23 ديسمبر، 2024 9:13 ص

آلية التلقائية في توثيق بعض تجارب الشخصيات الثقافية العراقية

آلية التلقائية في توثيق بعض تجارب الشخصيات الثقافية العراقية

من النادر أن يجد القارئ،  في هذه الأيام، تجارب ثقافية مختصرة  تضم قيماً سائدة في الشعر والسرد والفلسفة في كتابٍ واحدٍ بصفحاتٍ متتالية. أنهيتُ اليوم قراءة كتاب  يخلو من التلقين والمواعظ والدعاية . كما انه لم يكن مبشراً جوالاً لمضامين معينة او لموضوعات محددة ، بل حدد هويته ،منذ البداية،  أنه يصبو الى التاريخ والتوثيق عبر القدرة على التحليل والتدقيق.  في القسم الأول اخذ اشكالاً مختلفة في (الشعر) بينما ا(القسم الثاني) من الكتاب تخصص بالتوجه الى (السرد القصصي والروائي).  جميع صفحات الكتاب وعددها 150 كان هدفها طامحاً إلى تغيير وعي قارئ الشعر والقصة من خلال عرض ومناقشة جميع النقاط ،التي ما زالت تثير جدلاً وخلافاً في القضيتين الاساسيتين، الشكل والمضمون. أما القسم الثالث منه فقد تخصص في كشف الرؤية عبر الجانب الفلسفي – الاخلاقي – الثقافي.

هناك الكثير من عشرات الصفحات تندرج في خانة الذكريات والمذكرات كنت قد قراتها على صفحات الصحف اليومية بقلم الكاتب البصراوي (جاسم العايف)  الذي اعلن، هنا،  اعجابي بأسلوبه ، متميزاً بالدقة والسلاسة ،  يتدفق فيه العلم عن الفعاليات الادبية والفنية في مختلف المراحل التي غلفت البصرة بكبت حرية التعبير وضيق النشر.

كتاب اليوم ،الذي أنهيتُ قراءته،  وصلني، هدية من مؤلفه جاسم العايف ، بعد انتقاله من يدٍ إلى يد ، جوالاً من دولة إلى دولة ، من طائرة إلى طائرة، حتى استقر أمام عيني قارئا لصفحاته المعدودة  خلال يومين وبضع ساعات. وجدتُ فيه دمجاً بين مضامين جديدة واساليب جديدة بقوة جاذبة للقراءة .

أول شيء أقوله ،هنا، أن الكتاب، المؤلف والمكتوب في مدينة البصرة، لكنه المطبوع والمنشور في مدينة النجف.  بالنظرة الأولى  سألت نفسي: كيف ولماذا نشأت جادة او جسر بين مدينة كبرى مشهود لها بالتأليف والنشر وبين مدينة صغرى مشهورة ،أيضاً، بالتأليف والنشر ..؟ هل اصبحت المدينتان تتعاونان على الاشتراك في تنمية الوعي العراقي..؟ هل صار بالإمكان تنشيط حركة المؤلف في البصرة وتحريك نشر منتجه في مدينة النجف..؟ الجواب على هذه الأسئلة قدمها كتاب عنوانه (مقاربات في الشعر والسرد).  اعجبتني هذه المعادلة الواقعية ، خاصة وأن كتاب البصراوي (جاسم العايف) صدر من منشورات مجلة الشرارة النجفية ، بقدرة عالية من الدقة والطباعة والجمال، بتصميم الغلاف رائقاً خلقه الفنان (جواد المظفر) وبمجمل الاخراج الفني كان من فعل الفنان (محمد الخزرجي). المعنى الاول لسمة هذا الكتاب هو أنه نتج  عن عمل جاد لدار نشر شيوعية في بلدة محافظة معنية بالسياحة الدينية والدراسات الفقهية.

في القسم الاول من الكتاب وجدت مستوى معبراً عن بعض حالات الشعر والشعراء أخضع المؤلف  أغصانها وأورادها وأثمارها لدراسة مكثفة معززة بنقاش فكري فيه تشديد على تصوير المضمون الشعري واساليب الشعراء ، بكاميرا حساسة حملها المؤلف جاسم العايف.

تنقل الكتاب  بين شعر الشعراء مهدي محمد علي وحسين عبد اللطيف والشاعر الشاب مهدي طه، الذي وُجدتْ جثته غريقاً عام 1975 في نهر الحكيمية المجاور لأجهزة القمع البوليسية القمعية في مدينة البصرة.  كانت سطور المؤلف جاسم العايف إدانة قاسية  لصفحة من صفحات أرشيف نظام صدام حسين المختفية اساليبه النازية ، أنذاك،  خلف الشعارات الوطنية الزائفة  في فترة الجبهة الوطنية.  كانت هذه السطور تعبيراً عن شرف الكلمة في الحديث بشيء من التفصيل المكثف عن حياة وقيم وتجارب ضحايا النظام الدكتاتوري. كذلك كانت شخصية الشاعرة اطوار بهجت  والشاعر عبد الخالق محمود والشاعر ثامر سعيد موضع الدراسة النقدية من قبل جاسم العايف  خلال فترة ما بعد سقوط نظام صدام حسين.

 انتقل المؤلف الى مناقشة موضوعة هامة عن جدل الشعر من خلال كتاب خالد خضير الصالحي.  كما وظّف  فسحة من صفحات كتابه للحديث عن فعالية راقية حول قصائد الشعر العربي انشأ معناها و تجاربها والتزاماتها ومنجزاتها الدكتور سلمان كاصد . بكتابةٍ كثيفةٍ مركزة ،استهدف جاسم العايف مهمة تعزيز ثقة الدكتور سلمان بقصيدة النثر، بما تحمله من ديناميكية واحاسيس غير مصطنعة في عصر التقدم العلمي والتكنولوجيا، مع انعكاس صورة القصيدة التفعيلية والكلاسيكية على جماعة شعراء قصيدة النثر.

خطوة اخرى بهذا التسلسل الشعري في القسم الاول من كتابه قال جاسم العايف آراء صادقة  بمقالة تعاقبية حول بدر شاكر السياب وانشودة المطر، مقدماً بذلك شيئاً من الصور النقدية الملموسة في العلاقة بين الشعر والتطور، بين الشعر والثقة بالتجديد، بين الشعر والاختيار الابداعي. ربما حاول في تطرقه الى الشاعر الامريكي براير ترنر أن يدخل الى ميدان الشعر العالمي بأسلوبٍ عالٍ من المقدرة على الكشف ،والتوازي، والمجازفة.

القسم الثاني من الكتاب خصصه المؤلف إلى واقع تجارب بعض الروائيين والقصاصين العراقيين. كانت النقطة المركزية في مقالاته قد تركزت على الرغبة في دور الروائي والقصاص، على كشف العلاقة بين الانسان العراقي والنظام، بين الانسان والمجتمع، بين الانسان والحاجة المادية، بين الانسان واخية الانسان، بين الانسان والأمل، بين الإنسان والألم . تناول نماذج عديدة من العاطفة والطبيعة والوعي وحركة البطل وتفحصه نقدياً في منظور روائي وقصصي لدى كتابات محمد سعدون  السباهي داخل مجموعته ( كوكب المسرات ) ولدى زيد الشهيد في رواية (افراس الاعوام) ولدى زهير الجزائري في (اوراق جبلية)  ولدى غائب طعمة فرمان في ديناميكية  اعماله الروائية، ولدى جميل الشبيبي وشخصياته الثنائية في (مدن الرؤيا).

كذلك قام جاسم العايف بشكل ضمني و صريح في ملاحظاته عن المجموعة القصصية المعنونة  (انكسارات مرئية)  للقاص ياسين شامل.  كما تضمن الكتاب جماليات المسرح بين الأنثروبولوجيا الوصفية والعلوم الاثارية وتحديدات هيغل في (الجمال الفني) كمدخل لحوار ضمني مع الدكتور كمال عيد في كتابه عن (الجمال المسرحي) إضافة إلى معارف الموسوعة الفلسفية السوفيتية ترجمة سمير كرم .

في ميدان المسرح وثقافته تناول جاسم العايف الذاكرة الخصبة للناقد المسرحي حميد عبد المجيد مال الله حيث الرمزيات والمواقف والسلوكيات في بحثه داخل عدد  من المسرحيات العراقية من وجهة نظر النقد المسرحي التطبيقي.

اختتمتُ قراءة كتاب العايف بمتعة وفائدة وسرور  بما قدمه من معلومات دقيقة صادقة آخرها  عن الباحث خليل المياح و(استقلالية العقل ام استقالته). هنا نفهم اثار السيرة الذاتية والسيرة السياسية في خلق الشعور الوطني العميق من وجهة نظر فلسفية مقرونة بالثقة الثقافية العامة.

تكتمل في الصفحة الاخيرة  من الكتاب الغاية الاساسية، التي زرعها المؤلف، فقد اتّحد قلمه مع واقع عالم الشعراء والقصاصين والباحثين في مدينته البصرة  وغيرها إذ تابع ،بمعظم صفحاته ،تخوم الناشطين الثقافيين  ، البصريين بصورة عامة،  لتأمين حاجتهم إلى التوثيق الذكي الغني بالمعرفة والمعلومات الصادقة والتحليلات والذكريات بغية إحلال صفة التوسط بين الباحثين في المستقبل عن العالمين الداخلي والخارجي المتعلقين بالثقافة العراقية .

اعتمد المؤلف على متابعة الذات، والعائلة ،والمجتمع، والاضداد، والاضطهاد السياسي، في خلق تطبع الشاعر والروائي والقاص والناقد والمسرحي والباحث،  مع المحتوى الاجتماعي لتحويل ديناميكية الثقافة الى أداة نضالية ضد العزلة والانعزال ، ضد السيطرة والخضوع، ضد خنق الحرية، ضد تحويل الناس الى جرذان خائفة في ظل جمهورية الخوف، تحت حراب انظمة القهر والدكتاتورية، ،سواء من زمان  مولد النازية والفاشية لدى هتلر وموسوليني وفرانكو وصدام حسين وبنوشيه، أو من ركام هيروشيما  ومولد الحروب غير المنتهية ،حتى الآن ،في منطقة الشرق الاوسط ، مستلهماً منها أن فنون الانسان تشكّل حكمة من أحكام عادلة دوّنها جاسم العايف، بتحاليل عادلة وصادقة ،  في كتابه الغزير، الذي ضم 150 صفحة من  تجارب الثقافيين في الوطن العراقي، الثقافيين  المتساندين، المجددين ، من أجل أن يكون العطاء الإبداعي جزءا من التاريخ  .