بعد أن طال مكوث العراق على كف العفاريت، وبعد أن طالت مدة وقوفه على شفا حفرة بل هي حفرتان، بل عشرات الحفر التي من المؤسف أن من حفرها له هم بعض أهله، وبعيدا عن التهديدات التي تحيق البلد وتضعه وأهله على منحدر لايأمن الانزلاق في دهاليزه المظلمة وأنفاقه المرعبة التي لايمكن تخمين عمق هوتها، ويصعب أيضا استقراء النتائج المترتبة على السقوط بها -لاسمح الله-. يمر البلد اليوم بانعطافة مهمة وحساسة وخطيرة، من حيث التوجه لتغيير قادة مؤسساته التنفيذية في تشكيلته الوزارية والتي من المفترض أن تنهي سلبيات التشكيلات التي سبقتها، وقطعا هذا التحول لن يتم إلا باصطفاء الشخوص المؤهلين، والمؤهلون هنا ليس المقصود بهم الذين يقودون مؤسساتهم إداريا، ويجلسون خلف طاولات فخمة لتمشية الصادر والوارد والبريد، وحضور المهرجانات والمؤتمرات فحسب، بل المقصود بهم المؤهلون لتفعيل التغيير جوهريا، وإحداث زوبعة تسفر عن تبدل ملحوظ بنتائج مغايرة لما سبق، وهم الذين يعول عليهم في النهوض بمؤسسات الدولة بعد سباتها الذي امتد عقودا، حيث لم يتحقق خلال السنوات العشر الماضية من عمر العراق الديمقراطي الفدرالي، انجاز يقوّم الاعوجاجات التي خلفها النظام السابق، بل تناسلت سلبيات وتولدت على إثرها سلوكيات شتى، على رأس قائمتها الفساد بأنواعه، حيث كان نهج النظام طيلة مدة حكمه يتعمد وضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب، لاسيما في التشكيلة الوزارية، للحصول على نتائج غير مناسبة تدفع بالمؤسسة الى الحضيض في الأداء وسير العمل. ومن سوء حظ العراقيين أن هذه الخصلة بقيت ملاصقة لأغلب مكاتب الوزراء في الحكومات المتعاقبة. وتكمن خطورة هذه المرحلة في كيفية انتقاء الشخوص، ووفق أي وحدات قياس يتم على ضوئها قبول البديل من عدمه، إذ أن السهو والغفلة والخطأ والاشتباه في الترشيح -إن حصل- ستكون عاقبته وخيمة على البلاد والعباد، وستثار حينها استنتاجات عدة، وستكثر أصابع الاتهام لشخص رئيس الوزراء العبادي، وساعتها ستطلق عليه نعوت قد لايكون أولها التواطؤ، وليس من ضمنها التهاون، كما أن آخرها لن يكون الخيانة.
ولايخفى مافي الشارع العراقي من مخاوف وقلق شديدين تجاه عملية انتقاء الشخصيات لهذه المناصب، وماالقلق هذا إلا لأن المرشحين البدلاء لن يكونوا بمعزل عن تأثير كتل لها بصمات سيئة ومواقف سابقة لم تخدم العملية السياسية، بل لطالما سخرت مرشحها لمتابعة سير أعمالها وإكمال مايتعثر منها، باستغلال صلاحياته في مركزه الوزاري الجديد، وهي -الكتل- لم تضع المعايير الصائبة لترشيح (زيد) او انتقاء (عبيد) لكفاءته ومهنيته ونزاهته وولائه للعراق، بل شطّت كثيرا عن مثل هذه المقاييس، وابتعدت عنها مقابل معايير تخدم مصالحها الخاصة والحزبية والفئوية. ولو أخذنا بنظر الاعتبار المثل العراقي القائل: (المايسوگه مرضعه سوگ العصا ماينفعه) فإن اختيار المؤهلين لإحداث التغييرات المطلوبة في بنية المؤسسات التنفيذية، لايمكن أن يتم بالشكل السليم مادامت الكتل السياسية هي الـ (فلتر) الذي يُمرَّر من خلاله المرشحون، وترفع عن طريقها أسماؤهم، ومادام رأيها ووجهة نظرها وتقييمها للمرشح الجديد هي المعمول بها. فالتجارب السابقة بينت (مرضع) بعض الكتل، حيث كانت خير دليل على انحيازها الى مايصب في خدمتها وخدمة أحزابها، بل إن بعضها تفانت في خدماتها لتقدمها الى جهات تقبع خارج الحدود، تكن الى العراق والعراقيين الشر والضغينة والعداء من سالف الزمان، لتمشية مخططاتها وأجنداتها المرسومة مسبقا.
(هذا من جماعتنا).. (ذاك من ربعنا).. هي وحدات القياس التي اتبعت فيما سبق في تقييم وتصنيف المرشحين لمناصب قيادية، وأهملت معايير المهنية والخبرة العملية والسمعة الطيبة والسيرة الحسنة، فكان ماكان من تدنٍ في أداء المؤسسات ولاسيما الوزارات، حتى غدا عدمها خيرا من وجودها، إذ أضافت عبئا على ميزانية الدولة المثخنة أصلا بأعباء كثيرة. فالتصويت على الشخصيات إذن، يجب أن يخرج من جلباب الكتل والأحزاب، وينضوي تحت المنظار العلمي والمهني والأخلاقي، وإلا فإن التقدم خطوة سيعقبه تأخر وتقهقر ونكوص لعشرات بل مئات الخطوات.