23 ديسمبر، 2024 11:32 ص

حكايات الصبا تكاد لاتفارق ذاكرته المرهقة بذكريات مكتظة بمشاعر تراوحت بين ضحكة هنا ودمعة هناك..، وهو يركض مع رفاق له، بين أزيز الرصاص المتناثر حوله والذي لم يكن ليطغى على همسات من تلك الحكايا، تداعب ذهنه، بحلوها ومرها.. بمسراتها وآلامها.. فبين طيّات الذاكرة تُختزن جزءا من ذاكرة وطن.. لتشهد ان ابناء هذه الارض رفضوا الذل والخنوع والعبودية.. وهو مادفعهم لمواجهة الموت وجها لوجه..

كان “الأسطة” راضي بناءا ماهرا بشهادة جميع من تعامل معه، رجل اختطت سنواته التي جاوزت الاربعين علامات من الوقار على وجهه الذي اكتسب سمرة الارض الطيبة، حيث ولد وترعرع بين احضانها، في بلدة تحتضن النهرين العظيمين.. وفيها نسجت اولى ذكرياته.. لم يكن يعي اولى الحكايا التي ترسخت في ذهنه حين كانت الايادي تمسح على رأسه الصغير وهو يحدق في وجوه مفعمة بالحزن تنظر اليه بنظرات لم يعرف لها معنى، حتى بلغ من العمر مبلغا ليدرك انها نظرات عطف لطفل يتيم.. اذ فقد اباه الذي يكاد لايتذكر له ملامحا لولا بعض الصور التي كانت تحتفظ بها امه التي اخبرته كيف ان اباه كان من الاولين الذين التحقوا للدفاع عن عرض انتهك من قبل كهنة الهيكل، وكرامة مرغت في الوحل، فذهب حاملا سلاح الكرامة، وعاد حاملا وسام الشهادة..

طفل يتيم، وعراق يذبح كل يوم، وأرض تأبى الا ان تكون طيبة، تقاذفت به الاقدار ليرضى بكفاف العيش الذي حال بينه وبين تحقيق احلام كبيرة كانت تدور في ذهنه، لكنه كان كأسمه راضي بما أختط له القدر، ومنبع رضاه ان الكثير من اقرانه لم يكونوا أوفر منه حظا في هذه الحياة..

لم ينه مراحل دراسته الابتدائية حتى سجلت ذاكرته الكثير من مآسي وطنه وهو يحترق بنيران حرب شرسة، ويرزح تحت سياط جلاد أشرس، لكن القدر ابتسم له اذ لم يشارك في لهيبها، حيث لم يبلغ من العمر السنون التي تسمح لجلاوزة الجلاد بجره الى نيرانها التي احرقت اليانع قبل اليابس، وانهكت الارض والعباد بحرث غير حرثها..

ولم يكن حظه في العمل بأفضل كثيرا اذ جرب العديد من المهن الصغيرة التي لم يخطر على باله يوما انه سيقوم بها.. لكن العمل في تلك البلدات الصغيرة لم يكن بذي نفع، ولايكاد يسد للعيش رمقا خصوصا ان والدته التي ارهقتها الحياة بأعبائها لم تعد قادرة على تلبية احتياجاته واخوته..، فكان لابد له من الجري في حلبة اكبر، لتتوجه انظاره نحو العاصمة بغداد..، كان يمني النفس بتحقيق جزء من احلام الصبا..، وما أن وطئت قدميه ارض العاصمة حتى تقرحت في بحثه عن كوة من الامل تخرجه من ضنك العيش..، فلم يجد بدا من العمل في اشقى الاعمال..، حيث بدأ عاملا بسيطا في البناء.. ليصبح أحد أمهر نظرائه من البنائين في بغداد التي كانت تشهد حركة حثيثة في البناء بعد ان وضعت الحرب اوزارها..

أشهر ذاقوا فيها بعضا من الهدوء، لم يكن مجموعها يتجاوز العامين الا وهبت بعدها عاصفة من تلك الصحراء، لتعلن عن بدء سنوات عجاف، وتنفخ في ابواق قرن الشيطان حرب بين الالهة، وكل اله منهم يدعي انه الاعلى وينحر منا قرابينا يتزلف بها لشيطانهم الاكبر على مذبح معبدهم في الهيكل القصي، والذي زين لهم كهنته انهم آلهة لشعوبهم..، وعصفت الصحراء بنا وبهم، ونهشت كلابها ماتبقى من خيرات هذه الارض الطيبة، لتطول السنون العجاف، ست وسبع، ثم عام فيه أغيث الناس، حين أزف الأجل وحان وقت تساقط الآلهة، فهي ألهة تعبد الشيطان، وليتبين انها مجرد اصنام لاتغني ولاتذر..، لم يملك راضي الكثير ليخسره، فهو انسان بسيط، وماخسره لم يكن سوى سنوات من عمره التي خضبت ثناياه من ذلك العهن المنفوش..

ومضى في طريقه كما تقتضي سنة الحياة، مرضيا بما وهبته السماء من نعمة الاولاد وشريكة له تقاسمه همومه قبل مسراته..، ولتسجل ذاكرته سنوات اقسى من سواها حيث عبث العابثون ليقدموا المزيد من القرابين لآلهة جديدة تسجد لذات الشيطان..، ولو انهم سجدوا له مع الساجدين نحو كهنة الهيكل حيث القبلة الاولى، لما امتلأ النهرين العظيمين بأجسادهم ولما تحول الماء دما.. لكنهم أبوا الخنوع للذل والانقياد نحو عبادة شيطانهم الاكبر.. ليُحرك من تم تنصيبهم كآلهة للأفساد في الارض الطيبة.. ويُحَمِّلوا الباطل رايات الحق، سوداء كقلوب أهلها، مرصعة بحروف لم يفقهوا منها شيئا..، وأَلبسوا الحق بالباطل..، فقتلوا ونهبوا واستباحوا الدماء وانتهكوا الحرمات، وكادوا ان يحرقوا التاريخ اذ حطموا ماحطموا من شواخصه.. حتى جاءت صيحة النداء للدفاع عما تبقى من حرمات، واسترداد الكرامة بتحطيم اصنام الجاهلية التي تدعي الوهيتها، بل وتحطيم عرش الشيطان وتمريغ انفه بالوحل.

وراضي واحد من هؤلاء الذين استجابوا لنداء الكرامة والواجب المقدس، واحد من عشرات بل مئات الالاف من الذين غصت بهم مراكز التطوع، ليشكلوا حشودا هبت لاعادة ملكة الحضر الى عرشها، وترميم مسلة حمورابي، واعادة الربيع الى احضان امه..، هبت للدفاع عن حضارات بابل وعشتار واشور وكل حضارة بناها اجدادهم مابين النهرين العظيمين، هبت للدفاع عن قبابهم الذهبية التي طالما كانت شاهدا على تلاحمهم، اذ سجلت ذاكرته فيما دونته طوال سني عمره وهو يرى النهرين متعانقين كأبناء هذه الارض، بل وما وصله من ذاكرة ابائه واجداده تروي له عن هذا العناق الأزلي مذ شقا طريقهما في ارض السواد.. فكيف له ان لايلبي النداء وهو يشعر ان عناق النهرين في خطر..

لم يتوقف عن ركضه هو ورفاقه كاشفين صدورهم للموت..، فهم طلاب له، لتحرر اقدامهم كل بقعة من الارض الطيبة وطأتها اقدامهم.. ومازاد عزيمتهم الرعب الذي ألقته حشودهم في نفوس المفسدين حتى انقلبوا على اعقابهم مدبرين هاربين نحو جحورهم التي كانوا يختبؤون فيها، ليرجعوا مرتعدين، وليختبئوا من جديد بأمر من شيطانهم الذي يعبدون..

توقف راضي وسط ارض فسيحة مليئة بالاعشاب اليابسة، جال ببصره ارجاء المكان، مستغربا جفاف العشب في هذا الجو الرطيب، وبعض الشجيرات انحنت قاماتها وكأنها خجلة من المكان.. توقف رفاقه وهم يراقبون راضي بحذر دون ان تنبس منه همسة حين اشار اليهم بالصمت..، طالبا منهم التنصت لصدى المكان.. وكأن المكان يحتضر.. بل وكأن السماء تقطر دما، والكليم يمضي امامهم حافي القدمين اذ اتاه نداء ربه في الوادي المقدس أن اخلع نعليك، فأنك تسير على ثرى أجساد طاهرة..، وعيسى ينزل عن صليبه ليشهد على ماكتب المارقون.، على الجدران، وعلى الكنائس، وعلى الابواب الآمنة، اذ اختطت اياديهم النجسة مازَيَّن لهم الشيطان حين خطواعليها “نون”.. وابن مريم يرسم بعدهم “والقلم ومايسطرون”…وذاك الذبيح يرفع ذراعيه نحو السماء طالبا عدالتها.. والقصاص من قاطعي الرؤوس، وآكلي الاكباد والمفسدين في الارض..

جلس راضي على ركبتيه ليتجمع حوله الشباب مندهشين.. اشار الى ناحية من المكان وبدأ يشرح لهم صور كانوا قد رأوها من قبل عن مجزرة حدثت في هذا المكان.. حيث سيق الى هذه البقعة من الارض المئات من شباب هذا الوطن.. لينحروا على مذابح الاحقاد.. ويقدموا قرابين لآلهتهم الغبية ليلتمسوا منها قربة للشيطان.. هنا تم تقييدهم، ومن هناك قدموهم زرافات.. وهنا ذبحوهم، وهاهي دماؤهم مازالت ساخنة حتى أحرقت اعشاب الارض.. وانحت هامات الاشجار

لصراخهم.. وتمايل الحجر خشية من ان يرتطم بالرؤوس المتدحرجة.. والاشلاء المتناثرة.. فكان أرق من قلوب المجرمين الصدئة، حتى لون التراب أضحى بحمرة الدماء اسودا ليسوء وجوه من شارك في هذه المجزرة بل ومن ارتضى بها.. حينها تمتم الشباب الملتفين حول رفيقهم راضي.. نعم هاهنا كانت جريمة سبايكر.. ومازالت ملامحها واضحة للعيان.. فقام احد الشباب بغرس علم كان يحمله على ظهره وسط المكان ليرفرف بشموخ فوق ثرى الاجساد الطاهرة وليعلن عن بزوغ خيوط الفجر الاولى لتاريخ جديد، وعنوان جديد يضاف الى سلسلة العناوين التي تختزنها الذاكرة.. حيث حكاية جديدة يسطرها من لبى نداء الشرف والكرامة..

تقدم راضي ورفاقه يطاردون خفافيش الظلام في كل صوب وحجر.. فقد اقسموا الا ان يعيدوا الباطل على ادباره..، ويروون طريق الحق بدمائهم الزكية..، لم تهزهم كل الابواق التي تنعق بوجههم في محاولات اخيرة من الشيطان الاكبر وجنوده لاخماد عزيمتهم بعد ان تيقنوا هزائما على ايديهم..

مر راضي ورفاقه ببعض الدور الخربة حيث بعض القرويين من اهل تلك المناطق احتموا بجدران متهرئة.., خائفين من مصير مجهول.. كان جل المختبئين من النساء والاطفال وبعض الكهول.. ممن لم يجدوا للهرب سبيلا من هذه المحرقة.. فأخذت الظنون تقضي مضاجعهم من هؤلاء القادمين حتى تصوروا انهم مأخوذون بجريرة من كان يرتع بينهم من المجرمين..

حاول راضي ورفاقه ان يهدئ من روعهم بأن أخذوا بملاطفة الاطفال واعطائهم ماكانوا يحملون من طعام وشراب..، وسرعان ما تبين للمتوجسين زيف الاراجيف التي روجت حول هؤلاء الرجال..، فهم فتية آمنوا بوطنهم..، وما قدومهم الا لأغاثتهم من الاصنام التي اطبقت على صدورهم..

لم يكن هؤلاء المتوجسين فحسب من صادفهم راضي ورفاقه في طريقهم، بل كانت هناك عشرات ومئات العوائل التي كانت محتجزة او حتى غير محتجزة.. ممن كان يحرص على تأمين خروجهم من الارض الملتهبة دون الأخذ بالشبهات..، فالجميع ابرياء طالما كانوا عزل..، وكلهم من هذه الارض الطيبة، اما الخبيث فلا يكاد يقوى على مواجهة الحشود المتقدمة نحوه ليطلق ساقيه للريح ملتحقا بحضيرته التي تأويه ولينقلب عواءهم الى ثغاء كلما سقط احد منهم تحت اقدام هذه الحشود..

أما عائلة “الأسطة” راضي، فكانت كبقية العوائل العراقية الأصيلة تنتظر بفارغ الصبر بشائر النصر..، لايكادون يفارقون نشرات الاخبار، فأصبح الصغير منهم قبل الكهل أبرع حتى من

أمهر محللي الاخبار، الجميع متفائل ببزوغ علامات النصر..، ويزفون النعوش القادمة من تلك الارض بمواكب مهيبة..، وينقشون في ذاكرة وطنهم ملاحم جديدة تمتد من كلكامش الى جرف النصر.. الى ارض الربيعين، وحامية الحضر..، حتى تسكن رمال الصحراء..، ولتشق نهرا ثالثا من دماء ابطال تلك الملاحم ليعانق النهرين العظيمين..

كان الاطفال يترقبون طرقات ابيهم على الباب لينعموا بدفء احضانه بعد غياب طويل.. فكانوا يهرعون جميعهم نحو الباب مع اول طرقة لأي طارق..، وازدادوا فرحا حين رأوا جدتهم تقبل عليهم من تلك البلدة البعيدة والتي ولد فيها ابيهم، والتي أبت الا ان تبقى فيها حتى بعد رحيل ولدها الكبير راضي الى العاصمة..، استبشروا خيرا برؤيتها وهم يمنّون النفس بقرب لقاء ابيهم..، لم تبد المرأة العجوز مافي نفسها لأحفادها وسبب قدومها..، اذ شعرت بما تشعر به الأم مما قد يصيب فلذة كبدها..، فكانت صابرة محتسبة وهي متيقنه ان راضي ليس بأقل عنادا من ابيه، اذ يستقبل سهام الموت بقلب عاشق لأرضه، من اجل ان ينال وسام الشهادة.. كما كانت متيقنة ان البنيان الذي شيد بسواعد ولدها ورفاقه سيخلد ذكرهم ليرفعوا رؤوس اولادهم واحفادهم..، بل وهامات وطنهم الذي أبى ابناؤه ان يسلموه لآلهة قرن الشيطان..