22 ديسمبر، 2024 7:25 م

آسيا المهد الحديث للاستعمار

آسيا المهد الحديث للاستعمار

في الماضي كانت الدول الأوروبية الفقيرة تؤَّمن قوتها وثرواتها بالإغارة على الدول المجاورة. لكن في القرون الوسطى، قررت الدول الأوروبية أن تسعى للنهوض وتكديس الثروات من خلال الإتحاد تحت لواء واحد والإغارة على الدول الأكثر ثراءً، والتي كانت حينئذٍ تتمركز في دول المشرق القديمة. وحتى تتخذ الموجات الاستعمارية الأوروبية التي تستهدف نهب ثروات دول المشرق الغنية طابعًا مقبولًا، تم الغزو تحت ستار ديني لتحفيز العامة للاشتراك في الحرب، وبذل قصارى الجهود لتحقيق النصر؛ لأن أغلب العامة من المزارعين واللصوص والمجرمين والمنبوذين اجتماعيًا لم يعتادوا على حمل السلاح وحياة الحرب. وكانت أفضل وسائل الاقناع أن المحاربين حماة للصليب (أي الدين المسيحي) ولسوف ينالون صكوك غفران لذنوبهم؛ فمثلًا لنيل أحدهم صك غفران لخطيئة الزنا يجب الحرب لمدة عام، وجريمة السرقة ثلاثة أعوام، وهكذا. وعلى هذا، استمرت الحروب الصيليبية لعقود طويلة دون كلل أو ملل من المحاربين، وخرجت منها الدول الأوروبية محصنة بكيانٍ صلب البنيان، ورسخت صورتها كقوة عالمية قوية مهيمنة ومهيبة؛ لما لها من نفوذ عظيم بين دول العالم، وخاصة على دول المشرق التي تهالكت، ومزَّقها الصراع الداخلي والأطماع الشخصية والفقر.
وما لبثت أوروبا أن تنهض على قدميها حتى وجدت نفسها في خضم ثورة صناعية هائلة نقلتها حضاريًا لأبعاد غير مسبوقة، لدرجة أنها صارت قبلة للتقدم والازدهار في العالم. لكن الثورة الصناعية الأولى كان يلزمها العديد من المواد الخام، وخاصة المطاط والأخشاب وغيرها من المواد الخام اللازمة لقيام المشروعات الصناعية الكبرى، والتي لم تكن تتواجد بوفرة إلا في القارة الأفريقية. ولقد لفتت إفريقيا نظر الغرب بشكل محدود في القرون التي سبقت نهاية القرن الثامن عشر، وهو نفس توقيت قيام الثورة الصناعية الأولى في أوروبا. فلقد كانت إفريقيا المصدر الأساسي لتجارة العاج لدول أوروبا الذي كان مفضلًا لدى الأثرياء، ويستخدمونه في صناعة الهدايا والتحف الفاخرة، ناهيك عن كونها مصدرًا رائجًا لتجارة العبيد، ولهذا السبب لم يمتد النفوذ الأوروبي في أفريقيا لأكثر من المناطق الساحلية.
لكن في عام 1876 تنبه ليوبولد الثاني ملك بلجيكا Leopold II لأهمية إفريقيا الاستراتيجية والاقتصادية؛ لأنها تعج بالكثير من الثروات كالأخشاب والمعادن النفسية وخاصة الذهب والمطاط، فهرول إلى أفريقيا تحت ستار رجل البر والإحسان الذي يسعى إلى إنقاذ أهل القارة من الحياة الهمجية، والأخذ بيدهم؛ لينعموا برخاء جمال الحياة المدنية. ومن ثمَّ، قام بتأسيس الرابطة الأفريقية العالمية International African Association، ثمَّ أرسل إلى إفريقيا الصحفي هنري ستانلي Henry Stanley – الأمريكي الجنسية ذو الأصول التي ترجع لمقاطعة ويلز ببريطانيا – مخولًا له مهمة القيام بعمل بحث شامل لتمدين سكان القارة الأفريقية، وبالطبع كان ذلك الهدف المعلن. فلم تكد تطأ قدمي هنري ستانلي قارة أفريقيا، إلا وبدأ توطيد الأهداف الاستعمارية لمملكة بلجيكا. وفي عام 1878 قام بارساء قواعد جمعية الكونغو الدولية International Congo Society المعلنة بأنها تباشر أهداف اقتصادية وتجارية من شأنها تحديث القارة التعيسة، وإغداق أهلها بالمكاسب والثروات. وعلى إثر ذلك، أرسل الملك ليوبولد الثاني من خلال هنري ستانلي بضع المستثمرين الذين مسحوا الأراضي الأفريقية، وتعرفوا على حجم ثرواتها، ووضعوا أياديهم على أفضل المناطق التي تعج بالثروات الطبيعية كمستعمرين. وما أن اشتمَّت فرنسا صنيع بلجيكا، إلا وهرولت إلى أفريقيا عام 1881 بحريًا بأسطول استكشافي رسى في حوض الكونغو الغربي، ثمَّ رفعت عليه العلم الفرنسي كمحتل فج للأرض، وأعلنته مستعمرة فرنسية أسمتها برازافي Brazzaville.
فاستشاطت البرتغال غضبًا من مما يحدث لأنها كانت تؤثر عقد علاقات سلمية مع الممالك الأفريقية الهشة. وعلى إثر ذلك، أزالت البرتغال قناعها الطيب المتسامح مع سكان القارة، ووضعت يدها على العديد من الأراضي الأفريقية. وانتشرت الأخبار في القارة الأوروبية جمعاء، فهرولت ألمانيا وانجلترا ودول أوروبية عديدة، بما في ذلك السويد التي لا تسعى لعمل أنشطة استعمارية. وبدأت تتصارع الدول الأوروبية فيما بينها على نهب واستعمار الأراضي الأفريقية، إلى أن قرر الداهية أوتو فون بسمارك Otto von Bismarck المستشار الألماني حينئذٍ فك الاشتباك بعقد مؤتمر موسع بين الدول الاستعمارية لتنظيم مصالحها في إفريقيا، واسماه “مؤتمر برلين” Berlin Conference، والذي دعى لمائدة مفاوضاته الدول الأوروبية المستعمرة جمعاء وكذلك الولايات المتحدة، واستمر المؤتمر من 15 نوفمبر 1884 إلى 2 فبراير 1885، وصارت بعدها إفريقيا القارة السمراء المغبونة تحت سيطرة قوى استعمارية غاشمة ادعت أنها تقوم بإنقاذ القارة.
وفيما يبدو أن التاريخ يكرر نفسه مرة أخرى، وتقريبًا بنفس السيناريو، فما أشبه اليوم بالبارحة، لكن مع تغير رؤوس القوى الاستعمارية؛ فبدلًا من كونها أوروبية، صارت الغالبية العظمى منها أسيوية. وتتزعم القوى الاستعمارية الجديدة الصين، مصنع العالم، الجائعة دومًا للمواد الخام، وخاصة تلك التي لا تتوافر لديها. ولقد بنت الصين لنفسها نفوذًا هائلًا في إفريقيا يفوق نفوذ أي دولة أخرى، حيث أنها قد وضعت يدها على العديد من الدول من خلال عقد شراكات تجارية معهم. ومن الجدير بالذكر أنه عندما قررت الصين معاقبة استراليا عند تبنيها موقف أمريكا الذي يتهم الصين بأنها مركز وباء الكورونا، قامت بفرض قيود على استيراد الحديد الأسترالي، واستبدلته بخام الحديد القادم من غينيا. أضف إلى ذلك، وضع الأسطول الصيني يده على أهم السواحل الأفريقية وهو ساحل جيبوتي الذي كان سابقًا تحت سيطرة فرنسية خالصة، وكوَّن مع جيبوتي منطقة تجارية حرة، وبذلك وضعت الصين يدها على مضيق باب المندب الاستراتيجي الذي سوف يقطع جميع أغلب الطرق التجارية العالمية حال غضب الصين على أحد الدول أو حسب هواها. أضف إلى ذلك، تقوم الصين بإنشاء قواعد عسكرية في العديد من الدول الأفريقية تحت ستار تأمين مصالحها. وما تقوم به الصين ليس بحالة فردية، فتركيا وروسيا ودول الخليج الغنية والعديد من دول شرق آسيا يحذون حذو الصين؛ بما في ذلك اليابان التي أوقفت جميع أنشطتها الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية.
المثير للسخرية حقًا أنه يتم حاليًا الترويج أن جميع العقود التجارية، والشراكات الاقتصادية، والقواعد العسكرية، والسفارات العديدة التي تفتتحها الدول ذات الأطماع الاستعمارية من شأنها تحقيق الخير الوفير لسكان القارة الأفريقية، وهي نفس الشعارات التي استخدمها المستعمرون الأوروبيون في نهاية القرن الثامن عشر. فهل ستتنبه إفريقيا لورطتها الوشيكة أم ستهرول إليها كما في الماضي، ويسطر التاريخ حينها في صفحاته “استعمار إفريقيا كلاكيت لتاني مرة”؟