدا على العراقيين الولوج في الأسوأ بعد النفاذ من السيئ، كما لم يعد غريبا عليهم الوقوع تحت براثن “أمعط” بعد الخلاص من مخالب “معيط”، فكأن بيتي شعر قديمين قد تجسدا فيهم، إذ يقول منشدهما:
عجبا للزمان في حالتيه
وبلاء ذهبت منه اليه
رب يوم بكيت فيه فلما
صرت في غيره بكيت عليه
وهذا ماتثبته الأيام والسنون ولاسيما بعد عام السعد.. عام الانفتاح.. عام الديمقراطية عام 2003. فبعد خمس عشرة سنة من انتهاء حقبة حكم البعث، كان من المفترض ان ينتقل البلد الى حال أفضل، بفضل النظام الجديد المعتمد في إدارة مفاصله، وهو النظام البرلماني الذي صفق له كثير من العراقيين، باحتسابه نظاما يحرره من ربقة النظام السابق وقيوده، ويفك الكبول عن آليات إدارة الدولة التي كانت حبيسة مزاج شخص واحد وأهوائه، ويفتح أبواب التغيير على مصاريعها، بمأسسة وفدرلة وتعددية ينعم العراقيون تحت ظلها بحياة مرفهة، بعد عقود الظلم والجور التي عانوها. إلا أن الذي حدث هو انزلاق العراق في هوة سحيقة، دفعه اليها أرباب المناصب العليا في النظام الجديد، بعد أن قلبوا ظهر المجن أمام ناخبيهم الذين وضعوا علامة (صح) أمام أشخاص وقوائم خدعوا ببهرجها البراق، وانطلت عليهم لعبة (عرقوب) ومواعيده، فإذا بهم -الناخبين- يستصرخون الغوث مما وصلت اليه أذرع أخطبوط النظام البرلماني المنتخب، بعدما تبين خيط فساده الأسود في عموم البلاد، وعيثه وإزراؤه بمصالح العباد، أما الخيط الأبيض في النظام البرلماني بما يحمله من حصانة ومنَعة، فقد نسج البرلمانيون منه شرنقة، إلا أنهم لم يكونوا عذراء داخلها، فشتان بين العذرية والنيات المبيتة في نفوسهم، فقد انزووا الى حيث المصلحة الشخصية والفئوية والحزبية، وكذلك العشائرية والطائفية والإقليمية، وبعد أن كان الناخب يمثل لديهم رقما هاما في صناديق الاقتراع، صار يمثل (صفرا على الشمال).
وبعودتنا بالزمن ثلاثة أعوام أو أكثر قليلا، نستذكر دعوة الخيرين والحريصين على البلاد ومصائر العباد، ونداءاتهم الملحة الى تغيير النظام البرلماني الى نظام رئاسي، بعد أن طفحت على سطح العراق تبعات وعواقب سياسية واقتصادية واجتماعية، أثبتت سلبيات النظام البرلماني ومساوئه والتداعيات التي أفضت اليها طبيعته على يد المتحكمين بالقرار العراقي، وما تأكيد المنادين باستبداله الى نظام رئاسي إلا لكونه المعضلة الأساس فيما وصل اليه الحال من تردٍ وسوء مآل.
نعم، هذا الذي حدث، وهذا ماجناه العراقيون من غول النظام البرلماني، إذ تناسل هذا النظام في العراق الجديد، فوُلد التوأمان؛ المحاصصة السياسية والطائفية الحزبية، واللذان بدورهما خلفا كل أشكال الفساد وأصنافه المالية والإدارية وكذلك القضائية. وليست ببعيدة المؤتمرات والاجتماعات وكذلك التظاهرات، التي ملأت -ومازالت تملأ- شوارع المدن والأقضية والنواحي في محافظات العراق كافة، مستنكرة ومستهجنة النظام السياسي المتبع منذ سقوط نظام صدام حتى اليوم، وأثبتت بما لايقبل الشك عدم جدواه في النهوض بالبلد الى حيث يليق به وبشعبه.
وكتحصيل حاصل فإن وضع بلدنا اليوم في منعطف خطير، حيث أوصله ساسته بنظامهم البرلماني الى بلد حاصل على الدرجات العليا والمواقع المتقدمة بين بلدان العالم، إلا أنها في إحصائيات الفساد والجريمة، علاوة على إفراغهم خزينته من المال وضعضعة غطائه الذهبي، ماينذر بعاقبة سيئة بل سيئة جدا في المستقبل القريب قد تمتد الى البعيد، وهذا ما يطرحه بين الحين والآخر محللون اقتصاديون على طاولات اللقاءات والندوات، معززين توقعاتهم بالشواهد الحية والأدلة الواضحة والقرائن الثابتة والأرقام الحقيقية، على أن مقبل الأيام سيكون شد الحزام عن آخره خيارا لا ثاني له أمام العراقيين، والبركة قطعا بالأخطاء المتكررة في المجلس التنفيذي والمجلس التشريعي وكذلك المجلس القضائي بدوراتها المتعاقبة الثلاث، وكذلك الرابعة التي بين أيدينا. وهنا على النظام البرلماني رفع رايته البيضاء، بعد أن سود رؤوس الحكم رايته فيما وصل اليه البلد.