قال تعالى :”تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.
رويَّ في كتب التراث العربي ما يصلح أن يعطينا نبذة موجزة عن “كوبوند ” التأريخ بصرف النظر عن رأينا بتفاصيل القصة سلبا أو إيجابا ، أن ” التابعي الحارث الهمداني الشهير بـ” شريك بن الأعور” وكان رجلاً دميماً – قبيحا – اﻻ أنه كان سيدا في قومه قد دخل على معاوية فقال له اﻷخير : إنك لدميم والجميل خير من الدميم , وإنك لشريك وما لله من شريك , وإن أباك لأعور والصحيح خير من الأعور ,فكيف سُدتَ قومك ؟ فقال له: إنك لمعاويه وما معاوية إلاّ كلبةٌ عوت فاستعوت الكلاب ، وإنك ابن صخر والسهل خير من الصخر ، وإنك ﻷبن حربٍ والسلم خيرٌ من الحرب ، وإنك ﻷبن أميَّة وما أُميّة إلاّ أَمة صغرت ,فكيف أصبحت أمير المؤمنين ؟ وﻻشك أن هذه المحاورة التي ضجت بها كتب التراث سواء أصحت أم لم تصح ، تلخص لنا كيف تتباين وجهات النظر في الشخوص وزوايا التقييم لتفسير أحداث وقعت في زمان ومكان ما ، قصص أمم سادت ثم بادت ، ممالك علت ثم هوت ، حضارات أشرقت ثم أفلت ، كل واحد منها مدفوع بما يعتمل في صدور أصحابها ، يختمر في عقولهم إكتسابا من المحيط ، أو توريثا عبر اﻷصول والفروع !
اليوم صار رفع أو جر أحداث التأريخ .. كسر أو نصب شخوصه – مزاجيا – كالصحافة مهنة ما لا مهنة له ولقد إطلعت خلال اليومين الماضيين على كم كبير من التسطيحات التحليلية والترقيعات السياسية التي إدعى أصحابها خلالها المفهومية واﻷلمعية وإكتشاف معادن وفلزات وكواكب غير مكتشفة من ذي قبل وتسجيل براءات إختراع نافست بمنظورهم مصباح أديسون ، وهاتف “ألكسندر جراهام بيل” مع أن تلك الطروحات كانت مبنية على وجهات نظر أحادية الجانب غارقة في النرجسية ومشبعة باﻷنانية بعضها متشحة بالشعوبية ، وأخرى تقترب من السطحية وبعضها ﻻتخلو من غرض في قلوب أصحابها ربما تملقا لجهات من دون أخرى طمعا بما عندهم ماديا ومعنويا ، وهي أشبه ما تكون بتغليف مبنى متهالك آيل للسقوط بمادة (الكلادينج الكوبوند)لإظهاره بمظهر جميل وأنيق يسر الناظرين أو الممولين وما هو كذلك ، وما يحدث في العراق منذ فترة ليست بالقليلة خير شاهد على ذلك اذ أن ثلث مباني البلاد التراثية على سبيل المثال والتي وبدلا من إعادة ترميمها وتأهيلها للحفاظ على هويتها التراثية والفلكلورية وإدخالها ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي قد طمست معالمها بألمونيوم – زرق ورق – مستورد من أسوأ المناشئ محشو بالفلين ، تغليف قبيح جدا سرعان ما تتهاوى قطعه وتتآكل جوانبه بتأثير الظروف الجوية القاسية ليتضح في نهاية المطاف أن غاية هذا الكوبوند هي إخفاء معالم بغداد الحضارية واﻵثارية بذريعة تجميل العاصمة وما الحقيقة كذلك بالمرة !
وأقول للجميع إن تفسير أحداث التأريخ وصناعته غير سرده ، اذ أن أصحاب الكار الثاني باتوا أقرب للحكواتية والقصخونية والروزخونية منهم الى المؤرخين الجادين العلميين وغايتهم إستدرار دموع الحاضرين أو إستجداء ضحكاتهم فضلا عن إفراغ جيوبهم والتلاعب بأحاسيسهم والعبث بقناعاتهم أكثر من حرصهم على سوق الحقائق وخلق حالة من الوعي الجمعي المتخطي للعصبيات والتكتلات المقيتة ونحن نعيش أسوأ حقبة مرت بالعراق منذ فجر التأريخ، فيما الصنف اﻷول يستعرض دروسا وعبر وعظات يضعها أمام القراء كي ﻻ يستنسخوا أخطاءها وخطاياها ولكي ينتفعوا بمجرياتها على النسق القرآني الذي ساق لنا سير اﻷمم السالفة من قبلنا حتى لانكرر حماقاتنا ولنتبين أمرنا ونستلهم رشدنا ونعد عدتنا ونصلح ذات بيننا :” لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ “، وينبغي على الفريقين أن يخلصوا النية أولا وأن يتقوا الله في تحليلاتهم وأن لاتكون بوستاتهم ومروياتهم على طريقة ” أتريد أن نرفع أقواما ونهوي بآخرين بخلاف ما عشعش في عقول الناس ردحا طويلا من الزمن – تدلل- وباﻷدلة النقلية والعقلية وإن لم يصح مما نسوقه لهم ونشوش عليهم شيء قط ، وإن شئت أن نعيد الإعتبار لمن هوينا بهم قبل قليل وخفض من رفعناهم وباﻷدلة أيضا فلا مانع أخلاقي أو معرفي عندنا ﻷننا كشعر نواعم وخصرها الحرير، مع كل هوى وهواء وتمويل شرقي أو غربي ..يطير، المهم كم ستدفع لقلب عالي الحقائق التأريخية والمعاصرة واطيها أو العكس بالعكس لإثارة الفتن واﻷحقاد المطلوبة ؟!
وعلى الفريقين أن يدركوا جليا بأنهم جزء من هذا التأريخ وأن ما يتلاعبون به اليوم ويعبثون به من أسس وآليات وقواعد تقييم وتفسير مجرياته – مزاجيا ، أو لغرض في نفوسهم ، أو لمرض في قلوبهم – سيطولهم حتما في القريب العاجل وﻻت حين مندم ، يومذاك لن يجدوا من يدافع عنهم ويصحح المفاهيم التي شوهوها ﻷن من ينقش على الصخر لتزييف الحقائق غير الذي يكتب على رمال الساحل للتسلية وتمضية الوقت فأحذروا !
وأنوه الى أن منظومة المستضعفين الفكرية اذا لم تحم نفسها من الملوثات الدخيلة عليها خلال مرحلة الإستضعاف فلا قيمة لنهضتها ثانية في مرحلة التمكين ما يستلزم وقتا طويلا وتيها أطول للتنقية كما حدث مع بني إسرائيل بعد الخروج من مصر ونجاتهم من بطش الفراعنة اذ إن أول ما طلبوه من نبيهم بعيد العبور المعجز ما لخصته لنا الاية 138 من سورة الاعراف : ” وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ” ، ثم ثنوا بعبادة عجل له خوار جريا على عادة الفراعنة وفي ذلك قال تعالى كما في سورة طه آية 88: ” فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ “، كل ذلك تأثرا بما سميَّ باﻵلهة الفرعونية ( حتحور) وهي الهة الخصوبة وحامية الموتى عندهم وكان يرمز لها بالبقرة ، كان اليهود يريدون الهة منظورة ومرئية وليس الها لايرونه برغم كم المعجزات الهائل الذي جاء على يد موسى عليه السلام كما جاء في سورة البقرة آية 55 : “وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ” وهكذا تتابعت اﻷحداث بمستضعفي اﻷمس الملوثين بعقائد جلاديهم وحاكميهم حتى عصوا ونكثوا وانقلبوا على أعقابهم غير مرة فكانت العقوبة كما في سورة البقرة آية 26 : ” قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚفَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ” ، تيه صحراوي تم خلاله إستبدال جل الجيل الملوث فكريا بآخرين جدد ولدوا من أصلابهم وخرجوا من أرحامهم اﻻ أنهم غير مشوشين ولا ملوثين كأسلافهم ببقايا أفكار وعقائد من حكموهم وظلموهم وجلدوا ظهورهم طويلا ، عقائد من سفكوا دماءهم وإستحلوا محارمهم وسبوا نساءهم ، ولتلافي هذا التيه عند اﻷمم اللاحقة لابد من تطهير فكري وتقويم جمعي عاجل وبهمة وعزيمة لا تلين يكون بديلا موضعيا ناجعا عن التيه – الزمكاني- الطويل في اﻷسر وكانتونات العبودية وحظائر الإستحمار !
وحين يبدأ فريق قوي يضعف تجد أن بعضهم يستبشر بأن كفة الميزان أخذت تميل للضعيف المسيطر عليه حتما ، اﻻ ان المشكلة هنا تكمن في إن هذا الضعيف لم يعد يحمل ذات اﻷفكار والمثل والقيم النقية التي كان يحملها قبلا ، بمعنى أن إضعاف قوي اليوم المستبد – غير المستقيم – لن يتمخض عن وﻻدة قوي – مستقيم – في الجهة المقابلة ﻷن كم الملوثات التي أصابت اﻷخير خلال فترة الإستضعاف أكبر من العد والحصر ما حوله الى جبنة سويسرية مليئة بالثقوب اﻷمر الذي يستلزم رتقها بسرعة ناهيك عن إزالة كم اﻷحقاد وتحجيم الرغبة العارمة في الثأر والإنتقام التي تلعب كالخمر وربما الحشيش الذي يتعاطاه – الصائلون – في رؤوسهم ما يُشكِلُ عليهم عقلانيتهم أحيانا ويفقدهم توازنهم أحايين ويجعلهم ريشة في مهب ريح اﻷفكار الوافدة والقيادات – الهشك بشكية – الحاقدة التي تأخذهم بعيدا بلاصواب وﻻ تصويب عن إنسانيتهم ووطنيتهم وأخلاقيتهم الى مهاوي الردى ، كل ذلك يفسر لنا لماذا تقمص الصاعدون الى الحكم بعد 2003 وإستنسخوا ظلم النازلين قبل الغزو الاميركي الغاشم للعراق وسكنوا في مساكنهم وقصورهم ، قلدوا مواكبهم ، حاكوا ترفهم ، بينما إستعان قسم آخر منهم بجلاديهم ومخبريهم ومستشاريهم وماكان لهم أن يكرروا على العراقيين ظلمين ، ظلم السابقين وهمجية اللاحقين ، عار عليك أن تزعم حب الحسين عليه السلام وآل بيت النبوة اﻷطهار وأنت تقف الى جانب الشمر وقوفا كاملا وتعينه يوميا على نحر المزيد من اﻷحرار والمصلحين..أتريدون ذبح الحسين كل صباح فإما أن نكون حسينيين حقا غايتنا الاصلاح..وإما شمريين من أنصار الفساد وأعوانه!؟!!
وبناء على ما سلف فإن المشكلة لم تعد بإنتخاب اﻷصلح في الانتخابات المحلية والنيابية ، المشكلة الحقيقية صارت تكمن في كيفية إصلاح أغلب الجموع المتوجهة الى صناديق الإقتراع ﻷن مزاجها العام ..فاسد وبالتالي فهي لن تنتخب غير الفاسدين مدفوعة بـ” فصام العصبيات “أيا كان نوعها ، وعلى كل العابرين بأقوامهم يوما الى بر الحرية وشاطئ اﻷمان أن يعوا جيدا ويضعوا نصب أعينهم بأن جيل الإستعباد ، جيل ملوث فكريا ومنهجيا وليس من السهل قياده وإمساك زمامه هكذا نقيا من غير شوائب تذكر من أول يوم خلاص من طاغية ما وإسقاط صنمه ، كما يتوهم المتوهمون ويلوكه العاجيون من قادتهم ، ولابد من التدرج ، الصبر ، المصابرة ، المثابرة في عملية التنقية وبذكاء حاد وبخطوات حثيثة جادة ومدروسة على أن يكون قادتهم قدوة يحتذى حذوها في الطهر والنقاء والصلاح والاصلاح وليس من – السراق المعفنين – واﻻ ، اﻻ ..ايش ؟ تفلت القوم ونكصوا على أعقابهم بل وعاد قسم كبير منهم أدراجهم ليعبروا الى ساحل – الاستحمار – ثانية وهم يلعنون أحرارهم ، يشتمون قادتهم ، يركلون مصلحيهم ، يعشقون مستعمريهم ، يعاونون ظلامهم بكل ممنونية وأريحية ويتغنون بهم وبطغيانهم الغابر صباح مساء ، حينذاك لا يلومن َّ الفاسدون الجدد غير أنفسهم ، رتعتم فرتعوا ولو أصلحتم لصلحوا يا قادة ” الكاوبوي و الكوبوند ” !!اودعناكم اغاتي