أنتظر عودته كل مساء, وتبقى عيناي متعلقة, بطريق الإياب, بمجرد أن أسمع الباب يطرق, أهرول مسرعا, لأكون أول المستقبلين, عاد والدي يحمل, معه الدفء والطمأنينة, وعبق الأبوة, ويملأ البيت بضحكات, أنتظرها بفارغ الصبر, بعد إنقضاء يومٍ طويل, ولا أنسى الحلوى, المفضلة التي أحب, كل تلك المشاعر المختلطة, أختصرها بكلمتين عاد أبي.
من اليوم وصاعدا, لن أنتظر, ولن أراقب الطريق, و لن يرضي طموحي, حلوى بعد الآن, بل ما يرضيني, إرث كبير قرر أن يتركه, لنا الوالد حين, أرتدى بزته العسكرية, أنه أرث لا ينتهي مهما, طال الزمن ولن يندثر, بل يتجدد كلما ذكر الفخر في موضع, وكلما ذكرت كربلاء, وكلما ذابت القوب حسرة, وأرتفعت الأصوات لتنادي ,يا ليتنا كنا معكم, فنفوز فوزاً عظيماً, نعم إنه الفوز العظيم, الذي يتحسر عليه الجميع, منذ معركة الطف لغاية اليوم, أنه عبق الرجولة, الذي أشمه في ثياب والدي, وأجده بين حروف أسمه, وحين أدخل غرفته.
هذا هو الإرث الكبير, الذي أحدثكم عنه يا سادة, إنها الشهادة, في سبيل الدين والوطن, فقد نقش والدي ,أسمه في ذاكرة التاريخ التي, لا يرد في قاموسها النسيان, بحروف من نور, ممزوجة بعطر الرجولة, يفوح منها شذى كربلاء, ونسج من خيوط الشمس وشاحاً, زين به أكتاف المجد, وأختار بياض الوجه, يوم تسود وجوه وتبيض وجوه.
إنها نعمة توجَب علّيَ الشكر للباري, فأنا أبن من جاد بنفسه, وحمل العراق بقلبه, لست أبن مسؤول فاسد, حمل أموال, العراق بجيبه وحقائبه, فأورث أبنائه العار, فالفرق شاسع جداً, بين أرث تركه والدي, وأرث تركه مسؤول فاسد, لأبنائه وملئ بطونهم من أموال السحت, فشتان بين العار والإفتخار.
نعم فقد وسمت صدر والدي, جراحات تنزف مسكاً ,كجراح جون في أرض الطفوف, ووقف شامخاً كعابس, الذي لم يحنِ رأسه للسيوف, فأصبح أبي, أهزوجة نصر سترددها الأيام, سأمشي بين الناس, وأخبرهم عن صنيع والدي, فأجيب كل من يسألني “آني إبن المايدنك للرصاص… لو ردت تعرف شكول….. روح للتاريخ عني واسألة”,
هذا ما قرأته في ,عيون أبن الشهيد البطل, حسن كاظم, من أبطال سرايا العقيدة, فقد وجدت في ,صورة أبن الشهيد, الصغير بعمره, الكبير بعنفوانه, صنيعاً لا يقل عن صنيع والده, فهو يقف قرب صورة والده ,يرفع شارات النصر, ولم ألمح في عينيه إنكسار اليتم, أو وهن يشعر به الفاقد, نعم هذا هو جيل, تربى على أمجاد الطف, فلن يكون عطائه, أقل من ذلك, السلام على شهداء العراق, وأبنائهم وعوائلهم, فهم جميعاً يكتبون تاريخ العراق الحديث, فيجودون بالنفس والولد.