( وخشية الانوناكي تطيل ايامك على هذه الارض)….أسطورة سومرية
(ما رجائي إنّما الهاوية بيتي وفي الظلام مُهدت مضجعي قلت للفساد انت ابي وللديدان انتِ امّي واختي. اذن اين رجائي. رجائي من يراه. إنّه يهبط الى ابواب ألهاوية)…. العهد القديم: أيوب، الاصحاح 10: 19-22.
(عندما تحين النهاية فإن من اتبع البهتان سوف يُرَدُّ إلى أسوأ مقام، ومن اتبع الحق فسوف يُرَدُّ إلى أسمى مقام)…… زرداشت-نشيد الغاثا.
(من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية)…..السيد المسيح.
(وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُمْ بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)….. سورة الجاثية – الآية – 24
الانسان يخاف من المجهول اكثر من خوفه من العدم، فقد تساءل الانسان منذ القدم بعد ان اكتسب الوعي نتيجة تطوّر دماغه، ما المصير بعد الموت؟ اين سنذهب بعد الموت؟ ماذا سيحدث بعد الموت؟
عقائد ما بعد الموت مرت بمراحل تطوّرية عديدة بعد اكتساب الانسان الوعي، الاجابات جاءت مختلفة باختلاف العصور التي مرّ بها الانسان عبر تاريخ الحضارة الانسانية.
في سلسلة مقالات ( أساطير ألأولين ) سنحاول القاء الضوء على مختلف عقائد ألإنسانية المتعلقة بما بعد الموت عبر رحلة تبدأ باساطير الحضارة السومرية والبابلية والآشورية وألزرداشتية ومعتقدات الاديان الابراهيمية ( اليهودية والمسيحية والاسلام).
الحضارة السومرية:
الى عالم الاموات السومري ( الجحيم السومري ) او العالم السفلي( كور او اريشكيجال) يمضي جميع ارواح الاموات دون تمييز، فلا فرق بين الصالح والطالح وبين غني او فقير او بين ملك ورعيته، إلّا ان كل انسان يحتفظ بنفس المكانة التي كانت له في الحياة الاولى، ففي احد الالواح السومرية ورد بانّ احد الملوك بعد موته قام بتقديم القرابين والهدايا الى آلهة العالم السفلي, وكيف انّه اقتيد الى مكان تمّ تهيئته خصيصا له. هناك حيث البقاء الابدي الذي لا عودة منه ولا يوجد فيه لا بعث ولا حساب.
يتم الدخول الى العالم السفلي من فتحات في الارض كتلك التي تشرق منها الشمس والفتحة التي تغرب منها او من القبر. بعد نزول روح الميّت الى ارض اللاعودة يصادفه نهر العالم الاسفل وسمّاه السومريون ب( هابور) وهناك يحييه ملّاح النهر( هامو طابال ) ذو الاربعة رؤوس الشبيهة برأس الطير وينقله في قاربه الى الطرف الآخر حيث بوابات مدينة الموتى.
عالم الموتى حسب الاساطير السومرية عالم حصين خلف سبعة جدران عالية وسبع بوابات حصينة عليها حراس شداد غلاظ، وعندما يقترب القادم من البوابة الاولى، يعلن البواب اسمه ليسمعه اريشكيجال( إله العالم السفلي )، ثم يقاد عبر البوابات السبع، وعند كل بوابة يتخلى عن شيء من متاعه وملبسه وزينته وفق القوانين الموضوعة لذلك العالم.
ثمّ يمثل عاريا امام اريشكيجال وبطانتها السبع، وهم كبار آلهة العالم الاسفل لتقرير مصيره ومكانه ووضعه العام في عالم الاموات.
الّا انّ هذه الاسطورة ومتوازياتها البابلية والكنعانية لم تكن اساطير مكرّسة اساسا للعالم الاسفل، بل لشرح الفكرة الاساسية في ديانات الخصب والمتعلقة بموت الاله وبعثه من جديد، فموت الاله كان يرمز الى موسم الصيف (موسم الجفاف)، وبعث الاله كان يرمز الى موسم الرييع (موسم الخصوبة)، فبعد انتقال الانسان من مرحلة الرعي الى مرحلة الزراعة اقترنت معظم اساطيره بهمومه المتعلقة بالزراعة وخصوبة التربة وتبدّل المواسم من شتاء وربيع وصيف وخريف.
في الاسطورة السومرية( جلجامش وانكيدو والعالم الاسفل ) نجد وصفا مفصّلا لعالم الموتى.
في هذه الاسطورة ينزل انكيدو صديق وخادم جلجامش الى عالم الموتى لجلب (الباكو والماكو ) وهما آلتان موسيقيتان مهداتان الى جلجامش من الاله انانا اللتان سقطتا منه في كوّة الى العالم الاسفل.
نتعرف في هذه الاسطورة على احوال الموتى في العالم السفلي وللاسطورة اهداف تتعلق باقرار عدد من الممارسات الدينية والاجتماعية. ففيها حض على الاكثار من الانجاب لان الفرد يعامل في العالم السفلي وفق عدد الاولاد الذين انجبهم في الحياة.
الجزء التالي المنقول من نص الاسطورة يعطينا فكرة عن احوال الاموات وهي محاورة بين جلجامش وروح انكيدو العائد من العالم السفلي :
(( -هل رأيت الذي انجب ولدا واحدا؟ نعم لقد رأيت انّه ساجد عند الجدار يبكي بحرقة.
-هل رأيت الذي انجب سبعة اولاد؟ نعم لقد رأيت انّه مقرّب من الالهة.
-هل رأيت الذي قُتِل في ساح المعركة؟ نعم لقد رأيت انّ اباه وامه يمسكان جسده وزوجه تبكي عند راسه.
-هل رأيت الميت الذي تُرِكت جثته في العراء؟ نعم لقد رايت. انّ روحه لا تجد راحة في العالم السفلي.
هل رأيت الميت الذي لا تجد روحه من يعتني بها؟( المقصود هنا ما يقدّمه الاحياء من اضحيات وقرابين لارواح موتاهم )
لقد رايت، انّه يأكل الاقذار وما يُرمى في الشوارع من فتات.)).
حسب العقائد السومرية كان لزاما على اهل الميّت دفنه وفق الطقوس المتّبعة وتزويده بما يلزم ريثما يصل للعالم الاسفل. ومن ثمّ الاستمرار في تقديم الطعام والشراب والكساء له بغد دفنه عن طريق التقدمات المختلفة، وتقديم القرابين لآلهة العالم الاسفل لتكون رفيقة به. وهذه الطقوس الجنائزية والاضاحي هي التي تعين الميّت اكثر من اي شيء آخر.
ولكن ما فائدة العمل الصالح والحالة هذه، اذا كان الجميع يهبطون الى العالم السفلي دون استثناء، ولا يجازى الصالحين بالجنّة، فيعاملون على قدم المساواة بشكل عام مع بعض الاختلافات التي تفرضها المكانة الاجتماعية السابقة للمتوفي؟
في الواقع أنّ العمل الصالح من شأنه ان يُفيد صاحبه في هذه الحياة. فخشية الآلهة وعبادتها واقامة المعابد لها واتّباع اوامرها، كلّها امور من شأنها اطالة حياة صاحبها والمد في العمر ( وخشية الانوناكي تطيل ايامك على هذه الارض).
ولعل معرفة بعض عادات الدفن لدى سكان المنطقة القدماء ( ارض الرافدين) تغطينا فكرة واضحة عن طبيعة تصوّرهم للعالم الآخر وطبيعة الاستمرار فيه، ففي لوح من ايام الملك السومري (اوروكاجينا) ملك لكش يتحدث فيها عن اصلاحاته نقرأ:
( عندما كان يوضع الميّت في قبره، توضع معه سبع جرار من ألجعّة، واربعمائة رغيفا من الخبز، ووزنتان من الحنطة، وعباءة ووسادة) وقد تطابقت مكتشفات المقابر مع هذا النص الى حد بعيد.
الحضارة البابلية والاشورية:
انّ تصوّر البابليين والاشوريين للعالم السفلي هو امتداد للتصوّر السومري، ففي اسطورة ( حلم امير في العالم الاسفل ) يصف الامير ( كومايا ) احوال الجحيم البابلي واوصاف الهة العالم السفلي:
لقد رأيت روعته المخيفة، رأيت (نمتار) وزير العالم الاسفل وسيد اقداره، كان يمسك بيده اليسرى لبدة رجل جاث امامه وبيده اليمنى كان يمسك سيفا….
رأيت (نمتارتو) زوجته، كان لها رأس أل (كوريبو)، امّا يداها وقدماها فكانت بشرية، أمّا اله الموت فكان له رأس تنين ويدان بشريتان…..
ثمّ يستمر الامير (كومايا) بوصف بطانة آلهة العالم الاسفل واشكالهم المرعبة التي هي خليط من الاعضاء البشرية والحيوانية والوحوش الاسطورية.
بعد اكماال وصف بطانة عالم اللاعودة يلتقي الامير بالاله (نرجاال) ألصنديد وهو جالس على عرش جلالته، على رأسه العمّة الملكية، وبيديه الاثنين سلاحان رهيبان لكل سلاح رأسان. من ذراعيه ينبعث البرق، وعلى يمينه وشماله جلس الانوناكي الالهة الكبار في انحناء.
بعد تخويفه يقترب (نرجال) من الامير ناويا قتله ولكن مشاوره ايشوم الشفيع الذي يحفظ الارواح ويحب الحقيقة (والعدالة) قال له:
( اي ملك العالم الاسفل، لا تقتل الرجل. (انقذ حياته) لتصل اخبار عظمتك الى انحاء الارض، وجبروتك على الفسقة الظالمين)، فهدأ غضب نرجال كبركة باردة.
في النهاية يتم تسليم الامير من قبل (بيبلو) سفاح العالم الاسفل الى البواب (لوجال سولا) فيقوده خارجا عبر بوابة عشتار.
ثمّ يستفيق الامير من رؤياه مذعورا، وينطلق كالسهم خارج بيته هائما في شوارع المدينة صارخا أواه… واحسرتاه… ويأخذ بحثو التراب على رأسه ومضغه في فمه قائلا لأهل آشور الذين تجمعوا حوله أن يخشوا اريشكيجال ونرجال ويفعلوا وفق اوامرهما.
ابليس البابلي أو (نرجاال) و (اريشكيجال):
تدور احداث هذه الاسطورة حول سبب وجود نرجال في العالم الاسفل وكيف صار ملكا هناك وزوجا لأريشكيجال الرهيبة ( اله العالم السفلي):
أقام الالهة مأدبة (فاخرة)
بعثوا رسولا عنهم
لأختهم اريشكيجال(يبلغها):
اذا كنّا نستطيع الهبوط اليكِ
فإنّكِ لا تسطيعين الصعود الينا
فهلا ارسلت من لدنك رسولا لنعطيه نصيبكِ؟
فبعثت اريشكيجال بوزيرها (نمتار)
فصعد نمتار الى السماء العليا الاخيرة
ودخل المكان على الالهة المجتمعين
فنهضوا جميعا لتحية نمتار
رسول اختهم العظيمة
جميع الالهة نهضوا احتراما لنمتار الّا واحدا منهم هو (نرجال) فقد بقي جالسا. وقد نقل المبعوث لسيدته ذلك عندما عاد اليها، فثارت للاهانة البالغة واعادت نمتار على اعقابه ليجلب نرجال الى العالم الاسفل.
بعد اختفاء نرجال خوفا من اله العالم السفلي اريشكيجال تصر اريشكيجال على تسليم الاله المتمرد نرجال اليها بغية قتله، فيقرر مجمع الالهة السماوية تسليمه، ولكنه يبكي وينوح امام ابيه (أيا) فيقرر الاب وضع خطة لقتل اريشكيجال بمعونة اربعة عشر عفريت ألذين سيرافقون نرجال سراعند نزوله الى العالم الاسفل.
يقبض نرجال بمساعدة العفاريت على اريشكيجال ويمسك شعرها ناويا قطع رأسها ولكنّها تتوسل اليه باكية وتعرض عليه ان يكون زوجها وتعده بالملك والسلطان على العالم الاسفل الكبير،اضافة الى وضع الواح الحكمة بين يديه.
عندما يسمع نرجال قولها يرفعها اليه ويقبّلها ويمسح دموعها.
تشابه هذه الاسطورة في خطوطها العريضة، اسطورة (لوسيفر) في التعاليم المسيحية. فكما كان نرجال الها سماويا هبط الى الاسفل بسبب رفضه اظهار الاحترام لرسول الاله اريشكيجال، وتحول بذلك الى اله في عالم الظلام والموت، كذلك كان امر لوسيفر وكيف تحوّل من سيد الملائكة الى ابليس سيد الشياطين بتمرده وثورته على الاله.
في القرآن نلاحظ بانّ قصة التمرد هذه تتكرر بتمرد ابليس على الله ورفضه السجود لآدم بحجة افضليته عليه لانّه مخلوق من نار الذي هو اسمى من الطين الذي خُلق منه آدم حسب ادّعاء ابليس.
الجحيم التوراتي:
عقائد الموت والعالم الاخر في التوراة هو امتداد لعقائد السومريين والبابليين.فعالم الموتى هو عالم سفلي تذهب اليه ارواح الموتى جميعا دون تمييز.فنجد فيه القديسين والناس العاديين معا. وليست عملية الموت الّا مرحلة تقود الفرد من حالة الى اخرى من احوال الوجود، عن طريق مفارقة الروح للجسد.
انّ الارواح تكون متساوية في مصيرها كما هو الامر في ثقافة وادي الرافدين: فلا بعث هناك ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب، بل وجود ثقيل راكد، واستمرار لا فرح فيه ولا نشوة. في سفر الجامعة من التوراة نقرأ:
( وأيضا رأيت تحت ألشمس موضع الحق هناك ألظلم، وموضع العدل هناك ألجور. فقلت في قلبي الرب يدين الصديق والشرير لأنّ لكل امر ولكل عمل وقتا هناك وقلت في قلبي،من جهة امور البشر انّ الله يمتحنهم ليريهم انّه كما البهيمة هكذا هم. لأنّ ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة، وحادثة واحدة لهم. وموت هذا كموت ذاك وقسمة واحدة للكل. فليس للانسان مزيّة على البهيمة لأنّ كليهما باطل. يذهب كلاهما الى مكان واحد. كان كلاهما من التراب والى التراب يعود كلاهما.
من يعلم روح بني البشر هل هي تصعد الى فوق؟ وروح البهيمة هل هي تنزل الى الاسفل؟ فرأيت انه لا شيء خير من ان يفرح الانسان باعماله لانّ ذلك نصيبه)….العهد القديم: سفر الجامعة، الاصحاح 3:16- 22.
إنّ جزاء الصلاح في العقيدة اليهودية ليس في الدار الآخرة بل على هذه الارض وفي هذه الحياة. والرب يمد في عمر الصالح ويزهق روح الطالح، تماما كما هو الامر في الفكر الديني البابلي وتتردد هذه الفكرة في مواضع كثيرة من التوراة (أكرم أباك وأمّك لكي يطول عمرك في الارض التي يعطيك الرب الهك)…. العهد القديم: سفر الخروج، الاصحاح 20- 1.
و (مخافة الرب تزيد الايام وسنو المنافقين تقصّره)…. العهد القديم: سفر الامثال، الاصحاح 27:10 .
ولكن لماذا اذن نجد انسانا صالحا يموت في زهرة الشباب وآخر شرير يمتد به العمر؟ يُجيب التوراة على ذلك بطريقة طريفة فنقرأ في سفر أشعيا: (هلك الصديق ولم يكن تأمّل في قلبه. وضم اهل التقوى ولم يفطن احد أنّه من وجه الشر ضمّ الصديق)…. العهد القديم: أشعيا، الاصحاح 1:57.
أي أنّ موت الاتقياء المبكّر هو تخليص لهم من الكوارث وشرور قادمة قد تصيبهم، أمّا حياة الاشرار وامتداد اعمارهم فإنّ الحكمة منها مهما كانت بالغة لم تقنع رجلا صالحا كأيوب عندما نسمعه يرفع عقيرته بالشكوى صارخا:
(لماذا يحيى المنافقون ويسنون ولماذا يعظم اقتدارهم. ذريتهم قائمة امامهم، وقومهم واعقابهم لدى اعينهم، بيوتهم آمنة من الفزع وقضيب الرب لا يعلوهم)…. العهد القديم: ايوب، الاصحاح 21: 7-9.
التوراة تصوّر الدار الآخرة كما تصوّرها اساطير حضارة الرافدين فهي عالم اسفل يقع تحت عالمنا هذا. وعبّر عن هذا العالم الاسفل بالاسم العبري (شيئول) الذي تعبّر عنه الترجمات العربية بأسم (الهاوية) او (الجحيم). كما تصفها التوراة بارض اللاعودة والظلام ونهارها كالديجور وبواباتها تشبه بوابات العالم الاسفل في بابل (ما رجائي إنّما الهاوية بيتي وفي الظلام مُهدت مضجعي قلت للفساد انت ابي وللديدان انتِ امّي واختي. اذن اين رجائي. رجائي من يراه. إنّه يهبط الى ابواب ألهاوية)…. العهد القديم: أيوب الخروج، الاصحاح 10: 19-22.
من فقرة وردت في اشعيا انّ الموتى في العالم الآخر يحتفظون بمكانتهم التي كانت لهم في الحياة، كما هو الامر تماما في النظرة البابلية، ولكن التوراة لا يحدّثنا عن موكلين بتسيير شؤون العالم السفلي ولكننا نعلم مؤكدا أنّ هذا العالم لا يقع تحت سيطرة يهوه وأنّ الاموات هناك لا يعبدونه ولا يُسبّحون بحمده.
في سفر الجامعة نجد بأنّ القوى العمياء هي المسيطرة على شيئول ويحدّثنا عن ضرورة تزوّد الانسان بما يستطيع من هذه الحياة لأنّ بعدها يأتي ألنسيان، فنقرأ في الاصحاح التاسع كلمات تشبه الى حد بعيد كلمات فتاة الحانة الى جلجامش: (اذهب كُل خبزك بفرح وأشرب خمرك بقلب طيّب.. لتكن ثيابك في كلّ حين بيضاء.. ألتذعيشا مع المرأة ألتي أحببتها.. لان ذلك نصيبك في الحياة وفي تعبك الذي تتعبه تحت الشمس. كلّ ما تجده يدك لتفعله فأفعله بقوّتك لأنّه ليس من عمل ولا اختراع ولا حكمة في الهاوية التي انت ذاهب اليها).
في التوراة استقرار الانسان في العالم السفلي ابدي فلا بعث ولا نشور: (يضجعون معا لا يقومون قد خمدوا كفتيلة أنطفأوا)…. العهد القديم: أشعيا، الاصحاح 17:43.
أنّ مسألة الموت والعالم الآخر قد عولجت في التوراة بكثير من الغموض والتناقض. فما تعطيه النصوص المتأخرة يختلف عمّا قدّمته النصوص السابقة، والمسألة برمّتها قد خضعت كغيرها من مسائل التوراة للتطوّر البطيء والمديد الذي طبع الفكر التورااتي عبر مسيرته الطويلة منذ الخروج وحتّى السبي والعودة من بابل.
مراحل تطوّر عقائد ما بعد الموت في التوراّة:
المرحلة الاولى:
تميّزت هذه المرحلة بالسكوت المطبق عن عالم ما بعد الموت وبالتلميح البعيد عن العالم الاسفل لا تُعرف ماهيته ولا احوال العيش فيه، وقد كانت هذه المرحلة ضرورية اذا اخذنا بنظر الاعتبار انّ دين موسى في بدايته كان استمرارا للتوحيد الاخناتوني وردّة فعل على الديانة الامونية الرسمية التي محت ذكر (آتون) وأضطهدت عابديه وهدمت هياكل عبادته. ولمّا كانت الحياة الآخرة تلعب دورا كبيرا في الديانة ألآتونية، كان لابد من الغاء فكرة هذه الحياة الآخرة في الديانة الجديدة التي تصارع جاهدة للفوز بقلوب الناس وانتزاعهم من سيطرة اوزوريس اله العالم الاسفل(ألمصري) وافضل طريقة لتحقيق هذه الغاية هي الغاء العالم الاسفل من اساسه واقتلاع فكرته جذريا. وهكذا كان.
المرحلة الثانية:
مع محاولات الاستقرار في الارض الجديدة كادت الديانة الموسوية التوحيدية الاولى تُنسى مع زوال الجيل الاول الذي عاصر موسى وأخذ عنه قبس التوحيد. وتحوّل (آتون) بالتدريج الى (يهوه) الها وثنيا دونما وثن، وتسربت للدين معتقدات الفلسطينيين والكنعانيين والآراميين، وبدأت فكرة العالم الاسفل بالتوضح اكثر فاكثر لتأخذ شكلا قريبا من مغتقدات السوريين والبابليين.
المرحلة ألثالثة:
احتك المسبيون اليهود اثناء السبي الطويل في بابل على يد نبوخذنصّر بالديانة الزرداشتية- عند جيرانهم الفرس- التي تؤكّد على الحياة الآخرة تأكيدا مطلقا. يوضّح اللاهوت الزرداشتي بكل دقّة وتفصيل حياة العالم الآخر.
فبعد الانتصار النهائي (لاهورامزدا) الاله الممثل للقوى الخيّرة والضياء والنظام على( أهريمان) الاله الممثل لقوى الشر والظلام والفوضى. يتوّج أهورامزدا الها واحدا احدا مطلقا على الاكوان وتبعث الاموات من مرقدها الى يوم الحساب فيوضع امام كل انسان ميزانه الذي يوزن حسناته وسيئاته، فمن زادت حسناته فالى نعيم دائم ومن كثرت سيئاته فإلى جحيم مقيم.
وهكذا وبدافع التأثيرات الفارسية أخذت فكرة الثواب والعقاب بالظهور في التوراة ولكن بشكل غامض. وبقيت هذه الفكرة موضع اخذ ورد ومناقشات بين اللاهوتيين حتى مولد المسيح دون ان يتم التوّصل لرأي قاطع فيها، ففي سفر دانيال نقرأ:
(وكثيرون من الراقدين في تراب الارض يستيقظون، هؤلاء الى الحياة الابدية وهؤلاء الى العار، للازدراء الابدي)…. العهد القديم دانيال، الاصحاح 2-3:12.
وهنا نجد أنّ النص فيه غموض ويعطي مجالا للتاويل دون اعطاء رأي قاطع، فجملة (كثيرون من الراقدين) تركت فجوة تمنع وجود تفسير قاطع للنص بأنّه دلالة على بعث حقيقي.
الزرداشية:
عقائد ما بعد الموت الزرداشتية احدثت انقلابا فكريا في المعتقدات الدينية ونلاحظ تأثيراته في الديانات الابراهيمية (اليهودية والمسيحية والاسلام)، فلأول مرة يتعرّف الفكر الانساني على مبدأ الثواب والعقاب في ألآخرة، ويُمكن تقسيم عقائد ما بعد الموت الى ما قبل الزرداشتية والى ما بعد الزرداشتية.
يوضّح اللاهوت الزرداشتي بكل دقّة وتفصيل حياة العالم الآخر.
فبعد الانتصار النهائي (لاهورامزدا) الاله الممثل للقوى الخيّرة والضياء والنظام على( أهريمان) الاله الممثل لقوى الشر والظلام والفوضى. يتوّج أهورامزدا الها واحدا احدا مطلقا على الاكوان وتبعث الاموات من مرقدها الى يوم الحساب فيوضع امام كل انسان ميزانه الذي يوزن حسناته وسيئاته، فمن زادت حسناته فالى نعيم دائم ومن كثرت سيئاته فإلى جحيم مقيم.
يرتبط معتقد نهاية التاريخ ارتباطاً وثيقاً بمعتقد البعث والحساب والحياة الثانية. فبعد أن دخل الموت في نسيج الحياة خلال فترة التمازج بين الخير والشر صار الموت من نصيب كل كائن حي، وبوابة عبور من حالة الجيتنغ المادية إلى حالة المينوغ الروحانية الهلامية القاصرة. فالأرواح بعد مغادرة الأجسام عقب الموت تبقى في برزخ المينوغ تنتظر يوم القيامة بشوق وترقُّب لكي تلتقي بأجسادها التي تبعث من التراب.
يحدثنا زرادشت في أناشيد الغاثا عن مصير الروح بعد الموت وأحوالها إلى زمن البعث والنشور. فبعد مفارقتها الجسم تَمثُل الروح أمام ميترا قاضي العالم الآخر (وهو رئيس فريق الأهورا الذين يشكلون مع الأميشا سبنتا الرهط السماوي المقدس) الذي يحاسبها على ما قدمت في الحياة الدنيا من أجل خير البشرية وخير العالم. ويقف على يمين ميترا ويساره مساعداه سرواشا وراشنو اللذان يقومان بوزن أعمال الميت بميزان الحساب، فيضعان حسناته في إحدى الكفتين وسيئاته في الأخرى. وهنا لا تشفع للمرء قرابينُه وطقوسه وعباداته الشكلانية، بل أفكاره وأقواله وأفعاله الطيبة.
فمن رجحت كفة خيره كان مآله الفردوس، ومن رجحت كفة شره كان مثواه هاوية الجحيم. بعد ذلك تتجه الروح لتعبر صراط المصير، وهو عبارة عن جسر يتسع أمام الروح الطيبة، فتسير الهوينى فوقه إلى الجهة الأخرى نحو بوابة الفردوس، ولكنه يضيق أمام الروح الخبيثة، فتتعثر وتسقط لتتلقَّفها نار جهنم. هناك أنغرا مانيو نفسه يسوم المذنبين سوء العذاب. أما من تساوت سيئاته وحسناته فيعبر الصراط إلى مكان وسط بين النعيم والجحيم، حيث يستمر في وجود باهت كظل شبحي بلا إحساس ( في الدين ألإسلاميتطوّرت هذه ألفكرة فالذين يتساوى اعمالهم الحسنة والسيئة ينتظرون في منطقة عالية بين ألجنّة والجحيم تُسمّى بألأعراف، إلى أنْ يقرر ألله مصيرهم).
هذا وتقدِّم شروح اللاهوتيين الزرادشتيين مزيداً من التفاصيل حول هذه القيامة الفردية. فبعد أن يوارى الميتُ مثواه الأخير تمكث روحه عند رأسه ثلاث ليال تتأمل في حسناتها وسيئاتها. وخلال ذلك يزورها ملائكة الرحمة إن كانت من الصالحين، أو شياطين العذاب إن كانت من الكافرين، فيسومونها سوء العذاب ( في ألمعتقد الإسلامي يزور ألميّت في ألقبر ملكان هما منكر ونكير لإمتحان ألميّت). وفي اليوم الرابع تُساق الروح إلى جلسة الحساب(في ألمعتقد الإسلامي يكون ألحساب في يوم ألقيامة وليس بعد أربعة ايام من ألوفاة).
وبعد اجتياز امتحان الميزان الذي يقرر مكان ألروح تتجه إلى الصراط، وهو عبارة عن جسر يشبه السيف: فإذا كان العابر روحاً خبيثة فإن السيف يستدير بطرفه الحاد نحو الأعلى، فتخطو الروح عليه ثلاث خطوات، هي الفكر السيئ والقول السيئ والعمل السيئ، وعندما تحاول الخطوة الرابعة تنزلق إلى مهاوي جهنم؛ أما إذا كان العابر روحاً طيبة فإن السيف يستدير بطرفه العريض لتعبره الروح إلى الطرف الآخر بسلام.
وفي رواية أخرى، نجد أن الصالح، بعد خطوته الأولى على الصراط، تهب عليه ريح عطرة آتية من الجنة، وعند منتصف الصراط تظهر له فتاة في ريعان الصبا لم تقع العين في الحياة الدنيا على أجمل منها، فيسألها: “من أنتِ؟” فتقول: “أنا عملك الطيب.” ثم تأخذ بيده إلى الجنة. وأما الإنسان الطالح، فبعد خطوته الأولى على الصراط تهب عليه ريح نتنة من أعماق الجحيم، وعند منتصف الصراط تظهر له عجوز شمطاء نتنة لم تقع العين على أقبح منها، فيسألها: “من أنتِ؟” فتقول: “أنا عملك السيئ.” ثم تقبل عليه وتعانقه، فيهويان معاً إلى الجحيم.
يتألف الجحيم من عدة دركات، يقع أسفلها في مركز الأرض، حيث يتكاثف الظلام حتى يمكن إمساكه باليد، وحيث يتصاعد نتنٌ لا تطيقه نفس بشرية أو شيطانية. فيستقبل كل درك أهلها حسب فداحة ذنوبهم، وتُقدَّم لهم من صنوف العذاب ما يوازيها. أما السماء فتتصاعد على ثلاث درجات تقابل الفكر الحسن والقول الحسن والعمل الحسن. فالدرجة الأولى عند خط النجوم، والثانية عند خط القمر، والثالثة عند خط الشمس. فتصعد الروح هذه الدرجات تباعاً وصولاً إلى السماء العليا غارو–ديمانا، أو مسكن الغناء، وهناك تقيم في بركة وسلام إلى يوم الحساب الأخير.
بظهور المخلّص شاوشنياط* تحل الأيام الأخيرة وتقترب الساعة: يوم تلفظ الأرض ما أُتخِمَت به من عظام الموتى خلال مراحل التاريخ الثلاثة، ويُفرَغ الجحيم والفردوس من سكانهما ليعودوا إلى الحشر العظيم. هناك يلتقي من مات منذ آلاف السنين بمن بقي حياً إلى يوم الدينونة، ليأتي الجميع إلى الحساب الأخير. في ذلك اليوم، يسلِّط الملائكة ناراً على الأرض تذيب معادن الجبال وتشكل نهراً من السائل الناري ما من أحد إلا وارده. فأما الأخيار فيعبرونه كمن يخوض في نهر لبن دافئ؛ وأما الأشرار فينجرفون في التيار الذي يفنيهم ويمحو عن الأرض أثرهم بعد عذاب أليم.
ويكون جند الظلام قد اندحروا في المعركة الفاصلة مع جند النور واستؤصلت شأفتهم، فيغوص في نهر النار إلى أعماق الجحيم حيث لجأ أنغرا مانيو ومن بقي معه، فيلتهمهم جميعاً ويتم التخلص من آخر بقايا الشر. كما أن الجحيم نفسه يتطهر مثلما تطهرت بقية أجزاء الكون، ويغدو إقليماً من أقاليم الأرض الزاهرة. عند ذلك يعيش الذين عبروا نهر النار سالمين في أرض جديدة وتحت سماء، هي نفس الأرض ونفس السماء وقد تطهَّرتا وصارتا نقيتين إلى الأبد. ثم يقوم أهورا مزدا بسقيا هؤلاء الأخيار شراب الخلود الذي يجعل أرواحهم وأجسادهم في اتحاد أبدي، ويغدون خالدين في جنة وِسعُها السماوات والأرض، كل بقعة فيها ربيع أخضر دائم، وتحتوي على كل شجر وثمر وزهر.
* شاوشنياط (أو شاوشيانز) – هو الذي يقود المعركة الفاصلة بين قوى النور وقوى الظلام. وسوف يولد المخلِّص شاوشنياط من عذراء تحمل به عندما تنزل للاستحمام في بحيرة كانا سافا، فتتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظها الملائكة هناك إلى اليوم الموعود ( في العقيدة ألمسيحية ألإله المخلِّص أبن ألله أيضا يولد من عذراء ولكن عن طريق روح ألقدس).
المسيحية:
في مسيرة المسيحية الاولى في القرون الثلاث بعد الميلاد، حيث ارتبطت بكونها فرقة يهودية جديدة، تخبّط الفكر اللاهوتي قبل ان يتوصل لقرار حاسم في البعث وخلود الروح وشمولية الثواب والعقاب، فكانت فكرة خلود الروح تقتصر على المؤمنين الذين اتّحدوا بالمسيح فأعطيت لهم به الحياة، شأنها في ذلك شأن ديانات الاسرار التي كانت شائعة في الامبراطورية الرومانية في تلك الآونة كالاورفية وغيرها، حيث كان الالتصاق بمخلّص هو (ديونيسيوس أوغيره) شرط للخلاص وللحياة الجديدة.
في الاحتفالات الدينية الربيعية بديونيسيوس، كان يجري تمثيل عذابات الاله الميّت في لحظاته الاخيرة بدقائقها مصحوبا بالاناشيد الحزينة والموسيقى. ثمّ يؤتى بثور يمثل الاله القتيل الذي التهمه التيتان ( اسم آلهة) وهو على هذه الصورة فيمزقونه ويلتهمون لحمه ويشربون دمه على اصوات الموسيقى المجنونة، معبرين بذلك رمزيا عن رغبتهم في الاتحاد بالاله القتيل بواسطة اكل جسده وشرب دمه، تماما كما علّمنا المسيح فيما بعد،
نقرأ في العهد الجديد، من الاصحاح 36:
( وفيما هم يأكلون اخذ المسيح الخبز وبارك وكسر واعطى التلاميذ وقال خذوا كلوا هذاهو جسدي. واخذ الكأس وشكر واعطاهم قائلا اشربوا منها كلكم. لأنّ هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من اجل الكثيرين لمغفرة الخطايا).
وبعد تناول القربان كانت الطقوس تستمر فيجري تمثيل ولادة ديونيسيوس الثانية وبعثه من بين الاموات.
ولم تكن (جيهينا) أي الجحيم المسيحي في بداية عهدها سوى اداة تدمير اكثر منها مكان تعذيب سرمدي.
تحدثنا اسطورة مسيحية مبكرة عن نزول المسيح للعالم الاسفل وتخليصه عددا كبيرا من الانبياء والقديسين واصطحابهم معه الى السماء. دعيت هذه الاسطورة بانجيل (نيكوديس) وجرى تداولها كحكاية شعبية فترة طويلة من الزمن. تبدأ القصة في منتصف الليل في العالم الاسفل حيث بزغ من غياهب الظلمة شيء اشبه ما يكون بنور الشمس فأبتهج الجميع وخصوصا ابراهيم الذي قال: انّ هذا الشعاع يصدر عن ضوء عظيم.
امّا اشعيا ويوحنا فقد عادا يرددان نبوؤاتهما، يعقب ذلك حديث بين الموت والشيطان فيقوم الاخير بتحذير الموت من المسيح ودعواه الباطلة مستغلا خوف الموت من فقدان جميع الموتى في عالمه بعد ان افقده المسيح لعازر الذي احياه بعد وفاته.
في نهاية الاسطورة يمسك المسيح الشيطان ويسلمه للملائكة قائلا لهم ان يطبقوا فمه ويقيدوا يديه وقدميه، وعندما ينتهون من ذلك يسلمه للموت قائلا له: ( احتفظ به الى حين قدومي الثاني) وبينما يأخذ الموت في صب سخريته وازدرائه على الشيطان، يقوم المسيح بتحرير آدم والانبياء والقديسين ويرفعهم معه الى السماء حيث جنات عدن. وقبل الصعود يعرج بعضهم الى نهر الاردن فيتعمد بمائه.
في انجيل يوحنا. 3:6-17 نقرأ: (لانّه هكذا احبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الابدية، لانّه لم يرسل الله ابنه الى العالم ليدين العالم بل ليخلّص به العالم).
المسيحية تمثّل عن حق مرحلة انتصار الحياة على الموت في الدين والاسطورة، فما حصل لاله الخصب ديونيسيوس مرة سيحصل لكل عباده المخلصين ممن سيدخلون في ديانته ويلتحقون به من دون بقية الالهة. قال السيد المسيح ( من آمن بي وإن مات فسيحيا).
لقد بلغ الانتصار على الموت قمته في المسيحية التي اعطت للانسان بعثا كاملا غير منقوص، حيث يعود الجسد سيرته الاولى بكل تفاصيله وأجزائه.
الواقع أنّ الذي اعطى المسيحية الطابع الجديد المنفصل عن اليهودية والقريب من الديانات الشرقية السرية، كان القديس بولص الذي كان كلّما تعمق بالتفكير وكلما ازداد بالتبشير والاحتكاك بجماهير الناس في الامبراطورية الرومانية، كلما اتجه في تفسيراته نحو افكار الديانات الشرقية البعلية والمتعلقة بالخلاص والفداء والدرام الالهي.
التقت المسيحية ايضا في كثير من طقوسها بطقوس الديانات البعلية السابقة عليها كطقس المعمودية بالماء الشائع لدى معظم ديانات الاسرار والذي كان يقصد الى تجديد الفرد وغسل ماضيه لادخاله في النحلة الجديدة، وطقس القربان المقدّس الذي يقصد الى الاتحاد بالاله عن طريق اكل جسده وشرب دمه رمزيا المشابهة لطقوس الديانة الديونوسيسية.
يقول المسيح ( انا هو خبز الحياة). ( من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة ابدية).
ألإسلام:
في الحلقة الرابعة من سلسلة عقائد مابعد الموت عند تناولنا لعقائد مابعد الموت في الديانة الزرداشتية قلنا أنّ عقائد ما بعد الموت الزرداشتية احدثت انقلابا فكريا في المعتقدات الدينية ونلاحظ تأثيراته في الديانات الابراهيمية (اليهودية والمسيحية والاسلام)، فلأول مرة يتعرّف الفكر الانساني على مبدأ الثواب والعقاب في ألآخرة، ويُمكن تقسيم عقائد ما بعد الموت الى ما قبل الزرداشتية والى ما بعد الزرداشتية.
فعند دراستنا لعقائد ما بعد الموت في الدين الاسلامي نجد بأنّها تأثرت بشكل أساسي بالعقائد الزرداشتية كعقيدة عذاب ألقبر ومرحلة البرزخ التي هي مرحلة وسطى بين القبر ويوم القيامة، وكذلك عقيدة الثواب الذي ينتظر المؤمنين الصالحين في الجنّة والعقاب الذي ينتظر الكفار الطالحين في الجحيم، كما لا يُنكر التاثيرات المسيحية على عقائد ما بعد الموت الاسلامية فيما يتعلق بالجنّة والجحيم والتي بدورها كانت متأثرة بالمعتقدات الزرداشتية.
ففي العقيدة الاسلامية كما في الزرداشتية، تبعث الاموات من مرقدها الى يوم الحساب فيوضع امام كل انسان ميزانه الذي يوزن حسناته وسيئاته، فمن زادت حسناته فالى نعيم دائم ومن كثرت سيئاته الى جحيم مقيم.
نستطيع تقسيم المراحل التي يمر بها الميّت في العقيدة الاسلامية الى ثلاثة مراحل:
المرحلة الاولى:
تبدأ بعد دفن الميّت حيث يأتيه ملكان ويسألونه بلسان عربي فصيح من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ وما كتابك؟
إن استطاع الميّت الاجابة على جميع هذه الاسئلة بصورة صحيحة فيتّسع قبره ويصبح كروضة من رياض ألجنّة، وإن فشل في ألإجابة فيعذّب من قبل الملكين ( منكر ونكير) عذابا شديدا يشيب من هوله الولدان.
وهناك عدة آيات ذُكِر فيها عذاب القبر في القرآن منها : (( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ))…الأنعام: من الآية93.
وكلمة اليوم في (( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ )) تشير الى الفترة التي تعقب خروج الروح مباشرة ، وعبارة (( تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ )) إشارة إلى عذاب القبر.
ومنها: (( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ))…ألسجدة:21. العذاب ألأدنى المقصود به في ألآية هو عذاب ألقبر.
ومنها قول ألقرآن عن آل فرعون : (( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ))… غافر:46. اي يُعرضون على النار قبل وبعد قيام الساعة ( في القبر ثمّ يوم القيامة ).
وكذلك ألآية : (( وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ))… ألأنفال:50 . اشارة الى الملكين المكلفين بتعذيب الكفّار في ألقبر.
ألمرحلة ألثانية:
تبدأ بعد نفخ ألصور فتقوم ألقيامة وتبدأ المحاكمة فيشهد على ألإنسان أعضاء جسمه فمن أوتي كتابه بيمينه (اي يكون أعماله ألصالحة أثقل في ألميزان من أعماله ألسيئة) فقد أفلح ويجازى بألجنّة، ومن أوتي كتابه بشماله (اي يكون أعماله ألسيئة أثقل في ألميزان من أعماله ألصالحة) فيكون مصيره إلى جهنّم خالدا فيها.
في سورة النحل، ألآية 56، يقول ألقرآن عن يوم القيامة: (( تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ))، ويقول كذلك في سورة النحل ألآية 93: (( وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ))، ولكن آيةً في سورة الرحمن تنفي حدوث السؤال للإنس والجن يوم القيامة ففي ألآية 39 من سورة الرحمن: (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)، فهنا نلاحظ تناقضا واضحا في العقيدة، فكيف يُمكن الجمع بين هذه الآيات التي تثبت الحساب، والأخرى ألتي تنفيه؟
(( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم . يوم ترونها تَذْهَلُ كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذابَ الله شديد))… الحج: 1-2. هذا وصف لأهوال يوم ألقيامة وتشبيه له بحدوث الزلازل ألأرضية.
(( يوم تمور السماء موراً . وتسير الجبال سيراً ))…الطور: 9- 10. وصف آخر ليوم ألقيامة
(( ويسألونك عن الجبال، فقل ينسفها ربي نسفاً . فَيَذَرُها قاعاً صفصفاً . لا ترى فيها عِوَجاً ولا أمتا ))… طه: 105-107. اي انّ الجبال تفقد أرتفاعاتها وتتحول الى أرض مستوية لا أعوجاج في شكلها.
ألمرحلة ألثالثة:
وفيها يستقر فيها الفائزون في جنّة عرضها السموات والأرض، والخاسرون يُساقون ألى جهنم خالدين فيها ابدا.
أوصاف ألجنّة في ألفرآن:
في ألجنّة حدائق وفاكهة من جمييع الأنواع ولحم طير، وأنهار من خمر ولبن وعسل وحوريات أثداءهن كواعب ( اي مشدودة وغير متدلية ككعب ألرِجل في صلابتها) وتكون الحوريات في ألجنة متماثلة في ألاعمار:(( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا *حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا *وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا *وَكَأْسًا دِهَاقًا *لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا *جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا * ))… سورة ألنبأ، ألآيات 31-36.
كما يوعَد ألمؤمِن بألخدمة مِنْ قِبل غلمان ذو حُسن وجمال فائق:
(( وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَـلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِـَانِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ * قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَنٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ))… الإِنسان: 14-20، يقول ألمُفسِّر أبن كثير في تفسير هذه ألآية ما يلي:
أَيْ يَطُوف عَلَى أَهْل الْجَنَّة لِلْخِدْمَةِ وِلْدَان مِنْ وِلْدَان الْجَنَّة ” مُخَلَّدُونَ ” أَيْ عَلَى حَالَة وَاحِدَة مُخَلَّدُونَ عَلَيْهَا لَا يَتَغَيَّرُونَ عَنْهَا لَا تَزِيد أَعْمَارهمْ عَنْ تِلْكَ السِّنّ وَمَنْ فَسَّرَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُخَرَّصُونَ فِي آذَانهمْ الْأَقْرِطَة فَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ الْمَعْنَى بِذَلِكَ لِأَنَّ الصَّغِير هُوَ الَّذِي يَلِيق لَهُ ذَلِكَ دُون الْكَبِير ” إِذَا رَأَيْتهمْ حَسِبْتهمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ” أَيْ إِذَا رَأَيْتهمْ فِي اِنْتِشَارهمْ فِي قَضَاء حَوَائِج السَّادَة وَكَثْرَتهمْ وَصَبَاحَة وُجُوههمْ وَحُسْن أَلْوَانهمْ وَثِيَابهمْ وَحُلِيّهمْ حَسِبْتهمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا وَلَا يَكُون فِي التَّشْبِيه أَحْسَن مِنْ هَذَا وَلَا فِي الْمَنْظَر أَحْسَن مِنْ اللُّؤْلُؤ الْمَنْثُور عَلَى الْمَكَان الْحَسَن قَالَ قَتَاده عَنْ أَبِي أَيُّوب عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو : مَا مِنْ أَهْل الْجَنَّة مِنْ أَحَد إِلَّا يَسْعَى عَلَيْهِ أَلْف خَادِم كُلّ خَادِم عَلَى عَمَل مَا عَلَيْهِ صَاحِبه…. أنتهى.
(( مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَـرُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَـفِرِينَ النَّارُ ))… الرعد: 53. أي أنّ ألطعام لاينفذ وألظلال دائمة في ألجنّة.
(( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا من كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ )) … محمد: 15. هنا مقارنة بين ما يشربه أهل ألجنّة (مَّاء غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ وخَمْر و عَسَلٍ مُّصَفًّى ) وما يشربه أهل ألنار (مَاء حَمِيمًا) اي ألماء الحار، أمّا طعام أهل ألجحيم فهو ألغسلين، وهو ما يخرج من الثوب ونحوه بالغسل ثم استعمل في كل جُرح، واستعمله القرآن في كل ما يسيل من جلود أهل النار، (( ولا يحض على طعام المسكين * فليس له اليوم ها هنا حميم *ولا طعام إلا من غسلين * لا يأكله إلاّ الخاطئون * ))، سورة ألحاقّة…..ألآيات 34-37 .
(( فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ )) …الغاشية: 10 16.
(( يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ))… الحج: 23.
(( عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَـهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ً )) …الإِنسان: 21.
(( مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ))… الرحمن: 76.
(( مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاَْرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ً ))… الإِنسان: 13.
(( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ * فِى جَنَّـتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَـبِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَـهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَـكِهَةٍ ءَامِنِينَ ))… الدخان: 51 55.
(( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ا لْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ))… الزخرف: 70- 74 .
(( فِيهِنَّ قَـصِرَتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ))… الرحمن: 56 58.
(( وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمرا حتى اذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ))… الزمر- 73
في حديث لرسول الإسلام:
(( الجنة لها ثمانية أبواب والنار لها سبعة أبواب ))، (عالم الموتى حسب الاساطير السومرية عالم حصين خلف سبعة جدران عالية وسبع بوابات حصينة عليها حراس شداد غلاظ).
والجنة درجات أعلاها الفردوس الأعلى، وهو تحت عرش الرحمن، ومنه تخرج أنهار الجنة الأربعة الرئيسية، نهر اللبن – نهر العسل – نهر الخمر – نهر الماء.
أعلى مقام فى الفردوس الأعلى هو مقام الوسيلة، وهو مقام ألرسول محمّد، ومن سأل الله له الوسيلة حلت له يوم القيامة ، ثم غرف أهل عليين، وهى قصور متعددة الأدوار من الدر والجواهر تجرى من تحتها الأنهار ويتراءون لأهل الجنة كما يرى الناس الكواكب والنجوم فى السماوات العلا، وهى منزلة الأنبياء والشهداء والصابرين من أهل البلاء والأسقام والمتحابين فى الله.
وفى الجنة غرف (قصور) من الجواهر الشفافة، يرى ظاهرها من باطنها وهي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وبات قائما والناس نيام.
ثم باقى أهل الدرجات وهى مائة درجة ، وأدناهم منزلة من كان له ملك مثل عشرة أمثال أغنى ملوك الدنيا .
أنهار الجنة وأشجارها :
وللجنة أنهار وعيون، تنبع كلها من الأنهار الأربعة الخارجة من الفردوس الأعلى، وقد ورد ذكر أسماء بعضها فى القرآن والأحاديث النبوية منها :
نهر الكوثر :
وهو نهر أعطي للرسول محمّد فى الجنة ويشرب منه المسلمون في الموقف يوم القيامة شربة لا يظمأون من بعدها أبدا، وقد سميت إحدى سور القرآن باسمه(سورة ألكوثر)، ووصفه نبي ألإسلام بأنّ حافتاه من قباب اللؤلؤ المجوف وترابه المسك وحصباؤه اللؤلؤ وماؤه أشد بياضا من الثلج وأحلى من السكر وآنيته من الذهب والفضة.
عين سلسبيل :
وهى شراب أهل اليمين ويمزج لهم بالزنجبيل.
عين مزاجها الكافور :
وهى شراب الأبرار .
وجميعها أشربة لا تسكر ولا تصدع ولا تذهب العقل بل تملأ شاربيها سروراً ونشوة لا يعرفها أهل الدنيا .
أشجار الجنة :
وجميعها سيقانها من الذهب وأوراقها من الزمرد الأخضر والجوهر وقد ذكر منها:
شجرة طوبى :
قال عنها ألرسول بإنها تشبه شجرة الجوز وهي بالغة العظم فى حجمها وتتفتق ثمارها عن ثياب أهل الجنة في كل ثمرة سبعون ثوبا ملوّنا من السندس ( الحرير الرقيق ) والإستبرق ( الحرير السميك ) لم ير مثلها أهل الدنيا ينال منها المؤمن ما يشاء، وعندها يجتمع أهل الجنة فيتذكرون لهو الدنيا ( اللعب والطرب والفنون ) فيبعث الله ريحا من الجنه تحرك تلك الشجرة بكل لهو كان فى الدنيا .
سدرة المنتهى :
وهي شجرة عظيمة تحت عرش الرحمن ويخرج من أصلها أربعة أنهار ويغشاها نور الله والعديد من الملائكة وهي مقام ألنبي ابراهيم، ومعه أطفال المؤمنين الذين ماتوا وهم صغار يرعاهم كأب لهم جميعا .
وأوراقها تحمل علم الخلائق وما لا يعلمه الا الله، وفي الجنة أشجار من جميع ألوان الفواكه المعروفة فى الدنيا ليس منها إلا الأسماء أما الجوهر فهو ما لا يعلمه الا الله ..
وقد ذكر من ثمار الجنة:
التين – العنب – الرمان – الطلح ( الموز ) والبلح ( النخيل ) والسدر ( النبق)، وجميع ما خلق الله لأهل الدنيا من ثمار .
صفة أهل الجنة :
يبعث الله الرجال من أهل الجنة على صورة أبيهم آدم جردا (بغير شعر يغطى أبدانهم)، مردا (طوال القامة ستون ذراعا أى حوالى ثلا ثة وثلاثون مترا)، مكحلين فى الثالثة والثلاثين من العمر ، على مسحة وصورة يوسف وقلب أيوب ولسان محمد (أي يتكلمون العربية) وقد أنعم الله عليهم بتمام الكمال والجمال والشباب لا يموتون ولا ينامون. ونساء الجنة صنفان…
الحور العين :
(( فِيهِنَّ خَيْرَتٌ حِسَانٌ * فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَتٌ فِى الْخِيَامِ ))… الرحمن: 70- 72.
وهن مخلوقات لأهل الجنة ..وصفهن الله فى كتابه العزيز: (كأنهن الياقوت والمرجان)، (وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون)، (كأنهن بيض مكنون) ،وهن نساء نضرات جميلات ناعمات لو أن واحدة منهن اطلعت على أهل الأرض لأضاءت الدنيا وما عليها وللمؤمن منهن ما لا يعد ولا يحصى .
قال رسول ألإسلام في حديث: (إن السحابة لتمر بأهل الجنة فيسألونها أن تمطرهم كواعب أترابا فتمطرهم ما يشاءون من الحور العين)
نساء الدنيا المؤمنات اللاتى يدخلهن الله الجنة برحمته :
وهؤلاء هن ملكات الجنة وهن أشرف وأفضل وأكمل وأجمل من الحور العين لعبادتهن الله فى الدنيا.
وفى حديث لرسول ألى أم سلمة :
(أن فضل نساء الدنيا على الحور العين كفضل ظاهر الثوب على بطانته )، وقد أعد الله لهن قصورا ونعيما ممدودا ..أعطاهن الله شبابا دائما وجمالا لم تره عين من قبل ..
قال نبي ألإسلام في وصفهن:
(أن المؤمن لينظر إلى مخ ساقها -أي زوجته- كما ينظر أحدكم إلى السلك من الفضة فى الياقوت كأنهن فى شفافية الجواهرعلى رؤوسهن التيجان وثيابهن الحرير).
المولودون فى الجنة :
وإذا أشتهى أحد من أهل الجنة الولد والإنجاب، أعطاه الله برحمته كما يشاء، وهذه رحمة لمن حرم الإنجاب فى الدنيا.
وقال نبي ألإسلام :
(اذا اشتهى المؤمن الولد فى الجنة كان حمله وسنه، أي نموه الى السن الذي يرغبه المؤمن فى ساعة كما يشتهي).
أوصاف ألجحيم في ألقرآن:
إنَّ ألعذاب وألرعب في جهنّم ألموصوف في ألقرآن يرتجف من هوله ألقلوب هلعا:
(( أَذَٰلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ *إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ * ))…سورة ألصّافات ألآية 62- 68، فأصحاب ألجحيم يأكلون مِن شجرة أسمها ألزقّوم وفاكهة هذه ألشجرة تشبه رؤوس ألشياطين.
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ))…سورة ألتحريم 16.
(( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ))…سورة ألنساء ألآية 56.
(( الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلَنا فسوف يعلمون. إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يُسحَبون. في الحميم ثم في النار يُسجَرون))…غافر: 70-72.
إنّ تصوير العذاب النفسي يبرز في مظاهر ذلتة وخنوع وسواد وجوه أصحاب ألجحيم، التي تبدو كأنها قِطَعٌ من الليل المظلم.
(( والذين كَسَبُوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وترهَقهم ذلّة مالهم من الله من عاصم، كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مُظْلِماً، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون))…يونس:27.
في حديث المعراج يرد بأن النبي اطلع على النار عندما طلب إلى مالك خازن النار أن يرفع الطبق عنها ليرى ما بداخلها ، ليتضح للنبي فيما بعد أن أكثر أهل النار من النساء.
ومقابل خازن النار يوجد في الجنّة خازن للجنان ( رضوان ) وهناك ملك الهواء وملك الأرزاق وملك الماء وتذكّرنا هذه التسميات بآلهة حضارات الرافدين في العالم السفلي.
ألمعذبون في الجحيم سيتكلمون مع المتنعمين في ألجنّة حسب ألآية 50 من سورة ألأعراف، (( ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين ))، أي أنّ حواس ألأنسان في ألآخرة تكون فعّالة في ألآخرة.
خاتمة:
بعد هذا ألإستعراض لعقائد ما بعد ألموت لحاضارات وادي ألرافدين ( السومرية والبابلية والآشورية)، وعقائد ألدين ألزرداشتي وألأديان ألإبراهيمية ألثلاث ( اليهودية والمسيحية وألإسلام ) نجد بأنّ هناك تطوّر متسلسل في عقائد ما بعد ألموت ونظرة ألإنسان إلى ألعالم ألعلوي وألعالم ألأسفل. هنالك تشابه ملحوظ بين الحضارات ألرافدينية ألثلاث في هذا المجال، فألرافدينيون لم يؤمنوا بوجود ألثواب والعقاب في ألعالم ألأسفل فهناك يتساوى ألصالح والطالح ولكن مع وجود بعض ألفروقات في ألموقع والمعاملة حسب موقع ألميّت في ألحياة فألملوك مثلا لهم أماكن خاصة في ألجحيم ألرافديني، ولكنّ ألجميع في ألعالم ألأسفل يكونون في حالة شبحية.
لا يوجد في عقائد ما بعد الموت ألرافديني ثنائية ألجنّة وألجحيم، ولا ثنائية ألثواب وألعقاب، في ألاساطير ألرافدينية نلاحظ بأنّ إله ألخصب ( أنانا أو عشتار) أو أبنها ( تمّوز أو ديموزي) يؤسر أو يُختطف من قبل آلهة ألعالم ألأسفل ويبقى هنالك لفترة معينّة ثمّ يصعد ألى ألأعلى، هذا ألتناوب له علاقة بألمواسم ألزراعية من خريف وصيف وربيع وخريف، فألإنسان ألرافديني كان همّه ألأول طعامه ألأساسي ألقمح ودورة حياته فبعد موسم ألحصاد كانت تقام ألمآتم ألتي ترمز ألى جفاف ألأرض وموت الهة ألخصب ونزولها الى ألعالم ألأسفل، أمّا في موسع ألربيع فكانت ألأحتفالات تتسم بطابع ألسعادة وألفرح لقيام آلهة ألخصب من ألموت وتحرره من ألعالم الأسفل.
عقائد ما بعد الموت والعالم الاخر في التوراة هي امتداد لعقائد السومريين والبابليين. فعالم الموتى هو عالم سفلي تذهب اليه ارواح الموتى جميعا دون تمييز.فنجد فيه القديسين والناس العاديين معا. وليست عملية الموت الّا مرحلة تقود الفرد من حالة الى اخرى من احوال الوجود، عن طريق مفارقة الروح للجسد.
انّ الارواح تكون متساوية في مصيرها كما هو الامر في ثقافة وادي الرافدين: فلا بعث هناك ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب، بل وجود ثقيل راكد، واستمرار لا فرح فيه ولا نشوة.
عقائد ما بعد الموت الزرداشتية احدثت انقلابا فكريا في المعتقدات الدينية ونلاحظ تأثيراته في الديانات الابراهيمية (اليهودية والمسيحية والاسلام)، فلأول مرة يتعرّف الفكر الانساني على مبدأ الثواب والعقاب في ألآخرة ويطفو إلى ألسطح ثنائية ألجنّة وألجحيم.
في مسيرة المسيحية الاولى في القرون الثلاث بعد الميلاد، حيث ارتبطت بكونها فرقة يهودية جديدة، تخبّط الفكر اللاهوتي قبل ان يتوصل لقرار حاسم في البعث وخلود الروح وشمولية الثواب والعقاب، فكانت فكرة خلود الروح تقتصر على المؤمنين الذين اتّحدوا بالمسيح فأعطيت لهم به الحياة، شأنها في ذلك شأن ديانات الاسرار التي كانت شائعة في الامبراطورية الرومانية في تلك الآونة كالاورفية وغيرها، حيث كان الالتصاق بمخلّص هو (ديونيسيوس أوغيره) شرط للخلاص وللحياة الجديدة.
وأخيرا فإنّ عقائد ما بعد الموت في الدين الاسلامي وصلت إلى مرحلة ألنضج بتأثير العقائد الزرداشتية و التاثيرات المسيحية فظهرت العقائد بصورة أوضح وبتفاصيل مضافة عجيبة عليها، كعقيدة عذاب ألقبر ومرحلة البرزخ، وكذلك عقيدة الثواب الذي ينتظر المؤمنين الصالحين في الجنّة والعقاب الذي ينتظر الكفار الطالحين في الجحيم.
إن دين ألإنسان بدأ بعبادة ألأنثى (ألأم ألكبرى) في ألعصر ألبيالوتي( قبل ميلاد المسيح بعشرة آلاف سنة) فكانت هي رمز ألخصب وألعطاء وألذي أرتبط في خيال الإنسان ألقديم بعطاء ألأرض بعد أكتشاف ألإنسان الزراعة وإنشائه ألقرى ألزراعية، ولكن بعد أنشائه ألمدن ألحضرية وألدولة وحكم ألمجتمعات ألحضرية من قبل ألملوك قام ألذكور بإنقلاب على ألأديان ألأمومية، فظهرت إلى ألوجود الآلهة ألذكور وألأديان ألذكورية كأليهودية وربيبتها ألإسلام.
في ألمقالات ألقادمة سنتطرق الى مواضيع ألتكوين وخلق ألعالم وخلق ألإنسان في أساطير وادي ألرافدين وتأثيرات هذه ألاساطير على ألأديان أللاحقة وسنحاول كشف جذور بعض أسفار ألكتاب ألمقدّس ( ألتوراة وألإنجيل ) والقرآن.
2- حكايات جدتي واسطورة أيتانا والنسر:
كنّا أطفالا نجلس حول ألمدفأة لنتدفأ بألحرارة ألمنبعثة من جمرات ألفحم في ليالي ألشتاء ألباردة في أعوام الخمسينات من القرن العشرين حيث لم يكن العراق قد تعرّف بعدُ على أجهزة ألتدفئة والتكييف والتلفزيون. التسلية الوحيدة لنا كانت حكايات جدتي.
قبل فترة أطّلعت على ثلاثة مؤلفات للكاتب السوري فراس السوّاح (مغامرة ألعقل ألأولى ولغز عشتار وألأسطورة وألمعنى) يبحث فيهم أساطير الحضارات ألقديمة كالحضارة ألاوغارتية في سوريا وحضارات وادي الرافدين (السومرية والبابلية وإلاشورية). أثارت بعض هذه ألأساطير في عقلي ذكريات ألطفولة فتذكرت بعض حكايات جدتي واستغربت من ألشبه ألغريب بين بعض حكايات جدتي وبعض هذه الاساطير وتساءلت: كيف وصلت هذه ألأساطير بعد آلاف ألسنين الى جدتي؟ فجدتي لم تكن بإمكانها قراءة ترجمات ألبروفيسور كريمر لألواح ألكتابات المسمارية لأنّها لم تكن تعرف ألقراءة وألكتابة أصلا. التفسير ألمنطقي لهذا التشابه هو أنّ ألأساطير ألسومرية أنتقلت خلال ألأجيال ألى جدتي شفاها وعبر آلاف ألسنين.
سأحكي لكم إحدى هذه ألحكايات ثمّ سأحاول ألبحث عن أصولها في أساطير ألأولين.
حكاية محمّد جَلَبي:
بدأت جدّتي حكايتها بقولها: كان في قديم ألزمان ملك حكيم له ثلاثة أولاد ذكور، سليمان كان أكبر أولاده، أمّا راغب فكان ألأوسط بين إخوته وكان محمّد جَلَبي آخر ألعنقود.
بعد أنْ أصاب ألقحط مملكتهم وبينما كان ألملك على فراش ألموت محتضرا، أستدعى أولاده ألثلاثة ليتلوا عليهم وصيّته ألأخيرة.
قال ألملك:
– بعد أن وفاتي سيكون وزيري شعلان حاكما لمملكتنا أمّا أنتم فأوصيكم بترك هذه ألديار، سيحوا في أرض ألله ألواسعة وأبحثوا لشعبكم عن اراضي خصبة قرب نهر، وعندما تجدونها أرجعوا الى موطنكم وأصطحبوا شعبكم إلى هناك لتبدأوا حياة جديدة مليئة بألخير وألرفاه. أثناء سفركم لا تبيتوا في ألليل تحت شجرة عملاقة ولا في ألخرائب ولا قرب طاحونة مهجورة.
بعد أن أسلم الملك ألحكيم ألروح وبعد مراسيم ألدفن، ودّع ألأشقاء ألثلاثة رعيّتهم وبدأوا رحلتهم نحو ألمجهول بقلوب يملأوها ألغم. بعد رحلة مضنية وعندما أسدل ألليل ستائره قرروا ألمبيت ومواصلة رحلتهم في الصباح ألباكر.
على مقربة من مكان توقّفهم لاحظوا وجود شجرة عملاقة فقال سليمان ألشقيق ألأكبر:
– من ألأفضل أن نبيت تحت هذه ألشجرة فإنّي أراها مناسبة للمبيت.
وافق ألشقيق ألأوسط راغب على إقتراح شقيقه ولكن محمّد جَلَبي ألشقيق ألأصغر تدخل معترضا:
– ألم يوصينا والدنا بعدم ألمبيت تحت شجرة عملاقة؟
أجابه سليمان:
-لا أرى سببا مقنعا يمنعنا من ألمبيت تحت هذه ألشجرة، ثمّ أنّي سأقوم بمهمّة ألحراسة هذه ألليلة وأهيء لنا طعام ألفطور وسيكون جاهزا عند أستيقاظكم في ألصباح.
بعد مناقشات حامية وافق محمّد مرغَما على إقتراح سليمان، فنام ألشقيقان وظلّ سليمان ساهرا يحرسهم،
قبل أنبلاج خيوط ألفجر أشعل سليمان نارا وهيأ طعام ألفطور، في تلك أللحظة سمع صوتا غريبا كفحيح ألأفعى وفجأة ظهر أمامه غول قزم طوله شبر واحد وطول لحيته أربعون شبرا، فجفل سليمان من هول ألمفاجأة وتسمّر في مكانه مرعوبا.
قال الغول ألقزم مادّا يده أليمنى:
– أين حصّتي من ألطعام؟
أمسك سليمان قِدِر ألطعام وهو يرتجف من الخوف وناوله ألى ألغول لأتّقاء شرّه. أخذ ألغول غنيمته وأختفى بسرعة في ألظلام.
في ألصباح ألباكر استيقظ شقيقا سليمان من النوم وتهيئا لتناول طعام ألفطور، فبادرهم سليمان وقصّ عليهم ما حدث له في ألليل مع ألغول ألقزم.
قال محمّد معقّبا:
– لِمَ لَمْ تقتله بضربة من سيفك؟
أجابه سليمان:
لقد شُلَّت يدي من هول ألمفاجأة.
بدا ألإخوة ألثلاثة رحلتهم مرة أخرى بعد تناولهم وجبة خفيفة من ألطعام، فساروا طول النهار بحثا عن اراضي خصبة تكون قرب مجرى للمياه ولكن جهودهم لم تتكلل بالنجاح، وعند حلول ألظلام لاحظوا آثار خرائب على مقربة منهم.
قال راغب:
– أقترح ألمبيت داخل هذه ألخرائب فألطقس هذه ألليلة بارد جدا.
وافق سليمان على أقتراح شقيقه فورا ولكنّ محمّد قال معترضا:
– كيف نسيتم وصيّة والدنا بهذه ألسرعة؟ ألمْ يوصينا بعدم ألمبيت في ألخرائب؟ هل نسيتم ما حدث ألليلة ألماضية؟
قال راغب ضاحكا:
– سأستلم ألمناوبة هذه ألليلة وسأشطر ألغول ألقزم إلى شطرين بسيفي إنْ ظهر أمامي فلا تقلق يامحمّد، وسأهيأ لكم فطورا لذيذا لم تحلموا بمثله أبدا.
وبعد نقاش طويل خضع محمّد لرغبة أخوته مرغَما.
قبل أنبلاج خيوط ألفجر أشعل راغب نارا وهيأ طعام ألفطور، في تلك أللحظة سمع صوتا غريبا كفحيح ألأفعى وفجأة ظهر أمامه غول طوله شبر واحد وطول لحيته أربعون شبرا، فجفل راغب من هول ألمفاجأة وتسمّر في مكانه مرعوبا.
قال الغول مادّا يده أليمنى:
– أين حصّتي من ألطعام؟
أمسك راغب قِدِر ألطعام وهو يرتجف من الخوف وناوله ألى ألغول لأتّقاء شرّه. أخذ ألغول غنيمته وأختفى بسرعة في ألظلام.
في ألصباح ألباكر استيقظ شقيقا راغب من النوم وتهيئا لتناول طعام ألفطور، فبادرهم راغب وقصّ عليهم ما حدث له في ألليل مع ألغول ألقزم.
قال محمّد معقّبا:
– لِمَ لَمْ تقتله بضربة من سيفك؟
أجابه راغب:
– لقد شُلَّت يدي من هول ألمفاجأة.
بدا ألإخوة ألثلاثة رحلتهم مرة أخرى بعد تناولهم وجبة خفيفة من ألطعام، فساروا طول النهار بحثا عن اراضي خصبة تكون قرب مجرى للمياه ولكن جهودهم لم تتكلل بالنجاح، وعند حلول ألظلام لاحظوا وجود طاحونة مهجورة على مقربة منهم.
قال سليمان:
– أقترح ألمبيت داخل هذه ألطاحونة ألمهجورة فألطقس هذه ألليلة بارد جدا.
وافق راغب على أقتراح شقيقه فورا ولكنّ محمّد قال معترضا:
– كيف نسيتم وصيّة والدنا بهذه ألسرعة؟ ألمْ يوصينا بعدم ألمبيت في ألطاحونة ألمهجورة؟ هل نسيتم ما حدث في ألليلتان ألماضيتان؟ ولكن إنّ كنتم مصرين على ألمبيت
هناك سأستلم أنا ألمناوبة هذه ألليلة لأنّي مزمع على ألأنتقام من هذا ألغول ألقزم لسرقته طعامنا مرّتين.
قبل أنبلاج خيوط ألفجر أشعل محمّد نارا وهيأ طعام ألفطور، في تلك أللحظة سمع صوتا غريبا كفحيح ألأفعى وفجأة ظهر أمامه غول طوله شبر واحد وطول لحيته أربعون شبرا، فجفل محمّد من هول ألمفاجأة ولكنّه أستعاد رباطة جأشه بسرعة.
قال الغول مادّا يده أليمنى:
– أين حصّتي من ألطعام؟
سحب محمّد سيفه بسرعة ألبرق وهوى به على أليد ألممدودة للغول ألقزم فقطعه من ألكاحل. تراجع القزم وهو يصيح من شدة ألالم وأختفى في ألظلام ألدامس.
هرول محمّد خلف ألغول راميا قتله ولكنّ جهوده ذهبت أدراج الرياح، فالغول أختفى كأنّ ألأرض أنشقت وأبتلعته.
في ألصباح أستيقظ سليمان وراغب ووجدوا قِدِر ألطعام جاهزا ومحمّد يحرسه والسيف بيمينه، قال سليمان بلهفة:
– ماذا حدث ونحن نيام، الم يحضر ألقزم ألملعون لأخذ طعامنا؟
اجابه محمّد بفخر:
بلى ولكنّي أعطيته درسا لن ينساه طوال حياته، انظرا هذه يده أليمنى بترته بحسامي وسيكون عبرة لمن أعتبر، هيّا لنتناول طعامنا قبل أنْ يبرد، وبعد ذلك سنتقتفي آثار ألغول السارق للقضاء عليه نهائيا.
أكمل الأشقاء ألثلاثة وجبتهم الشهية وبدأوا بأقتفاء آثار قطرات دم الغول على ألأرض، فقادتهم آثار الدماء إلى حافة بئر عميق.
تمعّنوا الى داخل ألبئر ولكنّهم لم يروا شيئا لعمق ألبئر، ولكنّهم في تلك ألأثناء سمعوا صوت نحيب إمرأة صادرة من قعر ألبئر.
تبادل الأشقاء ألثلاثة نظرات ألأستغراب، ثم تكلّم محمّد قائلا:
– سأحضر حبلا طويلا وساعدوني في ألهبوط إلى قعر ألبئر، سأنقذ هذه ألمرأة ألمسكينة وساقتل ألغول ألقزم أنتقاما لما أقترفته يداه بحقنّا وبحق تلك ألمسكينة.
أحضر محمّد حبلا وربطه حول خاصرته وتعاون سليمان مع شقيقه راغب وأنزلوا شقيقهم الأصغر إلى ألجُب. عندما لمستْ قدما محمّد قاع ألبئر حلّ عُقد ألحبل وتمعّن حواليه فرأى حوله سبعة ابواب، سحب سيفه من غمده وفتح الباب ألأول ودخل إلى غرفة واسعة عارية من ألأثاث، لاحظ محمّد وجود فتاة جميلة في ريعان الشباب مكوّمة في إحدى اركان ألغرفة وكانت ترتجف من الخوف والهلع.
أقترب محمّد منها وخفف من روعها بكلمات رقيقة وقال لها برفق:
– تعالي معي سأُخرجك من هذا ألسجن.
ربط محمّد ألحبل حول خاصرة ألفتاة وصاح بأعلى صوته مخاطبا شقيقيه:
– أسحبوا ألحبل ألى ألأعلى.
تمّت عملية ألإنقاذ للفتاة بنجاح، ثمّ رمى الشقيقان طرف ألحبل مرّة أُخرى إلى قاع ألبئر. في تلك الأثناء فتح محمّد ُجلُبي ألباب ألثاني وهاله ما رأى، في ركن ألغرفة وجدَ فتاة أخرى أجمل من فتاة الغرفة ألأولى وهي مكوّمة كشقيقتها وهي تنتحب وترتجف من ألخوف. تكررت عملية ألإنقاذ للفتاة وعند وصولها إلى ألسطح سمع محمّد صوت صرير ألباب ألسابع وخرج من الغرفة ألغول ألقزم زاعقا بصوت يصمّ ألآذان:
– هذا أنت إذن، لقد كنت أبحث عنك في ألسماء ووجدتك على ألأرض ساخنقك بيد واحدة.
هجم القزم على محمّد والشرر يتطاير من عينيه كألبرق وأشتبك الغريمان في قتال عنيف.
سحب محمّد سيفه من غمده وبضربة قاضية دحرج رأس الغول على ألأرض.
بعد مقتل الغول القزم فتح محمّد بقية أبواب ألغرف فلم يجد فيهم أحدا، ربط طرف ألحبل في خاصرته ثم صاح بأعلى صوته:
– أرفعوني.
بدأ ألشقيقان بسحب محمّد إلى ألأعلى ولكن بإشارة من سليمان لراغب اوقفا عملية ألسحب. قال سليمان مخاطبا شقيقه راغب وفي عينيه بريق غريب:
– أنقذنا فتاتين، فإذا أنقذنا محمّد من ألبئر فسيحصل خلاف لا يُحمد عقباه بيننا حول من سيتزوج من ألفتاتين، لذا أقترح ترك ألحبل ليسقط محمّد في ألبئر، ما رايك؟
كان ألشقيقان يشعران في نفسيهما بألحسد تجاه محمّد منذ طفولتهم لأنّ والدهم ألملك كان يُحب محمّدا أكثر منهما لكونه ألأصغر ولشجاعته وحُسن أخلاقه.
فكّر راغب بأقتراح شقيقه ألأكبر سليمان لبرهة ثمّ أومأ برأسه موافقا على خطّة ألخيانة ألجهنمية.
تركَ ألشقيقان طرف ألحبل فسقط شقيقهم ألأصغر إلى قعر ألجب، ثمّ اسرعا مبتعدين برفقة ألفتاتين.
صعق محمّد من هول المفاجأة، وقام على ألفور صائحا:
– ماذا حدث، هل انقطع ألحبل، أجيبوني بحق ألله.
لم يستلم محمّد أية إجابة على تساؤلاته، وبدأ ينادي مرّة أخرى ولكن لا مجيب، ثمّ خارت قواه وتملّكه يأس قاتل، فهاهو يجد نفسه وحيدا في قعر البئر مع جثّة ألغول القزم.
جلس القرفصاء وحصر رأسه بين يديه وبدأ يُفكّر بطريقة للخروج من هذا ألمأزق ألمميت وأنّب نفسه لوضع ثقته بشقيقيه الخائنين.
فجأة لمعت في عقله تساؤل:
كيف كان ألغول ينزل الى البئر وكيف كان يصعد إلى ألسطح؟ لابدّ أنْ يكون هناك منفذ آخر لهذا ألبئر أللعين.
بدأ محمّد بفحص جميع ألغرف وأخيرا دخل إلى الغرفة ألسابعة وألتي خرج منها الغول فألفى نفسه في قاعة كبيرة مؤثثة بأفخر ألأثاث، في ألجدار المقابل للباب وجد مقبضا من النحاس . فأداره، فتفاجأ بحركة جزء من ألجدار حركة محورية فرأى نور ألشمس الساطع يتسلل من ألفتحة واغمض عيناه لبرهة متحاشيا ألبريق الساطع.
دلف من ألباب إلى الخارج قبل انْ ينغلق ثمّ أرتقى درجات سلم حجري فوجد نفسه في غابة واسعة لَمْ يرَ لجمالها مثيلا، أشجار باسقة وزهور يانعة وطيور مغردة.
في وسط الغابة صادفه شجرة عملاقة مخضرة الأغصان لا مثيل لها. شعر محمّد بالإرهاق بعد يوم حافل بألصراع فتمدد على مبعدة من ألشجرة ألعجيبة، فقد تذكّر وصية والده، بعدها راح في سبات عميق.
بعد فترة طويلة أستيقظ من نومه على صوت فحيح حية عملاقة تربض في وكرها تحت الشجرة ألعملاقة، بدات الحية تتسلق جذع ألشجرة، فراقبها عن كثب. الحية كانت تزحف ألى ألأعلى نحو عش طائر وعندما وصلت إلى الهدف ألتهمت فرختان من الفراخ الاربعة التي كانت في ألعش ثم تسللت راجعة إلى اسفل الشجرة ألعملاقة ورقدت في وكرها.
سحب ألأمير محمّد جَلَبي سيفه وأتجه صوب ألحية وبضربة واحدة على راسها قتلها ووضع قطع من لحمها في عش الطائر طعاما للفرختان الباقيتان على قيد ألحياة، وتمدد في ظل ألشجرة للراحة.
ظهر في ألسماء نسر كبير حطّ على قمّة الشجرة قرب ألعش فلاحظ إختفاء فرختين من فراخه فجن جنونه وحلّق قرب الشجرة وبدأ يتفحص حواليه باحثا عن قاتل فراخه.
شاهد النسر محمّد جَلَبي تحت ألشجرة فأنقض عليه ناويا ألأنتقام منه، ولكنّ ألفرختان بدأتا بألصراخ:
– لاتقتليه ياأمّي لانّه ليس القاتل، القاتلة هي ألحية وهذا ألذي ترومين قتله هو ألذي بطش بها وقطّع جسدها لتكون لنا طعاما.
هدأ ألنسر ونظر بأمتنان إلى محمّد وخاطبه قائلا:
– سأكافئك على صنيعك هذا، أطلب منّي ما تريد.
أجاب محمّد النسر:
– أطلب منك أنْ تحملني على ظهرك وتأخذني إلى أقرب مدينة.
ركب محمّد على ظهر النسر، وحلّق ألنسر عاليا ثمّ حطّ على مشارف اقرب مدينة ثمّ ودّع محمّدا وتمنّى له التوفيق وقفل راجعا إلى العش.
بعد مسيرة قصيرة دخل محّمد ألمدينة وهو يلهث من ألعطش. في أحدى ألأزقة طرق أوّل باب صادفه، بعد هنيهة فتحت ألباب أمرأة عجوز وقالت:
– ماذا تُريد يا ولدي؟
– أُريد شربة ماء ومكانا للمبيت فقد هدّني ألتعب.
أختفت ألعجوز في ألداخل لبرهة ثمّ عادت وهي تحمل إناء مملوءا بسائل اصفر، قرّب بطلنا ألإناء من فمه ولكنّه أشتمّ رائحة غريبة وقال:
– ما هذا؟ هذا ألسائل تفوح منه رائحة ألبول، اتحاولين قتلي ياأمرأة؟
بكت العجوز بمرارة وقالت:
– أدخل ياولدي ساحكي لك ما نعانيه في هذه المدينة ألمنكوبة، واستطرت قائلة، ألمصدر ألوحيد للماء في مدينتنا نهر يقبع في مصبّه غول ضخم مرعب يمنع جريان ألنهر فتتجمّع ألمياه في بحيرة قرب ألمصب، وفي كلّ يوم يطلب منّا فتاة شابة تحمل قدرا من ألرز ألمطبوخ، بعد ألتهام ألفتاة وألرز يحرّك جسده قليلا ويسمح لماء ألنهر بألجريان لفترة قصيرة، كمية ألماء ألقليلة هذه لا تكفي لجميع سكان المدينة، في ألأمس طلب ألغول ألأميرة ألحسناء كقربان وملكنا حائر ولا يدري ما سيفعل، هل يضحّي بأبنته أم يدع شعبه يموت من ألعطش والجوع بسبب ألجفاف؟
أصاب ألعجب محمّد جَلَبي، ثمّ قال:
– أنا مرهق جدا هل أستطيع ألمبيت عندكِ ألليلة؟
– سأهيء لك فراشا في ركن ألغرفة ياولدي.
في ألصباح ذهب ألأمير محمّد إلى مصب ألنهر وأختفى بين ألأشجار وبدا يراقب ألمكان عن كثب. بعد فترة حضرت ألأميرة وهي تحمل قدرا مليئا بألرز المطبوخ وسارت بخطوات وئيدة نحو الغول وهي تبكي حظّها ألعاثر. في تلك ألأثناء ظهر محمّد من مكمنه وأمسك ألاميرة من يدها ومنعها من ألإقتراب من ألغول خطوة أخرى.
جفلت ألأميرة لأول وهلة ثمّ قالت:
– مَنّ أنتَ، ماذا تحاول فعله؟ سيقضي ألغول عليك بضربة واحدة، ارجوك أنْ تبتعد من هنا بسرعة.
– لاتخافي أيتها ألحسناء سأنقذك من هذه ألكارثة.
تسمّرت ألأميرة في مكانها من ألخوف وبدأت تدعو ألله لكي ينقذها وهذا ألشاب ألجسور من هذه ألمحنة. زعق ألغول بصوت مدوّي وأنقض بسرعة ألبرق على ألأمير محمّد والشرر يتطاير من عينيه، تفادى محمّد بخفة ألصولة ألأولى للغول فسقط ألغول على ألأرض، وقبل أنْ يسترجع توازنه عاجله بطلنا بضربة من سيفه ألبتّار فقضى عليه قضاء مبرما وسالت دماء ألغول على ألأرض بغزارة ثمّ صبّت في مياه ألبحيرة فتحول لون مياه ألبحيرة وألنهر إلى اللون الأحمر.
قبلّت ألأميرة الحسناء محمّد جَلَبي وشكرته على صنيعه وقالت:
– تعال معي سآخذك إلى أبي ليكافئك لإنقاذي من ألموت وإنقاذ سكّان مدينتنا من ألعطش.
– ليس ألآن، لدي مهمّة عاجلة يجب إنجازها.
– ماهي؟ هل تستطيع أنْ تخبرني؟
– أنّي أبحث عن أخوتي.
– سنساعدك في ألبحث، هيّا معي.
– كلّا سأبحث بنفسي، هذه قضيّة عائلية ولا أرغب أنّ يتدخل أحد فيها.
– قل لي ما أسمك؟
– لايهم.
– أين سنجدك؟
– ليس لي عنوان ثابت، فأنا أسيح في ارض ألله ألواسعة.
بعد هذا ألحوار ألقصير ودّع محمّد ألأميرة وأستدار بأتجاه ألغابة ألمجاورة، في تلك أللحظة غمست ألأميرة يدها أليمنى في بركة صغيرة تجمع فيها دم ألغول ثمّ وضعت يدها ألملطخ بالدم على ظهر محمّد جَلَبي فأنطبعت أثار أصابعهاعلى قميصه ألأبيض.
رجع محمّد إلى بيت ألعجوز، ورجعت ألأميرة إلى قصر والدها، فأُقيمت ألأفراح لنجاتها ونجاة المدينة من ألغول.
شعور ألأميرة نحو محمّد تحولت من ألأمتنان وألإعجاب بشجاعته تدريجيا إلى حب جارف أسهدها ليال طوال فطلبت من والدها إرسال جنوده للبحث عن المُنقِذ ألمجهول، ولكنّ جميع ألجهود لم تفلح في العثور عليه.
قالت ألأميرة مخاطبة والدها:
– لدي طريقة للعثور عليه.
– ماهي يابنيتي؟
– أصدر أمرا لجنودك لجمع جميع شباب المدينة في ألساحة ألكبرى وليفحص ألجنود قمصان ألشباب، فإن وجدوا آثار دم ألغول على دبر قميص أحد ألشباب فهو ألشاب ألذي نبحث عنه.
أصدر ملك مملكة قندبور أوامره لتنفيذ خطة ابنته، فتجمّع جميع شباب ألمدينة في الساحة ألكبرى للمدينة، ولكنّ ألجنود لَمْ يعثروا على ألمُنقِذ ألمتواري عن الأنظار.
سمعت العجوز بما حدث في الساحة ألكبرى وتناهى إلى سمعها بأنّ الملك قد خصص مكافأة ثمينة لمن يدل على ألبطل المختفي عن ألأنظار، وكانت قد لاحظت آثار دماء على قميص ضيفها بعد إيابه ألى ألمنزل في يوم مقتل ألغول. في ألصباح ألباكر توجهت ألعجوز صوب قصر الملك وطلبت مقابلة ألملك لإبلاغه بمعلوماتها حول ضيفها. بعد فترة أنتظار سُمِح لها بمقابلة الملك فحكت كلّ ماتعرفه عن ضيفها.
أرسل الملك قائد ألجيش مع عدد من ألجنود لإحضار محمّد جَلَبي إلى القصر. في القصر كانت ألأميرة كلناز تنتظر حبيبها على أحر من ألجمر، وفي تلك ألأثناء سمعت جلبة ألجنود وهم يدخلون ألقصر بصحبة ألأمير محمّد فأسرعت إلى الديوان ألملكي وألأرض لا تسعها من ألفرحة.
عانق الملك الأمير وشكره على إنقاذه لأبنته وألمدينة من ألغول ألذي ألتَهَمَ مئات من فتيات ألمملكة وتسبب في العطش وجفاف حقول ألقمح والمزروعات.
كانت ألاميرة كلناز أسعد ألحاضرين بالحدث وكانت لا ترفع ناظريها عن ألأمير ألوسيم لحظة.
حكى ألأمير حكايته للملك من يوم وفاة والده ملك مملكة زاريندا حتّى وصوله إلى هذه ألمدينة وما جرى له من أحداث جسام اثناء رحلته للبحث عن أراض خصبة قرب نهر لإنقاذ شعبه من ألجوع بسبب ألجفاف وألقحط.
ترقرقت عينا الملك بألدموع وقال مخاطبا ضيفه ألأمير:
– أسمع يابني، لقد كبِرتُ في ألعُمر وليس لي ولد يرث ملكي، ما رأيك أنْ تكون وريثي على ألعرش وتتزوج أبنتي كلناز، فهي تهيم بك، وتستطيع بعد مراسيم ألزواج ألسفر إلى مملكتك لإحضار شعبك إلى هنا وسأخصص لهم قسم من أراضي ألمملكة ليعيشوا عليها؟
تهللت اسارير ألأمير بسبب هذا ألعرض ألسخي من الملك وقال:
– أقبل عرضك ألكريم بإمتنان.
قبَّلَ ألأمير يد ألملك وعانقه عناق ألأبن لوالده، ثمّ قبّل يد عروسته ألمقبلة.
بعد عدة ايام بدأت ألاحتفالات بزواج ألأمير محمّد من ألأميرة كلناز، ثمّ سافر ألأمير بعد عدّة أيام بصحبة عدد من الجنود لجلب رعيته إلى موطنهم ألجديد.
تمّت عملية ألهجرة إلى ألموطن ألجديد، واستقر شعب زاريندا مع أميرهم في موطنهم ألجديد.
بعد مرور شهر على الأحداث ألسابقة وصل سليمان وراغب بصحبة فتاتي ألبئر إلى ألمدينة، وطلبوا مقابلة ألملك شاهباز لأمر هام. اثناء ألمقابلة عرّفا ألملك بنفسيهما وقصّا عليه قصّتهما من يوم وفاة والدهم ألملك لحين وصولهم إلى هذه ألمدينة، ولكنّهما أغفلا ذكر ألأمير محمّد والجزء ألمتعلق بخيانتهما لشقيقهم ألأصغر وتركهما له في ألبئر، وطلبا من ألملك تخصيص جزء من أراضي مملكته ليعيش عليها شعبهم.
ادرك ألملك ببصيرته أنَّ هذين ألشخصين هما شقيقا ألأمير محمّد فقال لهما بخبث مصطنع:
– لقد تركت تسيير أمور ألمملكة لوريثي ألأمير، وتسطيعون مقابلته وعرض طلبكم عليه، وما سيقرره ألأمير سينفّذ بحذافيره.
أصدر ألملك أوامره إلى ألحرّاس لترتيب مقابلة بين ألأمير وألشقيقين ، وعند دخولهم عليه تعرّفا على شقيقهم فأحسا بألندم لما أقترفت يداهما بحقه وتمنيا في تلك أللحظة أنْ تنشّق ألأرض وتبتلعهما.
قال سليمان:
– أحمُدُ ألله على سلامتك وأتوسل إليك أنّ تسامحنا فقد أعمى ألحسد بصيرتنا.
أجابه محمّد قائلا:
– لابأس عليكما لقد سامحتكما، ولكن توبوا إلى ألله توبة نصوحا وأطلبوا منه ألعفو وألمغفرة مما أقترفت يداكما بحقّي.
بادر راغب مجيبا:
– أقسم بألله سنفعل ما تُريد منّا، لقد أغوانا ألشيطان أللعين فطمعنا وقررنا الأستحواذ على ألفتاتين.
تعانق الأشقاء ألثلاثة ثمّ حكى كلّ واحد منهم ما جرى له بعد حادثة ألجب.
قالت جدتي:
بعد هذه ألأحداث ألجسام عاش ألجميع في تبات ونبات، فهيّا إلى ألنوم أعزائي ألأطفال وساحكي لكم في ألليلة ألقادمة حكاية ألكتكوت ألأعرج.
سنحاول بعد أنتهاء هذه ألحكاية ألشعبية ألتركمانية تلمّس جذورها في أساطير حضارات وادي الرافين وألتي تعرفنّا على تفاصيلها بعد ألكشف عن ألألواح ألطينية في أرض ألعراق وبعد فك رموزها من قبل علماء ألآثار وفي مقدمتهم عالم ألآثار ألبروفيسور كريمر.
في الأسطورة البابلية (إيتانا وألنسر) من ألعصر ألبابلي ألقديم (2000-1600 ق م)، سنلاحظ وجود تشابه لافت للنظر بينها وبين حكاية جدتي (محمّد جَلَبي)، سنلقي أولا نظرة على محتويات هذه الأسطورة ، وبعد ذلك سنحاول شرح رموز هذه ألأسطورة والمقارنة بينها وبين ألحكاية الشعبية آنفة ألذكر.
اسطورة إيتانا والنسر:
سنستعين للاطلاع على تفاصيل هذه ألأسطورة بمؤلف ألكاتب فراس ألسوّاح ( ألأسطورة وألمعنى):
تدور أحداث هذه القصة في الأزمان الأولى عندما كان الآلهة يخلقون الجهات الأربع، ويضعون مخططاً لبناء أول مدينة للبشر هي مدينة كيش. فبعد أن انتهوا من أعمال الخلق والتنظيم أسسوا منصب المُلْك، وراحوا يبحثون عن شخص مناسب ينصبونه ملكاً على المدينة، ليكون حاكماً صالحاً للناس فوقع اختيارهم أخيراً على إيتانا:
مقدمة الأسطورة:
الآلهة الكبار، آلهة الإيجيجي صمموا مدينة.
آلهة الإيجيجي وضعوا لها الأساسات.
آلهة الأنانوكي صمموا مدينة كيش.
آلهة الأنانوكي وضعوا لها الأساسات.
آلهة الإيجيجي صنعوا لها قوالب الآجر.
<…>
الآلهة الكبار الذين يقدِّرون المصائر،
جلسوا، تشاوروا في أمور البلاد،
بينما كانوا يخلقون جهات العالم الأربع ويصيغون شكلها.
<…>
لم يكونوا قد أقاموا ملكاً على الناس قاطبة،
ولم يكن التاج وعصابة الرأس، حينئذ، قد أُوثقا معاً،
ولم يكن أحد، بعد، قد لوَّح بصولجان الملك.
ولم تكن منصة العرش أيضاً قد رُفِعت.
[بعد ذلك هبط المُلْك من السماء].
كانت عشتار في ذلك الوقت تبحث عن راعٍ،
كانت تبحث هنا وهناك عن ملك.
وإنليل يبحث عن منصة عرش لإيتانا،
الشاب الذي كانت عشتار لا تني تبحث عنه.
وهكذا وقع اختيار الآلهة على إيتانا ليكون أول ملك أقيم لحكم الناس.
بعد ذلك ندخل إلى متن الأسطورة الذي يتألف من جزئين، أو قصتين، تمّ الربط بينهما عند مفصل معين في سير الأحداث، لسبب يبدو غير واضح من الوهلة الأولى. فبعد صعود إيتانا على العرش في كيش، نمت شجرة عملاقة وارفة الظلال، وجاءت إليها حية فاتخذت من قاعدتها وكراً لها ولصغارها، ثم حط على قمتها نسر فصنع له ولفراخه عشاً. وقد تعاهد الاثنان على العيش بسلام وعلى اقتسام الرزق فيما بينهما. فإذا اصطاد النسر فريسة جاء بها إلى المكان وترك الحية وصغارها يقتسمونها معه، وإذا اصطادت الحية فريسة جاءت بها أيضاً وتركت النسر وفراخه يقتسمونها معها. ثم وثَّق الطرفان عهدهما هذا بالقسم أمام الإله شمش، إله الحق والعدالة، على احترام الاتفاق وعدم النكث بالعهد. سارت الأمور سيراً حسناً واحترم كل من الحية والنسر اتفاقهما، إلى أنْ كَبُرَ فراخ النسر ولَمْ يعودوا بحاجة إلى رعاية. عندئذ أضمر النسر في قلبه شراً وراح يتحين الفرص لأكل صغار الحية:
عندما كبر فراخ النسر وشبوا،
أضمر النسر مكيدة شريرة في قلبه.
ثم تحدث إلى فراخه قائلاً:
إني لآكل صغار الحية.
سيشتعل غضبها علي بالتأكيد
ولكني سوف أطير عالياً وأختبئ في الأجواء،
ثم أهبط إلى أعلى الشجرة فقط لأخطف من ثمرها.
فقال له فرخ مُزغبٌ كثير الحكمة، قال لأبيه:
لا تفعل ذلك يا أبي، لأن شبكة شمش سوف تمسك بك.
ولكن النسر لم يستمع لنصيحة ابنه الحكيم، وبينما كانت الحية غائبة عن وكرها نقض النسر عهده وانقض فأكل صغارها ثم هرب. وعندما عادت الحية بصيدها واكتشفت ما فعله النسر، بكت وذرفت دموعها أمام الإله شمش ضارعة إليه أن يثأر لها من النسر. استجاب شمش لدعاء الحية ورسم لها خطة توقع بالنسر. دفع إليها بثور مقيد في الفلاة، عليها أن تقتله وتختبئ في أحشائه. وعندما تحط طيور السماء لتأكل من الجيفة سيأتي النسر بينها أيضاً. وعندئذٍ عليها أن تنبري له وتقبض عليه فتنتزع مخالبه وتنتف ريش أجنحته، ثم ترميه في حفرة عميقة ليموت هناك من الجوع والعطش.
تسير الخطة بنجاح وتأتي الطيور لتأكل ويَهُمُّ النسر أنْ يحط معها ليأكل أيضاً، ولكن فرخه الحكيم يحذِّره من احتمال كمون الحية في بطن الثور لتثأر لصغارها منه. تردد النسر قليلاً، ثم أقدم عندما رأى بقية الطيور تأكل بهدوء وسلام دون أن ترى ما يعكرها، فطار وحط على الثور. عندئذ انقضت عليه الحية من مكمنها فاقتلعت مخالبه ونتفت ريشه ثم ألقته في الحفرة العميقة غير آبهة لتوسلاته، ومضت تاركة إياه لمصيره. راح النسر يتضرع في كل يوم إلى شمش، لعلَّه ينقذه من ورطته. فقال له شمش:
إنك مخلوق مؤذٍ وشرير، وقد أحزنت قلبي.
لقد ارتكبت فعلاً مرذولاً من قبل الآلهة، لا يقبل الصفح.
ها أنت ذا تموت، ولكني لن أقترب منك،
بل سأقيِّض لك رجلاً، فاطلب منه عوناً.
هنا تنتهي القصة الأولى وتبدأ القصة الثانية التي تعود بنا إلى إيتانا الصالح. فإيتانا عاقر وقد شارف على الشيخوخة دون أن يُرزَق بغلام يخلفه على العرش، وهو يصلي في كل يوم ويقدم قرابينه إلى الآلهة من أحسن مواشيه، علَّها تنظر إليه بعين العطف وترفع عنه لعنة العقم. ثم يسمع بنبتة مزروعة في السماء تشفي من العقم، فيدعو الإله شمش أن يجعل هذه النبتة في متناول يده.
يستجيب له الإله ويدلُّه على مكان النسر الحبيس، فيحرره ويشفيه لقاء أنْ يطير به إلى السماوات العُلى لجلب نبتة الإخصاب التي تتعهدها هناك عشتار( آلهة ألخصب) بالرعاية والسقاية. يأتي إيتانا إلى حفرة النسر ويخبره بمشيئة شمش، ثم يعمل على شفائه وتعويده على الطيران مجدداً. وعندما يتعافى النسر يعتلي إيتانا ظهره فينطلق به صُعَداً في طبقات الجو العليا، حتى تبدو الأرض وكأنها بستان صغير ويبدو البحر الواسع وكأنه قِدر ماء. ولكن قوى النسر تخور ويعترف بعجزه عن المضي قُدُماً أبعد من ذلك، ثم يهوي عائداً إلى الأرض. لدى رجوعه إلى كيش يرى إيتانا أحلاماً غريبة عن رحلة ثانية إلى السماء، منها الحلم التالي الذي قصَّه على صديقه النسر:
رأيت أننا نمضي عبر بوابة آنو وإنليل وإيا
هناك ركعنا معاً، أنا وأنت.
ثم رأيت أننا نمضي معاً، أنا وأنت
عبر بوابة سن وشمش وأدد وعشتار.
هناك ركعنا، أنا وأنت.
رأيت بيتاً فيه نافذة غير موصدة.
دفعتها، فانفتحت وولجت منها،
فرأيت هناك فتاة مليحة الوجه مزينة بتاج،
وهناك عرش منصوب،
وتحت العرش أُسود رابضة مزمجرة.
فلما ظهرتُ لها قفزت نحوي.
عند ذلك أفقتُ من نومي مذعوراً.
يرى النسر في حلم إيتانا بشارة بنجاح محاولة ثانية لهما في ارتقاء السماء، فيقرران التحليق مجدداً. تنجح المحاولة ويصل النسر بإيتانا إلى سماء آنو، حيث يدخلان بوابة آنو وإنليل وإيا، فيسجدان هناك، ثم يجتازانها إلى بوابة سن وشمش وأدد وعشتار، فيسجدان هناك أيضاً. ثم يفتح إيتانا البوابة ويدخل، وهنا ينكسر الرقيم وتتوقف القصة. ولكن من المؤكد أن الجزء المفقود يقص عن كيفية حصول إيتانا على نبتة الإخصاب والعودة بها إلى الأرض، لأننا نعرف من وثيقة ثبت ملوك سومر أن الملك إيتانا كان أول ملك على كيش بعد الطوفان، وأنه الذي أسس لسلالة كيش الأولى، وأن وريثه على العرش كان ابنه المدعو بالح.
معنى ألأسطورة:
رغم الحيرة التي يسببها لنا احتواء الأسطورة على قصتين غير متجانستين، إلا أن رسالتها واضحة تماماً. ذلك أن الهاجس الرئيسي هنا هو التأسيس لأصل مؤسسة الملكية التي “هبطت من السماء”، على حد تعبير النص البابلي القديم. فأسطورتنا هي أسطورة أصول، وتنتمي إلى تلك الزمرة من أساطير الأصول التي تهدف إلى تبرير المؤسسات الاجتماعية القائمة وتجذيرها في البدايات الميثولوجية الأولى، من أجل إسباغ طابع القداسة عليها. فمطلع النص يعود بنا إلى الأزمان الميثولوجية البدئية، عندما كانت الآلهة تضع اللمسات الأخيرة على الكون الذي خرج لتوِّه من رحم الهيولى البدئية.
فكانت مؤسسة الملكية أول ما التفتت إليه بعد أن انتهت من هندسة “المكان”، وشكلت جهات العالم الأربعة ووضعت مخطط أول مدينة للإنسان وأرست لها الأسس. وبعد أن خلقت الآلهة منصب الملك وحددت له شاراته ورموزه، راحت تبحث عن رجل يشغل ذلك المنصب فوجدته في إيتانا الصالح. تنتقل الأسطورة بعد ذلك إلى تجذير مؤسسة الملكية الوراثية أيضاً في الزمن الميثولوجي. فهذه قد هبطت أيضاً من السماء عن طريق نبتة الإخصاب التي جلبها إيتانا من هناك فوهبته ولداً ووريثاً على العرش.
ولكن ما معنى قصة الحية والنسر؟ ولماذا جُعِلت بمثابة مدخل إلى المتن الأساسي للأسطورة؟ إن القراءة الأولى للنص تغرينا بالنظر إلى قصة الحية والنسر على أنها مجرد حكاية، ذات طابع تشويقي، تمّ دمجها في السياق العام للقصة الرئيسية لأغراض أدبية محضة. إلا أن التلازم الطويل بين القصتين في جميع النصوص التي وصلتنا للأسطورة، عبر أكثر من ألف عام، يدفعنا إلى استبعاد هذا التفسير القريب والبحث عن تفسير آخر.
إن مفتاح الولوج إلى سر العلاقة بين القصتين هو التساؤل المشروع الذي يخطر بالبال عقب قراءة النص وهو: لماذا كان على النسر أن يمر بتجربته الأليمة تلك قبل أن يصعد بإيتانا إلى السماء؟ ألم يكن بمستطاع الإله شمش أن يوكل لهذا النسر نفسه أو لغيره مهمة الصعود، دون أن يكون قد تعرض لتلك الأحداث التي أودت به إلى أعماق الحفرة حيث وجده إيتانا؟
إن الجواب على هذا التساؤل متضمَّن في بنية النص نفسه الذي يقول لنا صراحة، ومن خلال توكيده على الربط العضوي بين القصتين، إنه كان على النسر أن يمر بتجربته مع الأفعى قبل أن يكون قادراً على التحليق في طلب نبتة الإخصاب. فهذه التجربة هي التي أهَّلته للمهمة وجعلت منه نسراً مختلفاً عن بقية النسور. فما الذي تضمنته التجربة مع الحية وأية قوى استثنائية أكسبته إياها؟
تتضمن التجربة مع الحية حدثين مهمين قادا إلى حدث ثالث هو مركز القصة بكاملها. ويمكن تصوير هذه الأحداث الثلاثة وفق المخطط التالي:
الصعود إلى السماء- أكل صغار ألحية- ألهبوط إلى قاع ألبئر.
حسب رأي فراس ألسوّاح، في الحدثين الأولين مرحلتين هي طقس عبور وطقس تعدية. في المرحلة الأولى يأكل النسر صغار الحية، وفي المرحلة الثانية يُلقى به في قاع حفرة أو بئر عميقة في باطن الأرض. فأما أكل صغار الحية فهو إجراء طقسي يؤدي إلى إكساب النسر قوى تتعلق بالإخصاب، لأن الحية هي رمز للخصوبة في ثقافات الشرق القديم ورمز للشفاء أيضاً. وأما الهبوط إلى قاع البئر المظلم فهو إجراء طقسي آخر مشابه من حيث الغاية.
فلقد كان على النسر أن يموت رمزياً في باطن الأرض–الأم، لكي يُبعَث من جديد معافى ومزوداً بقوى تتعلق أيضاً بالإخصاب زوَّدته بها ننخرساج، الأرض. أما الشجرة التي كانت مسرح الصراع بين النسر والحية، فتمثل مبدأ الحياة الذي قوامه قطبان: الموجب والسالب، المبدأ الذكري والمبدأ الأنثوي. وهنا يتجسد المبدأ الذكري في النسر الذي يسكن قمة الشجرة ويطير في السماء، وتجسد الحية المبدأ الأنثوي الملتصق بالأرض. وما الصراع بين النسر والحية إلا تمثيل للتناقض بين المبدئين.
لقد هبط النسر أولاً من القمة إلى الأرض حيث جحر الحية، ثم هبط أعمق من ذلك في غياهب البئر حيث رحم الأرض، لينطلق بعد ذلك في طلب النبتة التي تتعهدها بالرعاية عشتار إلهة الخصوبة الكونية. هذا المغزى السرَّاني لعلاقة النسر بالحية يفسر لنا عدم جدية العِقاب الذي تعرَّض له النسر، ومسارعة الإله شمش إلى العفو عنه ليوكل إليه المهمة التي صار الآن صالحاً لها، بعد أن تحول، عبر الطقس الذي مر به، من نسر عادي إلى نسر قادر على إتمام مهام لا يقدر عليها غيره.
ولإلقاء مزيد من الضوء على التفسير ( الكلام هنا لفراس ألسواح أيضا) الذي أتقدم به هنا، سوف أستعرض فيما يلي عدداً من التصورات الأسطورية الموازية، المستمدة من الميثولوجيا المقارنة. ففي ميثولوجيا الشعوب في أوروبا الشمالية هناك شجرة كونية عملاقة يتوضع عليها عالم الآلهة وعالم البشر وعالم العمالقة وعالم الموتى. فهي تمد رأسها إلى الأعلى نحو عالم الآلهة وتضرب بجذورها في العالم الأسفل عالم الموتى. ونجد هذا التصور نفسه في ميثولوجيات شمال ووسط آسيا، وفي ميثولوجيات معظم الثقافات الشامانية. ففي الأساطير الفنلندية، تقوم هذه الشجرة باعتبارها مركزاً للكون وتعمل على الربط بين أجزائه وأقاليمه المختلفة. على أوراقها يتغذى الآلهة وبين أغصانها تولد الأرواح. ومن خلال تجديد حياتها تلقائياً، فإنها تعمل على تجديد حياة الكون وعوالمه، وتقدم في الوقت نفسه للإنسان وسائل تحقيق الخلود.
وتمثل التقاليد الشامانية شجرة الحياة هذه على هيئة جذع حُفِرتْ عليه درجات سلم، تعين الشامان على العروج نحو العوالم العليا في رحلته الوَجْدية، حيث يعبر سلسلة السماوات وصولاً إلى السماء العليا حيث يقيم الآلهة. وفي أحيان كثيرة، نجد أنّ شجرة الكون، أو الحياة هذه، تسكنها نفس الكائنات التي وجدناها في أسطورة إيتانا والنسر. ففي بورنيو الجنوبية يجري تمثيل الشجرة الكونية وقد سكنت الحية عند قاعدتها وسكن النسر في قمتها. وتقول الأسطورة إن الصراع بينهما يقود إلى تدمير الشجرة، ولكنها تنبعث جديدة مرة أخرى. وفي الميثولوجيا التوتونية هنالك سنجاب ينقل الرسائل العدوانية بين النسر الذي يقيم في قمة الشجرة والحية التي تسكن في قاعدتها.
أوجه ألتشابه بين ألحكاية وأسطورة إيتانا وألنسر وألرموز في ألحكاية:
أستدراج ألغول ألقزم ألأمير محمّد جَلَبي إلى حافة ألبئر ثمّ نزوله إلى ألبئر وتركه في قاع البئر يذّكرنا باختطاف ألراعي دوموزي من قبل عشتار (آلهة ألخصب) ليُسجن في ألعالم ألأسفل في موسم الجفاف، ثم أنقاذه في موسم ألربيع( موسم ألخصب) من قبل عشتار نفسها، ففي ألحكاية نجد بأنّ ألنسر وهو أحد رموز عشتار في ألميثولوجيا ينقذ الأمير محمّد من قاع ألأرض ويحمله صاعدا إلى ألأعلى. الشجرة المخضرة وألحية هما ايضا من رموز عشتار (آلهة ألخصب)، ولكن أدوار ألنسر وألحية جاءت معكوسة في ألحكاية، فألحية هي التي تأكل فراخ ألنسر، بينما في اسطورة أيتانا وألنسر، النسر هو الدي يأكل فراخ ألحية.
في بداية ألحكاية نلاحظ ايضا حدوث موسم ألجفاف في مملكة ألأمير محمّد ورمزه كما ذكرنا هبوط ألامير ألى ألبئر، ثمّ قدوم موسم ألعطاء وألخصب ويُرمز له في ألحكاية صعود ألأمير إلى ألأعلى ممتطيا ظهر ألنسر (عشتار)، ففي ألأساطير ألبابلية تُرسل عشتار دوموزي (تموز) إلى ألعالم ألأسفل أي عالم ألموت بدلا منها بعد أنّ كانت أنانا ( وهي ألتسمية ألمقابلة لعشتار في ألأسطورة السومرية هي ألتي تُسجن في ألعالم ألأسفل بعد موسم ألحصاد ثمّ تصعد إلى ألأعلى أي إلى عالم الأحياء في ألربيع (موسم ألخصب).
إنّ اله ألخصب وسيدة ألطبيعة هي عشتار وعشتار وحدها ( رموزها في الحكاية هي ألحية وألنسر وألشجرة ألخضراء ألعملاقة)، أمّا تمّوز ( ورمزه في ألحكاية هو ألأمير محمّد) فإنّه روح ألنبات ألتي تموت وتحيا في دورة مستمرة باقية، بمعونة روح الخصوبة ألكونية ألتي يتوقف عليها إنعاش ألأبن ألقتيل وإستعادته من ألعلم ألأسفل.
إن دين ألإنسان بدأ بعبادة ألأنثى (ألأم ألكبرى) في ألعصر ألبيالوتي( قبل ميلاد المسيح بعشرة آلاف سنة) فكانت هي رمز ألخصب وألعطاء وألذي أرتبط في خيال الإنسان ألقديم بعطاء ألأرض بعد أكتشاف ألإنسان الزراعة وإنشائه ألقرى ألزراعية، ولكن بعد أنشائه ألمدن ألحضرية وألدولة، وحُكم ألمجتمعات ألحضرية من قبل ألملوك، قام ألذكور بإنقلاب على ألأديان ألأمومية، فظهرت إلى ألوجود الآلهة ألذكور وألأديان ألذكورية.
في ألميثولوجيا الرافدينية نجد بانّ العالم ألأسفل له سبعة أبواب، وفي ألحكاية نلاحظ وجود سبعة ابواب في قاع البئر ايضا.
في حكاية جدتي نلاحظ تشابها آخر مع قصّة وردت في ألتوراة وألقرآن هي قصّة يوسف أبن يعقوب، ففي الحكاية يقوم ألأمير محمّد جلبي مقام يوسف فألأثنان يُرمون إلى ألبئر نتيجة حسد ألأشقاء ثمّ يتخلصان من غياهب ألجب ويصبحان في موقع ألحكم بعد احداث مختلفة في تفاصيلها. ولكنّ جذور ألقصتين ترجع إلى أساطير أقدم.
في قصة يوسف أبن يعقوب يلعب قميص يوسف دورا رئيسيا في ألأحداث، فإخوة يوسف بعد رمي يوسف في ألبئر يلطخون قميصه بدم تيس لإقناع والدهم يعقوب بإن الذئب قتله، أيضا في ألحكاية ألشعبية يلعب قميص ألأمير محمد ألملطخ بدم ألغول دورا رئيسيا في ألأحداث.
يتم أللقاء بين يوسف وأخوته في نهاية ألقصة، وفي ألحكاية ألشعبية يتم أللقاء بين ألأمير محمد وأخويه.
إنّ إلقاء يوسف في غياهب ألبئر ومن ثمّ إلى غياهب ألسجن ثمّ خروجه منهما هو موته ألرمزي وبعثه. وكما كان خروجه ألأول من ألجب بركة وخير على فوطيفار، كذلك كان خروجه الثاني من ألسجن بركة وخيرا على مصر وألبلدان المجاورة، ونفس الأمر يصح بالنسبة للأمير محمّد في الحكاية، فخروجه من البئر جلب الخير على مملكة قندبور بعد قتله للغول ألذي كان يمنع مياه ألنهر من الجريان إلى ألمدينة. تماما كالإله ألأبن ألذي يُشكّل موته وبعثه شرطا لإستمرار دورة ألطبيعة.
ويوسف في تنظيمه لنتائج دورتي ألخصب وألجدب ألمؤلفة كل منهما من سبع سنوات، إنّما يُعيد تمثيل دور ألإله بعل ألسورية الذي تتحكم حياته في إيقاع دورة ألخصب ألمؤلفة من سبع سنوات. كما أنّ علاقة يوسف بسيدته، زوجة فوطيفار، تحمل إشارة خفية إلى عنصر ألخصاء عند ألإله ألأبن (ألإله ألأبن يكون مخصيا في ألميثولوجيات لكثير من ألأمم)، وألى عنصر ألأسطورة ألمتعلق بإرسال عشتار (أنانا) بحبيبها الى ألعالم ألأسفل (في ألقصّة التوراتية والقرآنية تُرسِل زوجة فوطيفار يوسف إلى ألسجن بعد إتهامه بأنّه حاول ألإعتداء عليها جنسيا).
في ملحمة جلجامش نقرا أشارة ألى مسؤلية إنانا أو عشتار عن إرسال دوموزي أو تمّوز إلى ألعالم ألأسفل. فعندما يقف ألبطل ألشمسي جلجامش بكل عنجهيته ألذكرية متحديا عشتار، يذكّرها بمسؤليتها عن مصير تموز:
أي حبيب أخلصتِ له الحب إلى ألأبد
وأي راع أفلح في إرضائك على مر ألأزمان
على تمّوز، زوجك ألشاب
قضيت بالبكاء عاما إثر عام.
3- خلق الكون
((في تلك ألأزمان ألأولى. لم يكن سوى المياه))…… أسطورة بابلية.
((في ألبدء خلق ألله ألسموات وألأرض وكانت ألأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح ألله يرّف على وجه المياه))……ألتوراة-سفر ألتكوين-1.
((وهو ألذي خلق ألسموات وألأرض في ستة أيام وكان عرشه على ألماء))……قرآن كريم- سورة هود، ألآية-7.
من أهم المسائل التي شغلت بال ألأنسان منذ أن أكتسب عقله الوعي هي بداية ألعالم وألحياة بنباتاته وحيواناته وأهم من كلّ ذلك تواجد ألإنسان على ألأرض.
معظم ألشعوب لديها أسطورة أو عدد من ألأساطير تحاول الإجابة على تساؤلات ألإنسان منذ فجر طفولة ألعقل ألبشري حول بدء ألخليقة وألحياة وحتّى ألعصر ألحديث. هذه ألتساؤلات أحتلّت قسما كبيرا من ميتافيزيقيا جميع الفلسفات والأديان، وشغلت بال ألعلماء في العصر ألحديث، فألنظريات ألعلمية كنظرية ألإنفجار الكبير ونظرية النشوء والإرتقاء حلّت محل ألأسطورة ومحل ألتأمل الفلسفي وألدين.
في هذا ألبحث سنحاول ألتعرّف على أساطير ألتكوين للحضارات ألقديمة كالسومرية وألبابلية وألمصرية ألفرعونية وكذلك ما ورد في ألتوراة وألقرآن حول بدء ألخليقة وخلق ألأحياء من نبات وحيوان وألإنسان، سنلاحظ أنّ هناك تسلسل وتطوّر في هذه ألعقائد لم نكن نلحظه قبل أكتشافات علماء ألآثار ألذين نقّبوا في أرض ألرافدين وفي ارض مصر، وبذلوا جهودا جبّارة في ترجمة ألألواح ألطينية ألمسمارية ألتي تمَّ ألعثور عليها في أرض ألرافدين وكذلك في ترجمة ألكتابات ألهيروغلوفية ألفرعونية.
أساطير ألتكوين في منطقة الهلال الخصيب ومصر تنتمي إلى زمرة اساطير الميلاد ألمائي، ونلاحظ بانّ ألحالة السابقة لبدء الكون هي حالة عماء وسكون لا ينتابه تغيير وتبديل كانّه عدم، وفي لحظة معينّة هي هزّة ودمار، يعقبها بناء جديد، ينبثق ألكون من لجّة ألعماء، ويبدأ ألنظام من قلب ألفوضى عندما يقرر ألآلهة خلق ألعالم ووضع أسس ألكون والحياة.
ولكن ساعة ألخلق، هي ساعة صراع كوني شامل، فالقوى ألإلاهية ألخالقة، قوى نشطة، فعّالة، وليس ألكون والحياة وألإنسان، إلّا تعبيرا عن طاقتها ألحركية وفعاليتها الخلّاقة. ولكنّها لا تستطيع تحقيق مرادها بغير التمرّد وألثورة على آلهة ألعماء وألسكون وألفوضى وأللاتشكّل، ألتي تقف ضد هذا ألشرخ في جدار ألزمن ألساكن، ولهذا لن يتأتى ظهور العالم إلّا بإراقة ألدماء، وإنتصار آلهة ودمار أخرى، ولن تتوطد اسس الكون إلّا على أشلاء ألضحايا ألمغلوبة.
ألتكوين ألسومري:
إنّ دراسة ألأساطير السومرية ألمتفرقة تعطينا ألتسلسل ألأسطوري ألتالي لعملية خلق العالم وألأكوان:
1-في البدء كانت ألإله(نمو) ولا احد معها. وهي ألمياه ألأولى التي أنبثق عنها كلّ شيء.
2-أنجبت ألإله نمو ولدا وبنتا. الأول (آن) إله ألسماء ألمذكّر، والثانية (كي) آلهة ألأرض ألمؤنثة وكانا ملتصقين مع بعضيهما وغير منفصلين عن أمهما نمو.
3-ثمَّ أنَّ (آن) تزوج (كي) فأنجبا بكرهما (أنليل) إله ألهواء ألذي كان بينهما في مساحة ضيّقة لا تسمح له بالحركة.
4-أنليل ألإله ألشاب ألنشيط، لَمْ يطقْ ذلك ألسجن، فقام بقوّته الخارقة بإبعاد أبيه آن عن أمّه كي. رفع ألأول فصار سماء، وبسط ألثانية فصارت ارضا، ومضى يرتع بينهما.
5-ولكن أتليل كان يعيش في ظلام دامس. فانجب أنليل أبنه نانا إله ألقمر، فيبدد ألظلام في السماء وينير ألأرض.
6-(نانا) إله ألقمر انجب بعد ذلك (أوتو) إله ألشمس ألذي بزّه في ألضياء.
7-بعد أنْ أَبعِدت ألسماء عن الأرض، وصدر ضوء ألقمر الخافت، وضوء الشمس ألدافيء، قام أنليل مع بقية ألآلهة بخلق مظاهر ألحياة ألأخرى.
في مطلع اسطورة سومرية تحكي عن خلق الإنسان، نعثر على إشارة لجبل السماء والأرض:
في جبل ألسماء وألارض
أنجب (آن) أتباعه ألأنوناكي
وهذا ألجبل لَمْ يكنْ ازليا، بل مخلوقا. فمن لوح آخر، مخصص لتعداد أسماء ألأنوناكي، آلهة سومر، نعرف أنَّ ألإله (نمو) وهي ألمياه ألبدئية، قد انجبت السماء وألأرض، أللتين أنفصلتا عن بعضهما. ويُشير مطلع اسطورة أخرى عرضا إلى هذا ألإنفصال فيقول:
بعد أنْ ابعدت ألسماء عن الأرض
وفصلت الأرض عن السماء
وتمّ خلق ألإنسان
وأخذ (آن) السماء
وأنفرد انليل بألأرض
أخذ ألإله (كور)* ألآلهة (أريشكيجال)** غنيمة
وفي مطلع اسطورة أخرى نقرا:
إنّ ألإله ألذي أخرج كلّ شيء نافع
ألإله ألذي لامبدّل لكلماته
أنليل ألذي أنبت ألحُبِّ والمرعى
أبعد ألسماء عن ألأرض
وأبعد ألأرض عن ألسماء
تثبت لنا هذه ألأساطير السومرية، تقاليد بقيت سائدة في الفكر الاسطوري لحضارات المنطقة والحضارات الاخرى المجاورة. ففكرة الميلاد المائي تتكرر فيما بعد في الاساطير البابلية التي تحكي عن ولادة الكون من المياه الاولى (تعامة) المقابلة ل(نمو) السومرية وفي الاسطورة السورية نجد (يم) المياه الاولى، وقد انتصر عليه ألإله بعل وشرع بعد انتصاره بتنظيم العالم، وفي الاسطورة المصرية كان رع اول إله يخرج من المياه الاولى، وهو الذي انجب فيما بعد بقية ألآلهة.
وفي الاسطورة الإغريقية نجد (اوقيانوس) هو المياه الاولى، وألإله البدئي الذي نشأ عنه الكون، وفي التوراة العبرانية ايضا نجد المياه الاولى وروح الرب فوقها قبل التكوين ( وكانت الارض خربة وخالية، وروح الرب يرف فوق وجه الماء)- التكوين-1.
وفي ألقرآن نجد وجود ألمياه ألبدئية (وهو الذي خلق السموات والارض في ستة ايام وكان عرشه على الماء)- سورة هود-الآية-7، وكذلك ( وجعلنا من الماء كلّ شيء حي )- سورة الانبياء-الآية-30.
وكذلك فيما يتعلّق بلقاح السماء والارض المتحدتين، والفصل فيما بينهما فيما بعد. ففي الاسطورة المصرية نجد (جيب) إله الارض المذكّر، و(نوت) الهة السماء المؤنثة في حالة اتحاد وقد تزوجا بعضهما سرا دون اذن من الاله رع. فلما علم كبير الالهة بذلك ارسل إله الهواء (شو) الذي ابعدهما عن بعض عنوة. ومنذ ذلك الوقت فالاله شو يطأ بقدميه جيب الصريع، ويرفع بذراعيه القويتين السماء نوت.
وفي الاسطورة الاغريقية نجد (جيا) الارض، الام الاولى التي كانت اول اله يخرج من العماء البدئي، تلد نظيرها اورانوس اله السماء الذي يغطيها من كلّ الجوانب، وتتحد به لتلد بقية الالهة، ثمّ يتم التفريق بينهما عنوة.
وفي الاسطورة البابلية يقوم الاله مردوخ بشطر جسد الالهة تعامة، المياه الاولى الى نصفين، فيرفع الاول سماء، ويبسط الثاني ارضا، وفي الاسطورة التوراتية، يقوم اله العبرانيين يهوه ايضا، بفصل المياه الاولى الى شطرين، رفع الاول الى السماء وبسط الثاني الذي تجمّع مياهه في جانب، وبرزت منه اليابسة في جانب آخر- سفر التكوين- الاصحاح الاول.
وفي ألقرآن نجد واقعة فصل السماء عن الارض ( أو لم ير ألذين كفروا أنّ ألسموات وألأرض كانتا رتقا ففتقناهما )- سورة ألأنبياء- ألآية 30.
ولعل النظريات العلمية الحديثة في نشاة الكون لا تبتعد كثيرا عن هذه الافكار عندما تفترض أنّ انفجارا بدئيا قد حدث في الازمنة السحيقة، نشأ عنه تبعثر الاجرام في الفراغ وابتعادها عن نقطة الانفجار، فالارض والحالة هذه كوكب قد انفصل عن مكان ما هناك في السماء.
ولقد قامت مدرسة التحليل النفسي بتفسير نظرية الميلاد المائي على أنّها انعكاس لذكرى كامنة في لاشعور الانسان عن حالة الجنين في رحم الام، حيث كان محاطا بالماء من جميع الجهات، وأنبثاقه من ثمّ عن ذلك الوسط الى العالم الجاف الخارجي، كما أنّ المدرسة تستخدم اساطير فصل السماء عن الارض لتوكيد وجهة نظرها في سيطرة عقدة اوديب، التي تشغل حيزا كبيرا من نظرية سيجموند فرويد، فالرغبة المكبوتة في لاشعور الطفل والمتعلقة بابعاد الاب والإستئثار بالام، تجد متنفسا لها في عالم الاسطورة، حيث يقوم البطل بإبعاد السماء (ألاب) والبقاء في الارض (ألأم).
*كور… هو رب ألعالم ألأسفل (عالم الموتى) في الميثولوجيا ألسومرية
**أريشكيجال… كانت إلهة ارضية تزوجها كور بعد أنْ أختطفها إلى عالمه ألأسفل لتغدو آلهة ذلك العالم وسيدته المطلقة.
4- خلق ألإنسان
( اجعل للآلهة خدما، يصنعون (لهم معاشهم)…… أسطورة سومرية
( قام أيا بخلق زوجين شابين، وأعلا من شأنهما فوق جميع المخلوقات )…… أسطورة بابلية.
( وجبل ألإله آدم ترابا من ألأرض، ونفخ في انفه نسمة الحياة، فصار آدم نفسا حية )…..العهد القديم-سفر التكوين- الاصحاح الثاني.
( قال ما منعك الا تسجد إذ امرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )…… القرآن ألكريم- سورة الاعراف، ألآية 11.
بعد خلق الكون وفصل السماء عن الارض وبعد خلق النباتات والحيوانات تحدثنا الاساطير السومرية عن كيفية خلق الانسان والسبب الدي دعا الالهة على الاقدام على هذه الخطوة.
فحسب الاسطورة السومرية خَلَقتْ الالهة الانسان ليكون عبدا للآلهة، يقدم لها طعامها وشرابها ويزرع ارضها ويرعى قطعانها، فقد خُلِق الإنسان لحمل عبء العمل ورفعه عن كاهل ألآلهة. قبل خلق ألإنسان كان الآلهة يقومون بكل الاعمال التي تقيم اودهم وتحفظ حياتهم، ولكنهم تعبوا من ذلك فراحوا يشتكون لانكي الحكيم (اله المياه العذبة الباطنية) ولكنه لم يسمع شكاتهم فدهبوا الى امه الآلهة نمو (آلهة المياه البدئية ألتي انبثق عنها كل شيء عند السومريين) التي انجبت الجيل الاول من الآلهة لتكون واسطتهم الى انكي ، فمضت نمو الى انكي قائلة:
أي بني، انهض من مضجعك انهض من (….)
واصنع امرا حكيما
اجعل للآلهة خدما، يصنعون (لهم معاشهم)
فتأمل انكي مليا في الامر، ثم دعا الصناع الاهليين المهرة وقال لامّه نمو:
إنّ الكائنات التي ارتأيت خلقها، ستظهر للوجود
ولسوف نعلق عليها صورة الآلهة
امزجي حفنة من الطين، من فوق مياه الاعماق
وسيقوم الصناع الالهيون المهرة بتكثيف الطين (وعجنه)
ثم كوّني انتِ له اعضائه
وستعمل معك ننماخ (آلهة الأمومة) يدا بيد
ولسوف تقدرين للمولود الجديد، يا اماه مصيره
وتعلّق ننماخ عليه صور الآلهة (تعليق صور الآلهة على ألإنسان يُعنى به جعل ألإنسان ألمخلوق على صورة ألآلهة)
(….) في هيئة ألإنسان (….)
تسربت العناصر الرئيسية لهده الاسطورة الى معظم اساطير الشعوب المجاورة. ففي الاساطير البابلية اللاحقة يتم خلق الإنسان من الطين المعجون بدم ولحم إحدى ألآلهة وفي أسطورة بابلية أخرى يتم الخلق بإستخدام دماء آلهة أللامجا (آلهة الحرِف ومن صغار ألآلهة) بدون طين ويُفرَض على ألإنسان حمل عبء العمل ، ويتم ألخلق من قبل آلهة الأمومة (مامي) أو كما تدعى أيضا (ننماخ) و (ننرساخ) أو(نتو) وهي الام الكبرى، وهي ايضا ألارض والتربة الخصبة،.
وفي سفر التكوين من التوراة، نجد إله اليهود يهوه، يقوم بخلق الانسان من طين، بعد انتهائه من خلق العالم، ويجعله على شاكلته:
( وجبل ألإله آدم ترابا من ألأرض، ونفخ في انفه نسمة الحياة، فصار آدم نفسا حية)…..العهد القديم-سفر التكوين- الاصحاح الثاني.
ورغم ان الهدف الدي يقدمه النص التوراتي لخلق الانسان هو السيطرة على ( سمك البحر، وطير السماء، وعلى البهائم، وعلى كل الارض، وعلى جميع الدابات التي تدب على الارض)…… العهد القديم-سفر التكوين- الاصحاح الاول، إلا انه يعود فيفرض عليه عبء العمل، تماما كالنص السومري:
( لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة، التي اوصيتك قائلا لا تأكل منها. ملعونة الارض بسببك. بالتعب تأكل منها كل ايام حياتك…. بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود الى الارض التي أُخِدتَ منها. لانّك من تراب والى التراب تعود)…… العهد القديم-سفر التكوين- الاصحاح الثالث.
وفي الاساطير المصرية نجد ترددا لنفس الفكرة، وكذلك الامر في الاساطير الاغريقية، التي تعزو لبرومثيوس خلق الانسان. فقد قام برومثيوس بخلق الانسان من تراب وماء، وعندما استوى الانسان قائما، نفخت الآلهة أثينا فيه الروح، ثم راح برومثيوس بعد ذلك يزوّد الانسان بالوسائل التي تُعينه على البقاء والاستمرار، فسرق له النار الالهية من السماء، ضد رغبة كبير الالهة زيوس، وافشى له سرّها وكيفية توليدها واستخدامها، فنال بذلك غضب زيوس وعقابه.
فإدا تركنا اساطير الشعوب المتحضرة، نجد ان فكرة الخلق من طين ترد في اساطير الشعوب البدئية. تقول اسطورة افريقية:
أنّ الإله الخالق قد اخذ حفنة من طين شكلّها على هيئة انسان، ثم تركها في بركة مليئة بماء البحر مدة سبعة ايام، وفي اليوم الثامن رفعها فكانت بشرا سويا.
وفي اسطورة من الفلبين يقوم الاله الخالق بجبل حفنة من الطين على هيئة انسان، ويضعها في الفرن، ولكنه يسهو عنها فتسوَد، وهذا هو اصل الانسان الاسود، ثم يضع اخرى ويخرجها قبل اوانها، فهذا هو اصل الانسان الابيض، وفي المرة الثالثة يأخذ الطين كفايته من النار فيخرج الإنسان الفليبيني، ذو اللون البرونزي.
وفي اسطورة هندية امريكية نجد ايضا التكوين الطيني ونفخة الحياة التي تهب الشكل الجامد روحه وحركته.
هدا ولا يزوّدنا العلم الحديث بنظرية او حقيقة تثبت علاقة جسم الانسان بتراب الارض، ولكنه يقول لنا أنّ العناصر المكونة لجسم الانسان هي نفس العناصر الموجودة في التراب.
وأخيرا يثبت القرآن الكريم خلق الانسان من التراب في اكثر من موضع:
( خلق الانسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار )…… سورة الرحمن، الآية 13 و 14.
( قال ما منعك الا تسجد إذ امرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )…… سورة الاعراف، ألآية 11.
5- الفردوس المفقود
(في تلك الايام، لم يكن هناك حية ولا عقرب ولا ضبع. في تلك الايام كانت (شوبور) ارض المشرق، ارض الوفرة وشرائع العدل)…. أسطورة العصر الذهبي السومرية.
( واخذ الرب الاله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها. واوصى الرب الاله آدم قائلا: من شجر الجنة تاكل اكلات وامّا شجرة معرفة الخير والشر فلا تاكل منها)…. العهد القديم- سفر التكوين،15-17).
(وقلنا يآدم اسكن انت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة)…. قرآن كريم_ سورة البقرة-ألآية 24.
منذ أنْ زالت المشاعة الابتدائية ألتي عاشها الانسان القديم، وفقد الفرد سلطته على وسائل انتاجه لصالح الآخرين، تحوّل العمل من متعة وتحقيق للذات الى عبودية واغتراب، ومن طقس جماعي مُرْضٍِ الى وحدة قاسية بلا هدف او غاية الّا لقمة العيش اليومية التي تدفع للاستمرار يوما آخر. ومع نضوج المجتمعات الابوية التسلطية وإحكام حلقاتها على الافراد، صار الإنسان الى حالة احباط دائمة هي شرطه الاساسي في حياة تبدوا بلا معنى ولا تسعى الى غاية، سوى موت يضع حدا لفصل مؤلم.
ولكن المجتمع التسلطي استطاع انْ يحرّم الفرد من كل شيء إلّا من رغبة في التغيير بادية او كامنة و حلم. تجلت رغبة التغيير في ثورات البشر عبر التاريخ في سبيل حياة اكثر وحرية اكثر. وتجلّى الحلم، بديلا عن الفعل، في ادبيات البشر التي تصف عالما قادما، هو حرية كاملة ومساواة مطلقة وراحة من لعنة العمل المفروض على الانسان.
عالم لا مرض فيه ولا عناء ولا شيخوخة ولا موت. فكانت اساطير الجنة لدى كل الشعوب، تعبيرا سلبيا عن رغبة في التغيير لم تخرج الى حيّز الفعل، او فعل تمّ إحباطه فصار حلما ينتظر.
اسطورتان سومريتان تناولتا الفردوس المفقود هما اسطورة العصر الذهبي واسطورة دلمون. في اسطورة العصر الذهبي عبّر السومريون عن حلمهم بالجنة في نص جميل يصف العصر الذهبي للإنسان قبل هبوطه الى دنيا العبودية والعمل المغترب، حيث كان سيدا لنفسه وسيدا للطبيعة:
في تلك الايام، لم يكن هناك حية ولا عقرب ولا ضبع
لم يكن هناك اسد ولا كلب شرس ولا ذئب
لم يكن هناك خوف ولا رعب
لم يكن للانسان من منافس
في تلك الايام كانت (شوبور) ارض المشرق، ارض الوفرة وشرائع العدل.
وفي اسطورة دلمون السومرية يتجلّى مفهوم الجنة التوراتية:
ارض دلمون مكان طاهر، ارض دلمون مكان نظيف
ارض دلمون مكان نظيف، ارض دلمون مكان مضيء
في ارض دلمون لا تنعق الغربان
ولا تصرخ الشوحة صراخها المعروف
حيث الاسد لا يفترس احدا
ولا الذئب ينقضُّ على الحمل
ولا الكلب المتوحش على الجدي
ولا الخنزير البري يلتهم الزرع
والطير في الاعالي لا (…..) صغارها
والحمامة لا (…..) رأسها
حيث لا احد يعرف رمد العين
ولا احد يعرف آلام الرأس
حيث لا يشتكي الرجل من الشيخوخة
ولا تشتكي المرأة من العجز
حيث لا وجود لمنشد ينوح
ولا جوال يعول.
في هذا الفردوس ، كان يعيش انكي اله الماء العظيم، وزوجته ننخرساج- الارض الأم-، كما عاش في الفردوس التوراتي فيما بعد آدم وحواء. وقد اخرج انكي ماءه وسقى تربة زوجته الارض، فحوّل دلمون الى جنة الاهية خضراء، ومن انحاد الماء (انكي) بالتربة (ننخرساج) يمتليء الفردوس بالحقول والاشجار والثمار، كما تظهر مجموعة من آلهة النبات يقوم انكي بإغوائهن تاركا زوجته.
ثمّ أنّ ننخرساج تقوم بخلق ثمانية انواع من النباتات العجيبة. وقبل ان تفرح بعملها، يرسل انكي رسوله ايسمند الذي يقطف له تلك الثمار فيأكلها جميعا. وما انْ تعلم الخالقة بذلك، حتى تغضب غضبا شديدا، وترسل على انكي لعنة مقيمة ( الى انْ يوافيك الموت، لن انظر اليك بعين الحياة). ثمّ تختفي ننخرساج عن الانظار وتجزع الآلهة الآخرين لهذا الامر، ذلك أنّ اللعنة على انكي تعني شح المياه.
تتشدد الامراض على انكي وتهاجمه ثمانية علل بعدد النباتات التي اكلها واخذ ينهار تدريجيا. واخيرا ينقذ الثعلب الموقف عندما يتطوع للبحث عن ننخرساج ويجدها في النهاية.
وتخضع ننخرساج لمشيئة الآلهة وتقوم بشفاء انكي عن طريق خلق ثمانية آلهة، كل إله يختص بشفاء احد اعضاء انكي العليلة.
-ننخرساج: ماالذي يوجعك يااخي؟
-إنكي: إنّ فكي هو الذي يوجعني
-ننخرساج: لقد وجدت لك الإله ننتول…..
وهكذا يتابع إنكي تعداد اوجاعه وتتابع ننخرساج خلق آلهة الشفاء من اجله إلى انْ يصل الى ضلعه:
-ننخرساج: ما الذي يوجعك يا أخي؟
-إنكي: إنّ ضلعي هو الذي يوجعني
-ننخرساج: لقد اوجدت من اجلك ألآلهة ننتي.
يقول بعض علماء السومريات أنّ كلمة (تي) في السومرية تعني الضلع، ولكنها تعني ايضا (أحيا) او (جعله يحيا)، امّا كلمة (نن) فتعني سيدة، وعلى هذا يكون اسم الآلهة (ننتي) يعني سيدة الضلع او السيدة التي تُحيي وهذه السيدة شبيهة بحواء التوراة التي أُخِذت من ضلع آدم فهي سيدة الضلع وهي حواء بمعنى التي تحيي.
لقد اسست الاسطورة السومرية لاساطير الجنة اللاحقة في المنطقة ولاسطورة سقوط الانسان وفقدانه عالمه الذهبي.
وتظهر العناصر الرئيسية لقصة آدم وحواء والحية، في أحد الاختام السومرية، ففي هذا الختم السومري تظهر الشجرة التي اكل من ثمرتها آدم وحواء وقد تدلّت منها ثمرتان يانعتان. عن يمينها ويسارها يجلس رجل وإمرأة يمدان يديهما لإقتطاف الثمر، ووراء المرأة تنتصب الحية في وضع الهامس الموسوس في أذن المرأة. ألشجرة في هذا الختم السومري هي رمز للآلهة أنانا- ألأم الكبرى وآلهة ألخصب ألسومرية وهي عشتار آلهة ألخصب ألبابلية فيما بعد.
وشجرة الحياة هذه هي الشجرة التي ولِد منها أبن ألأم السورية الكبرى عستاروت، وهي التي ترعى ايضا ميلاد أبن ألأم السورية ألكبرى مريم:
(( فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) ))…… سورة مريم- ألقرآن ألكريم. إنها شجرة الميلاد التي توضع في كل بيت عشية ميلاد المسيح، وتُزين بالشموع والاضواء التي ترمز إلى الاجرام السماوية المنيرة، ذلك أنّ شجرة الحياة هي في الوقت نفسه شجرة الكون، وسيدة السماوات المعتمة ( ألقمر أو عشتار )، التي تتعلق الاجرام المنيرة بصدرها تعلُّق الشموع بشجرة الميلاد.
إنّ هذا العمل الفني يحكي سقوط الإنسان قبل ألفي عام من قيام مؤلفي التوراة بتدوينها، ثمّ انتقلت من التوراة إلى القرآن.
نعلم من الاساطير البابلية كاسطورة الطوفان انّ ارض دلمون هي مكان الخالدين، لأنّ اتونابشتم (نوح في التوراة والقرآن) وزوجته بعد انْ ينقذا الحياة على سطح الارض من الطوفان، يكافئهما انليل بجعلهما من الخالدين وكانا من قبل من البشر الفانين ( في التوراة يكون عمر نوح 950 سنة)، ويسكنهما انليل في (دلمون) حيث منابع الانهار، فدلمون اذن هي الجنة السومرية البابلية، وهي مرتع ألآلهة الخالدين، ولكنها في نفس الوقت مسكن البشر ممن اسبغت عليهم نعمة الخلود.
في الواح اوغاريت السورية( الحضارة الكنعانية ) نعثر على جنة مماثلة فالإله إيل يسكن عند منبع الانهار أيضا، كما هو الامر في دلمون وفي فردوس التوراة حيث تنبع انهار فيشون وجيحون وحداقل والفرات.
وفي ألقرآن وفي أحاديث منسوبة الى النبي محمّد نجد اوصاف واسماء انهار وعيون الجنة والتي تنبع جميعها من الانهار الاربعة الخارجة من الفردوس الاعلى من هذه الانهار:
نهر الكوثر وعين سلسبيل و عين مزاجها الكافور.
(( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا من كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ )) … سورة محمد- الآية- 15.
أمّا سقوط الانسان فتنقله لنا اسطورة اخرى وهي اسطورة ( آدابا ) وآدابا هنا هو الانسان الاول الذي خسر الخلود بسبب غلطة، وهذه الغلطة رغم انها ترجع الى سوء تفاهم، وسوء نية الإله (أيّا) الذي خلقه، إلّا أنّها في نتائجها تتلاقى مع نتائج خطيئة آدم. فكلاهما خسر الحياة الابدية وجلب الموت على ذريته. ونلاحظ هنا تشابه الإسمين، آدم- آدبا.
في رواية الجنة التوراتية، تعود للظهور معظم العناصر الاسطورية التي وجدناها في الاسطورة السومرية والبابلية والكنعانية. فالجنة في التصور التوراتي هي مكان زرعه الإله في شرقي عدن مكان راحة له ونزهة واسكن فيه آدم الذي خلقه.
كما نجد العناصر الاسطورية الخاصة بخلق الانسان الاول تدخل في الرواية التوراتية عن خلق الانسان، فقد خلق الإله آدم من طين ومنه خُلِقتْ زوجته حواء.
نلاحظ ايضا في الاساطير السومرية والبابلية بأنّ ألإله خلق الزوجين الاولين من طين او من دم الاله الممزوج بالطين وأنّ اسم آدم نفسه ليس إلّا كلمة اوغارتية تعني البشر او الانسان. بالإضافة الى ذلك تروي لنا حكاية آدم وحواء التوراتية عن العصر الذهبي للإنسان كما روته الاسطورة السومرية، وعن سقوطه وخسارته الخلود، كما روت اسطورة آدبا البابلية. فآدبا هو الإنسان الاول الذي خسر الخلود بسبب غلطة صغيرة. تماما كآدم. فإنّ كليهما قد خسر الحياة الابدية، وجلب الموت على ذريته من بعده.
إنّ آدم بعد السقوط تحوّل عن حياة البداءة التي عاشها في الجنة الى حياة الارض، حياة الحضارة التي يتعب فيها الانسان ويكد. تحوّل آدم بعد اكل الثمرة المحرمة ومباشرة الفعل الجنسي مع حواء، من مغمض العينين، كليل الذهن، مغلقه، الى كاشف البصيرة، عارف: ( فقالت الحية للمرأة: لن تموتا بل ألله عارف أنّه يوم تأكلان منه، تتفتح أعينكما وتكونان كألله)….. سفر التكوين- ألتوراة.
وهكذا بعد اكل آدم من الثمرة المحرمة ومباشرته الجنس مع حواء دفع بالعقل الإنساني إلى محنته الكبرى، التساؤل، التفكير، الكشف، تجاوز المعطى، إرتياد الارض المحرمة.
بالطقس الإدخالي، هبط آدم من الحلم إلى الواقع، باع روحه لقاء المعرفة والحقيقة.
6- ألإله ألمُخلِّص
إنّ تاريخ الدين والاسطورة هو صراع الذات مع الموت. ففي المراحل الاولى كانت الذات مسحوقة امام الموت والعالم الاسفل كان مسيطرا جبارا لا مهرب منه ولا فكاك من اسره الابدي،
في سلسلة اساطير الاولين بحثنا عقائد ما بعد ألموت لحضارات وادي ألرافدين ( السومرية والبابلية والآشورية) ووجدنا بأنّه لا يوجد في عقائد ما بعد الموت ألرافديني ثنائية ألجنّة وألجحيم، ولا ثنائية ألثواب وألعقاب، في ألاساطير ألرافدينية لاحظنا بأنّ إله ألخصب ( أنانا أو عشتار) أو أبنها ( تمّوز أو ديموزي) يؤسر أو يُختطف من قبل آلهة ألعالم ألأسفل ويبقى هنالك لفترة معينّة ثمّ يصعد ألى ألأعلى، هذا ألتناوب له علاقة بألمواسم ألزراعية من خريف وصيف وربيع وخريف، فألإنسان ألرافديني كان همّه ألأول طعامه ألأساسي ألقمح ودورة حياته فبعد موسم ألحصاد كانت تقام ألمآتم ألتي ترمز ألى جفاف ألأرض وموت الهة ألخصب ونزولها الى ألعالم ألأسفل، أمّا في موسع ألربيع فكانت ألأحتفالات تتسم بطابع ألسعادة وألفرح لقيام آلهة ألخصب من ألموت وتحرره من ألعالم الأسفل.
إنّ حياة وموت اله الخصب (عشتار وفيما بعد تموز) كانت امورا موحية بأمل غامض وبعيد بإمكانية الخلاص من سيطرة الموت كما تخلَّصَ منها اله الخصب، فكان تعلّق قلوب العباد بهذا ألمخلّص ألحياتي تعبيرا عن النزوع الإنساني الأبدي نحو الخلود. ولم يكن ظهوره في ضمير البشر إلّا مظهرا من مظاهر صراع الظاهرتين الكونيتين في داخل الإنسان وخارجه، صراع الموت والحياة.
إنّ نمو الديانات البعلية ( ديانات الخصب) واكتسابها غلبة شعبية على الديانات الايلية ( ديانات الآلهة السماوية البعيدة ) هو حالة تالية في تطور الدين والاسطورة، وحالة وسط تحتوي على شيء من التوازن بين الحياة والموت.
امّا المرحلة الثالثة فتمثّل عن حق مرحلة انتصار الحياة على الموت في الدين والاسطورة. فما حصل لإله الخصب مرة سيحصل لكل عباده المخلصين ممن سيدخلون في ديانته، ويلتحقون به من دون بقية ألآلهة. قال السيد المسيح: ( من آمن بي وإن مات فسيحيا). فتحولت ديانة الخصب الى ديانة سرية وتحوّل مخلّصها الارضي الحياتي الى مخلّص روحي باسطا سيطرته من عالم الحياة الى عالم الموت ايضا، مقدما لعباده خلاصا لروحهم من سطوة العالم الاسفل.
لقد بلغ الانتصار على الموت قمته في المسيحية التي اعطت الإنسان بعثا كاملا غير منقوص، حيث يعود الجسد سيرته الاولى بكل تفاصيله واجزائه.
في مسيرة المسيحية الاولى في القرون الثلاث بعد الميلاد، حيث ارتبطت بكونها فرقة يهودية جديدة، تخبّط الفكر اللاهوتي قبل ان يتوصل لقرار حاسم في البعث وخلود الروح وشمولية الثواب والعقاب، فكانت فكرة خلود الروح تقتصر على المؤمنين الذين اتّحدوا بالمسيح فأعطيت لهم به الحياة، شأنها في ذلك شأن ديانات الاسرار التي كانت شائعة في الامبراطورية الرومانية في تلك الآونة كالاورفية وغيرها، حيث كان الالتصاق بمخلّص هو (ديونيسيوس أوغيره) شرط للخلاص وللحياة الجديدة.
لقد بقيت عبادات وطقوس الديانات السرية خفية، وبإستثناء الاعياد الربيعية السنوية ولا نكاد نعرف إلّا القليل عمّا كان يجري بألفعل. من هذا القليل الذي نعرفه أنّ معظم هذه الديانات كانت تمارس نوعا من العشاء السري حيث يؤتى بحيوان هو رمز الإله الميّت فيُقتل ويؤكل لحمه ويُشرب دمّه كفعل رمزي للاتحاد الحقيقي بألإله. وفي غير هذه المناسبة فإنّ قتل هذا الحيوان وإكله يُحرّم تحريما باتّا. كما هو شأن حيوان الخنزير المحرّم أكله لدى السوريين من عبّاد ادونيس إلّا في طقس العشاء السري، ولدى المصريين أيضا إلّا خلال الطقوس المشابهة الخاصة باوزوريس.
لقد تبنّى اليهود هذا التحريم اقتداء بالمصريين وجيرانهم السوريين دونما سبب واضح ثمّ جاء الدين الإسلامي وتبنّى تحريم اكل لحم الخنزير بتأثير الدين اليهودي.
في هذا الجو الثقافي المشبّع بديانات الاسرار وجيش ألآلهة المخلّصين ظهرت المسيحية إلى الوجود. وكان اتباع المسيح في البداية هم قلّة من اليهود المشبّعين بالافكار المهدية التي كانت من القوة في تلك الآونة بين جماعة اليهود لدرجة كان معها ظهور المهدي المنتظر او المسيح المرتقب متوقعا في اي لحظة او ساعة لينقذ الشعب من إضطهاد الرومان ويبني ملكوت الرب في الارض.
ولم يعتقد هؤلاء في البداية انهم انما ينتسبون لدين جديد بل نظروا لانفسهم دوما على انهم فرقة متميزة في الدين اليهودي القديم، ورغم ان المسيح قد خيّب آمال الكثيرين في ذلك الوقت عندما ترك نفسه للصلب والموت، فإنّ من بقوا على ايمانهم رأوا أنّ المسيح قد غادرهم لانّ الناس ليسوا بعد على مرحلة تؤهلهم للدخول في ملكوت الرب وان عليهم ان يتطهروا قبل ان يعود المسيح اليهم مرة ثانية.
إلّا أنّ المسيحية لم تحافظ على وضعها هذا بإعتبارها فرقة يهودية صغيرة لاسباب متعددة:
1-لم يتحوّل للإيمان الجديد سوى قلة من اليهود.
2-تأخرت عودة المسيح الى درجة كبيرة.
3-تدمير مدينة اورشليم اثر ثورة مسلّحة قام بها اليهود على الرومان وتمّ بذلك توجيه ضربة قاضية على آمالهم القومية.
4-اثبتت تعاليم المسيح انها اشمل واوسع من التفسيرات اليهودية الضيّقة فبدأت بالانتشار في الاصقاع المجاورة والبعيدة. وقد انتشرت المسيحية اولا لدى بعض افراد الجالية اليهودية في اصقاع الامبراطورية الرومانية ولكنها ما لبثت ان انتقلت الى افراد من غير اليهود واخذت تشكّل تدريجيا دينا قائما بذاته منفصلا عن اليهودية.
لقد ساعدت تعاليم بولص الرسول الى حد كبير في تدعيم هذا الانفصال.
وبدخول الغرباء الى المسيحية اخذت المسيحية تغدوا غريبة عن اليهودية، ولمّا كان هؤلاء الغرباء بعيدين كل البعد عن فكرة المهدي او المسيح المنتظر الذي ينقذ شعبه من الاضطهاد ويعيد بناء امجاده، فقد قاموا بصياغة فكرتهم الخاصة عن المسيح وطبيعته ودوره.
ولأنّ معظم من دخلوا في الدين الجديد كانوا اتباعا لديانات سرية كالاورفية وديانة ميثرا ولأنّ جوهر العام لهذه الديانات هو المسيطر على افئدة الناس في تلك الآونة، ولأنّ الرسل الاوائل ارادوا اجتذاب الجماهير باسلوب يالفونه وبصيغ اعتادوا عليها، (كل دين جديد يحافظ على بعض معتقدات وطقوس الشعوب التي ينشأ الدين في ظهرانيها فالإسلام مثلا حافظ على بعض الطقوس الوثنية الموجود في عبادة الحج كالصفا والمروة وتقبيل الحجر الاسود)، لهذا كله فقد نحت المسيحية منحى الديانات السرية وتبنت كل ما استطاعت ان تتبناه وما يتلائم معها من طقوسها ومعتقداتها. فتحوّل المسيح من مبشّر يهودي الى إله ميّت. وهو كمن سبقه من الآلهة المخلّصة اله ابن يلد من عذراء ويبشّر برسالة جديدة ثمّ يُعاني ويتألم ويموت، ولكنه يتغلّب على الموت ويصعد منتصرا من عالم الاموات حاملا الخلاص والحياة الابدية لمن آمن به، ولكن خلاص المسيحي لا يعتمد على الاتحاد الجسدي بالإله عبر مجموعة من الطقوس، كما هو الامر في الديانات السرية، بمقدار ما يعتمد على الحياة الاخلاقية القويمة.
لقد كافح الدين الجديد كفاحا مريرا ضد الديانات الرسمية للامبراطورية الرومانية ولكن كفاحه الاقوى والامر كان كفاحا صامتا لا عراك فيه ولا دماء ضد الديانات السرية، ولعل اقوى تلك الديانات التي نازعت المسيحية فترة طويلة من الزمن على الفوز بقلوب الناس كانت ديانة (ميثرا) الشديدة الشبه بالمسيحية والواسعة الانتشار في شتى انحاء الامبراطورية الرومانية.
هذا التشابه الغريب بين الديانتين اذهل المسيحيين انفسهم فاعتبروه من صنع شيطان رجيم. وكان الميثرويون يتهمون المسيحيين باقتفاء اثرهم واقتباس معتقداتهم، والمسيحيون بدورهم يردون الاتهام بمثله.
ولعل اثرا من ذلك العراك الطويل ما زال ماثلا حتى ايامنا هذه وهذه بعض الامثلة:
1-العالم المسيحي يحتفل بميلاد المسيح يوم 25 كانون الاول وهو يوم الانقلاب الشتوي حيث تصل الشمس الى آخر مدى لها في الميلان عن كبد السماء، وحيث يصل النهار آخر اشواطه في القصر ويبدا بعد ذلك بالامتداد على حساب الليل. هذا اليوم بالذات أُعتبر دوما في الديانات الشمسية عيد ميلاد للشمس فيه تتجدد قوتها وتستعيد عزمها لمقارعة قوى الظلام..
لقد اقترنت عبادة ادونيس في سورية واوزوريس في مصر في فترات متأخرة بالشمس. فالسوريون ليلة 25 كانون الاول كانوا يحتفلون بمولد ادونيس فيجتمعون في المعابد ويصرخون عند منتصف الليل: ( لقد انجبت العذراء ابنا والنور ينتشر) والمقصود بالعذراء طبعا هو آلهة الشرق الكبرى عشتار او عستاروت التي يدعوها الساميون بالسيدة السماوية او ملكة السماوات، فالعذراء لقبها والعذرية جوهرها رغم كونها آلهة الحب، لانها معطاء دون ان تنقص.
2- عيد الفصح يعطينا مثلا آخر على تبني المسيحية للمناسبات والاعياد الخاصة بديانات الاسرار. فعيد الفصح هو عيد قيامة المسيح من بين الاموات بعد ما عاناه في يوم الجمعة الحزينة على درب الالام وقد تبنت الكنيسة يوم 25 آذار عيدا للفصح، وبذلك يكون بعث المسيح هو بعث ربيعي، شأنه في ذلك شأن آلهة الخصب القديمة والمخلّصين الاوائل وخصوصا اودونيس وآليس الذي كان يحتفل عُبّاده بقيامته فيما بين يوم 24 و 25 آذار.
وبعيدا عن هذين العيدين الرئيسيين فاننا نجد اعيادا وثنية اخرى قد حُورت وأُسبغت عليها الصفة المسيحية، فعيد الآلهة ديانا قد اصبح عيد صعود السيدة العذراء، وعيد الاموات قد اصبح عيد القديسين.
أمّا الام الكبرى او القوة الاخصابية الكونية المتمثلة بآلهة الحب العذراء فقد حلّت محلها السيدة مريم العذراء التي دُعيت بسيدة السماوات وهو اللقب الرئيسي للآلهة عشتار.
وليس الصليب نفسه كرمز للسيد المسيح بالرمز الجديد في عالم الديانات القديمة، فقد اقترن الصليب بعدد من آلهة الخصب الشرقية القديمة، فهو رمز ألاله (أندارا) أحد اشكال الاله بعل او حدد، والصليب ايضا رمز الآلهة الفينيقية (بارات) آلهة مدينة بيروت، واحد اشكال آلهة الخصب عشتار او عشتروت.
إنّ شكل الصليب هو الاصطلاح الدال على الخصب في اللغة السومرية.
7- قابيل وهابيل-الصراع بين المزارع والراعي
(أنا ألعذراء سأتزوج ألمزارع. ألفلاح ألدي يزرع ألنباتات ويعطي ألغلال ألوفيرة. ألفلاح ألدي ينتج ألحبوب ألغزيرة)…….مقطع من أسطورة سومرية.
(فنظر ألرب هابيل وتقدمته وإلى قاين وتقدمته لم ينظر)…… ألعهد ألقديم-سفر التكوين 4-5.
(وأتل عليهم نبأ أبني آدم بألحق إذ قرّبا قربانا فتقُبِل من إحداهما ولم يُتقبَل من ألآخر قال لأقتلنّك قال إنّما يتقبل ألله من ألمتقين)…… قرآن كريم: ألمائدة- ألآية 27.
بعد أنْ أكتشف ألإنسان ألزراعة، وبدأت ألقرى ألزراعية بألظهور وظهرت ألمدن وألدول ألتي تحمي ألمزارعين، بدأ صراع دموي بين ألمجتمعات ألزراعية والمجموعات ألرعوية. كانت ألمجتمعات ألزراعية توسع أراضيها علي حساب أراضي ألمجموعات ألرعوية وكان يصحب هذا ألتوسع حروب ضد ألمجموعات ألبدوية ألتي كانت تقاوم هذا ألتوسع، وبألمقابل كانت ألمجموعات ألرعوية تشن غزوات أنتقامية سريعة على ألمجتمعات ألزراعية وعلى ألمدن وألدول ألتي تحمي هده ألمجتمعات.
لقد حدثنا ألتاريخ مطولا، وأثار إشفاقنا، عن غزوات ألبدو ألكبرى على بابل ونينوى وروما ومصر، وفيما بعد على بغداد ودمشق عندما تدفقت عليها جموع ألتتار ألجائعة من أعماق ألصحاري ألآسيوية، ولمْ يحدثنا عن صراخ ألبدوي ألمنعزل وهو يُذبح على يد أخيه ألمزارع. حدثنا ألتاريخ عن قابيل وهو يذبح أخاه هابيل ولم يحدثنا عما فعله هابيل بأخيه ليستحق منه ذلك.
إنّ أُذُن ألتاريخ لا تسمع إلّا ألأصوات ألعالية، أمّا ألأصوات ألخافتة فلا تصل إلى أسماعه.
لقد أنعكس هذا ألصراع ألإجتماعي بين الثقافتين الزراعية والرعوية، بين قابيل ألمزارع وهابيل ألراعي ، في أساطير ألمنطقة.
حلت ألثقافة ألسومرية وهي أول ثقافة زراعية في ألتاريخ ألتناقض بين ألمزارع والراعي لصالح ألمزارع في ثلاثة أساطير معروفة هي:
1- أسطورة ايميش وأنتين.
2- أسطورة لهار وأشنان.
3- أسطورة أنكمدو ودوموزي.
في هذه ألأساطير يذهب المزارع والراعي الى الآلهة يحتكمان فيما شجر بينهما من خلاف، حيث تحكم ألآلهة للمزارع بالغلبة والتفوق والافضلية على اخيه الراعي.
أسطورة أنكمدو ودوموزي :
في هذه الاسطورة نجد أنانا (آلهة الحب والخصب عند السومريين) تبحث عن زوج فيتقدم لطلب يدها دوموزي الراعي وأنكمدو المزارع. وهي كموقف اولي تفضل أنكمدو.
انا العذراء ساتزوج المزارع
الفلاح الذي يزرع النباتات ويعطي الغلال الوفيرة
الفلاح الذي يُنتِج الحبوب الغزيرة
الّا أنّ اخاها (أوتو) اله الشمس يحضّها على الزواج من دوموزي الراعي وتفضيله غلى الفلاح. فيأخذ بتعداد محاسنه وصفاته ولكن انانا تتابع إبداء وجهة نظرها في السبب الذي من اجله تفضل المزارع. ثم يستعرض دوموزي وأنكمدو ما يستطيعون من تقديمه الى انانا لإقناعها ولكن في نهاية الاسطورة ينتصر الراعي دوموزي على الفلاح انكمدو وتاخذه انانا زوجا لها.
الّا أنّ هذا الانتصار لمْ يكن الّا بداية الكارثة لدموزي المسكين الذي ارسلَتْ به انانا فيما بعد الى العالم الاسفل، لينوب عنها هناك، ويتوضح ذلك في اسطورة سومرية اخرى وهي اسطورة هبوط انانا للعالم الاسفل. وتغدو التضحية بالراعي شرط انتصار الزراعة واستكمال دورة الخصب على الارض وكما يتوضح في اسطورة هبوط عشتار للعالم الاسفل.
وهكذا فإنّ انتصار الراعي لمْ يكن الّا مؤقتا وزائفا ومرحلة تحضيرية لخسارته النهائية، بل وللتضحية به لضمان استمرار الحضارة الزراعية. وفي مراميها الاخيرة فإن هذه الاسطورة تتفق مع بقية اساطير وادي الرافدين في سيادة الفلاح وغلبته على الراعي.
ولعل النص التوراتي وألقرآني لا يبتعد عن هده الفكرة عندما يقبَل الإله تقدمات هابيل الراعي مفضلا اياه عن قابيل المزارع ولكن قابيل يقوم فيما بعد بقتل اخيه انتقاما منه.
أسطورة قاين وهابيل في ألتوراة:
(1 وعرف ادم حواء امراته فحبلت وولدت قايين.وقالت اقتنيت رجلا من عند الرب. 2 ثم عادت فولدت اخاه هابيل.وكان هابيل راعيا للغنم وكان قايين عاملا في الارض. 3وحدث من بعد ايام ان قايين قدم من اثمار الارض قربانا للرب. 4 وقدم هابيل ايضا من ابكار غنمه ومن سمانها.فنظر الرب الى هابيل وقربانه. 5 ولكن الى قايين وقربانه لم ينظر.فاغتاظ قايين جدا وسقط وجهه. 6 فقال الرب لقايين لماذا اغتظت ولماذا سقط وجهك. 7 ان احسنت افلا رفع.وان لم تحسن فعند الباب خطية رابضة واليك اشتياقها وانت تسود عليها 8 وكلم قايين هابيل اخاه.وحدث اذ كانا في الحقل ان قايين قام على هابيل اخيه وقتله. 9 فقال الرب لقايين اين هابيل اخوك.فقال لا اعلم.احارس انا لاخي. 10فقال ماذا فعلت.صوت دم اخيك صارخ الي من الارض. 11 فالان ملعون انت من الارض التي فتحت فاها لتقبل دم اخيك من يدك. 12 متى عملت الارض لا تعود تعطيك قوتها.تائها وهاربا تكون في الارض. 13 فقال قايين للرب ذنبي اعظم من ان يحتمل. 14انك قد طردتني اليوم عن وجه الارض ومن وجهك اختفي واكون تائها وهاربا في الارض.فيكون كل من وجدني يقتلني. 15 فقال له الرب لذلك كل من قتل قايين فسبعة اضعاف ينتقم منه.وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده. 16 فخرج قايين من لدن الرب وسكن في ارض نود شرقي عدن 17 )…. العهد القيم، سفر التكوين، الاصحاح الرابع، 1-17.
المرامي النهائية للنص الوراتي تتفق مع بقية النصوص السومرية ذلك أنّ مقتل الراعي على يد المزارع إنْ هو إلّا تثبيت لغلبة المزارع وقوته وتفوقه على الراعي. ولم يكن بإمكان النص التوراتي الّا أنْ يسير على هذا المخطط، ذلك أنّ اليهود قوم رعاة، ولكنّهم استقروا فيما بعد وزرعوا الارض وبنو المدن، وبقوا يكنون احتراما لتاريخهم الرعوي القريب.
فجاء قبول يهوه لقربان الراعي تعبيرا عن مرحلتهم الرعوية السابقة واحترامهم لها بسبب قراءاتهم اليومية للتوراة. أما موت الراعي على يد المزارع قابيل فجاء نتيجة للامر الواقع الذي يعيشه اليهود من غلبة الزراعة على البداوة.
مات هابيل الراعي، تاركا احفاده الرعاة في أسْرِ الدورة المناخية السنوية، بعيدين عن اي مساهمة في ثقافة البشر وحضارتهم، فبدوي اليوم لا يختلف في شيء عن بدوي فجر التاريخ. اما قابيل المزارع فقد استلم زمام الحضارة ودفع بها اشواطا الى الامام. انتج المجتمع الزراعي، فالمجتمع الصناعي واستطاع احفاد قابيل الوصول الى الفضاء الخارجي.
أسطورة قابيل وهابيل في ألقرآن:
تذكر القصّة كما وردت في القران بأنّ احد ابناء آدم قَتلَ اخاه بسبب الحسد، وهنا نلاحظ وجود عدّة تفاسير فالقران يذكر بان سبب الجريمة هو قبول الله لقربان المقتول وعدم قبوله لقربان القاتل.
امّا اتفسير الثاني فتذكر بانّ سبب القتل هو نتيجة للصراع بين الاخوين لرغبة كليهما الزواج من اختيهما.
وهناك تفسير ثالث يدمج سببي القتل، فبعد رفض قابيل تزويج اخته التؤام من هابيل وابداء نيته بالزواج منها مخالفا بذلك مشيئة والده ادم يقترح آدم عليهما تقديم القرابين لمعرفة مشيئة الله حول الخلاف الناشب بينهما (وأتل عليهم نبأ أبني آدم بألحق إذ قرّبا قربانا فتقُبِل من إحداهما ولم يُتقبَل من ألآخر قال لأقتلنّك قال إنّما يتقبل ألله من ألمتقين)…… قرآن كريم: ألمائدة- ألآية 27.
بعد تنفيذ الجريمة وحسب القصّة الاسلامية يحتار القاتل بما يفعله بالجُثَّة، فيرسل الله غرابا يحفر الارض ويدفن جثّة غراب ميّت فيقلّده القاتل ويدفن اثار جريمته.
8 – ألشامانية:
الشامانية تشكل تجربة دينية متميزة، وكلمة الشامان في لغة التونكوز المنتشرة في سيبيريا تعني الاضطراب والبلبلة لان الرجل يتعرض احيانا في الحلقات الى نوبات يصرخ فيها ويقفز ويؤدي حركات عنيفة.
الشامان هو الكاهن في آسيا الوسطى والغربية وفي جبال الالتاي والاورال وعند الاسكيمو وعند السكان الاصليين من امريكا الشمالية. انه يأتي مجموعة من الافعال السحرية. يزعم الشامان انه يقيم علاقات الصداقة والمودة مع الارواح التي تهيمن على عالم النبات وعلى الحيوانات الاهلية والمتوحشة، ويعقد معها الاتفاقات والمعاهدات، بقصد تأمين الطرائد الوفيرة للصيادين ولكي يمرع الزرع والضرع ولتأتي مواسم الخير.
ويقول الشامان ان بامكانه التأثير على ارواح البشر وبمقدوره ان يتركها تهيم وتتعرض لهجمات الارواح الخبيثة. ويؤدي الشامان مهماته عندما يكون في حالة الوجد فقط. والوجد هو تجربة من مستوى الصوفي يعانيها بالروح خلال الاحلام، يهجر فيها جسده وينطلق الى السماء او الى الجحيم وبذلك يلغي بالفكر والخيال والانفعال شرط الانسان الراهن ويستعيد شرط الانسان الاولي الذي كان في الفردوس.
في بحث سابق ( يونس والحوت ) تطرقنا الى عملية التنسيب في المعتقدات الانسانية، فالشامان لا يصبح شامانا الّا بعد نجاحه في اختبارات التنسيب، وتقتضي اجراءات التنسيب الى الشامانية اجتياز اختبارات شاقة يصعب احتمالها، تدور حول تجربة موت وانبعاث من المستوى الروحي. وكل تنسيب يفرض اعتزال المريد وفصله عن الجماعة لمدة من الزمن يتعرض خلالها للتنكيل والتعذيب، وياخذ العلم بالايحاء والمكاشفة عن الشيخ الفقيه صاحب الحكمة والتدبير ويكون لديه شعور بانه مصطفى من مقامات الهية، انه بالتنكيل الذي يصيبه يموت رمزيا في حياته الدنيوية الخالية من القداسة، لينبعث الى حياة جديدة. بذلك يغدو انسانا مختلفا يرتكز على ابعاد وجودية لم تكن له من قبل.
وينتهي به الامر الى حيازة الوميض والاشراق والى معاناة تجربة من المستوى الصوفي، اساسية وحاسمة ويتكون لديه شعور بالتعالي وكأن البيت الذي يقيم فيه يرتقي الى ارتفاع شاهق.
ليست الشامانية دينا وليس لها عقائد محددة، ولا بيت خاص للعبادة. انما هنالك طراز خاص من الرجال والنساء ( لوجود نساء شامانات ) يعقدون الحلقات التي يحضرها ابناء القبيلة. انهم يحتلون منزلة مرموقة في الجماعة ويعملون على تقديم الخدمات وتحقيق المنافع وتلبية الرغبات.
هنالك خطأ شائع بين الاتراك، فكثير منهم يعتقدون بانّ دينهم قبل دخولهم الى الاسلام هو الشامانية، والصحيح انهم كانوا يؤمنون برب السماء ( كوك تانري) ورب الارض ( ير تانري )، ففي المجتمعات الشامانية، حيث لم يصل الدين بعد الى درجة كافية من التقنين والتنظيم للتجربة الروحية الجمعية تتركز الحياة الروحية للقبيلة حول شخصية واحدة فذة هي الشامان.
انّ ما يميز الشامان في مجتمعات الصيد هذه عن الكاهن في المجتمعات الزراعية المستقرة، هو تفرد التجربة الروحية الفردية للشامان عمن سبقه وعمن سيليه من الشامانات، انه لا يسير في طريق سلكه سلفه ولا يعبّد طريقا لخلفه، بل يرتقي بقواه الخاصة ثم لا يعمل على تقنين تجربته لتكون حذوا لغيره.
اما الكاهن ( رجل الدين كذلك ) فإنّه يلعب دورا مرسوما بدقة في دين الجماعة، المؤسس منذ القدم على قواعد ثابتة، وما على الكاهن الّا السير على مسالك من ما سبقه من الكهنة. وهذا ما يفرق الشامان ايضا عن مؤسس الديانة الجديدة، لانّ طريقة الشامان تنتهي بموته، اما طريقة مؤسس الديانة فتغدو نمطا لكل الجماعة ولكل من يجيء بعده خليفة.
يمكن تقسيم الاديان الى ثلاثة مجاميع:
1- الدين الفردي:
في قاع الظاهرة الدينية، هنالك خبرة فردية يعانيها الانسان في اعماق نفسه وبمعزل عن تجارب الآخرين. فإذا كان لكل بناء سامق اساس يقوم عليه، فإنّ بناء الدين إنّما يقوم على هذا النوع من الخبرة الدينية الفردية، ويدخل الشامانية ضمن هذه المجموعة.
2- الدين الجمعي:
تتخذ الظاهرة الدينية سمتها الجمعية عندما يأخذ الافراد بنقل خبراتهم المنعزلة الى بعضهم بعضا، في محاولة لتحقيق المشاركة والتعبير عن التجارب الخاصة في تجربة عامة، وذلك باستخدام مجازات من واقع اللغة، وخلق رموز تستقطب الانفعالات الدينية المتفرقة في حالة انفعالية مشتركة، وهذا ما يقود الى تكوين المعتقد، وهو حجر الاساس الذي يقوم عليه الدين الجمعي ( اضافة الى الطقس والاسطورة ). فهنا تتعاون عقول الجماعة، بل وعقول اجيال متلاحقة ضمن هذه الجماعة، على وضع صيغة مرشّدة لتجربتها.
ويمكن مقارنة العلاقة بين الدين الفردي والدين الجمعي بالعلاقة بين الفرد والمجتمع.
3- المؤسسة الدينية:
يختلط مفهوم الدين اليوم بفكرتنا عن المؤسسة الدينية وموقفنا منها، الى درجة تبعث على التشويش، وتؤدي الى نتائج مفجعة في بعض الاحيان، ولعل اوضح مثال على ذلك هو جملة الفيلسوف الاجتماعي كارل ماركس التي تقول: ( الدين افيون الشعوب ).
لقد تحولت هذه الجملة، بعد ان انتزعت من سياقها، الى شعار رفعته احزاب في موقع السلطة ( الحزب الشيوعي كمثال )، وحاربت من خلاله كل اشكال الحياة الدينية، حتى ظنت انها قادرة على اجتثاث الميل الديني من نفوس الناس طرا. والحقيقة انّ ما قصده ذلك الفيلسوف ينصب في معظمه على المؤسسة الدينية لا على الدين، على تفسير المؤسسة الدينية للدين لا على تدين الناس، على تسييس الدين واستخدامه اداة ضغط وتسلط، سواء من قبل السلطة الزمنية (كالكنيسة الكاثولوكية وعلى رأسها البابا في الفاتيكان، وكالازهر في مصر، وكالحوزة العلمية في النجف وكنظام ولاية الفقيه في الجمهورية الاسلامية في ايران)، أمْ من قبل اية شريحة او فئة تجعل من نفسها قيّما على دين الناس ومرجعا اعلى لتفسيره والعمل بموجبه ( كالسلفية والوهابية والاخوان المسلمون وحزب الدعوة في العراق وجميع الاحزاب الدينية بدون استثناء.
9- يونس والحوت:
(( فأعد الرب حوتا عظيما لإبتلاع يونان، فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة ايام وثلاث ليالي)) …. نبؤة يونان/ العهد القديم (التوراة) الفصل الثاني-1.
(( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ )) ……سورة الصافات- الآية 142. / القرآن الكريم
(( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ )) ….. سورة القلم- الآية 48./ القرآن الكريم
جاء في تفسير ابن كثير للآية 142 من سورة الصافات مايلي:
أَمَرَ اللَّه تَعَالَى حُوتًا مِنْ الْبَحْر الْأَخْضَر أَنْ يَشُقّ الْبِحَار وَأَنْ يَلْتَقِم يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام فَلَا يُهَشِّمُ لَهُ لَحْمًا وَلَا يَكْسِر لَهُ عَظْمًا فَجَاءَ ذَلِكَ الْحُوت وَأَلْقَى يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام نَفْسه فَالْتَقَمَهُ الْحُوت وَذَهَبَ بِهِ فَطَافَ بِهِ الْبِحَار كُلَّهَا . وَلَمَّا اِسْتَقَرَّ يُونُس فِي بَطْن الْحُوت حَسِبَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسه وَرِجْلَيْهِ وَأَطْرَافه فَإِذَا هُوَ حَيّ فَقَامَ فَصَلَّى فِي بَطْن الْحُوت وَكَانَ مِنْ جُمْلَة دُعَائِهِ يَا رَبّ اِتَّخَذْت لَك مَسْجِدًا فِي مَوْضِع لَمْ يَبْلُغهُ أَحَد مِنْ النَّاس وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَار مَا لَبِثَ فِي بَطْن الْحُوت فَقِيلَ ثَلَاثَة أَيَّام قَالَهُ قَتَادَة وَقِيلَ سَبْعَة قَالَهُ جَعْفَر الصَّادِق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقِيلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَالَهُ أَبُو مَالِك وَقَالَ مُجَاهِد عَنْ الشَّعْبِيّ : اِلْتَقَمَهُ ضُحًى وَلَفَظَهُ عَشِيَّة وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم بِمِقْدَارِ ذَلِكَ وَفِي شِعْر أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : وَأَنْتَ بِفَضْلٍ مِنْك نَجَّيْت يُونُسَا وَقَدْ بَاتَ فِي أَضْعَاف حُوتٍ لَيَالِيَا …. انتهى.
التنسيب في الاساطير تعني الكشف الاول عن القداسة، الذي يتم بفعل التنسيب في مرحلة المراهقة، وبين كشوف لاحقة تجري لجماعات باطنية مغلقة بإحكام، بل وكشوف عن القداسة تاتي لنخبة، وتؤلف علامة على دعوتهم الى اداء رسالة، وعلى نداء داخلي صادر عن اعماقهم (كما حدث في قصة النبي يونس).
ان اختبار التنسيب في اساطير الاولين يقضي بابتلاع المريد من قبل تنين ، بصورة رمزية. وهنالك بدائل كثيرة العدد لذلك الطقس كاسطورة ابتلاع الحوت للنبي يونان الذي ورد قصته في التوراة ( النبي يونس في القرآن). ففي نبؤة يونان في العهد القديم (التوراة) الفصل الثاني-1 جاء: ( فأعد الرب حوتا عظيما لإبتلاع يونان، فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة ايام وثلاث ليالي))، وجاء في الفصل الثاني-11، (( فأمر الرب الحوت فقدف يونان في اليبس )).
إن الرمزية الكامنة في قصة يونان (النبي يونس) يتناول سرا دينيا خاصا بالموت والانبعاث الرمزيين.
في بعض الاقطار تضم طقوس تنسيب المراهقين دخول المريد في قالب يمثل حيوانا مائيا هائل الحجم ممسوخا، اشبه بالتمساح والحوت والسمكة فابناء قبيلة بابوس في غينيا الجديدة كانوا يصنعون قالبا من خشب النخيل يُدعى كيمونو يُمثل تنينا هائلا سيء الملامح ويحتفظون به في بيت الرجال. كانوا يُدخلون المريد عند تنسيبه في كرش دلك التنين.
اما الشامان (رجل الدين او الساحر) في القبائل الساكنة في سيبيريا والاسكيمو في القطب الشمالي، فيدخل بالفكر، خلال الانخطاف، امعاء سمكة هائلة الحجم او امعاء حوت، فالامر في هده الحالة يتعلق برحلة وجد تتم بالفكر والخيال الى بطن تنين بحري.
في التراث الفنلندي كان الحداد إيلمارينان ذات يوم يغازل فتاة رائعة الجمال، فاشترطت عليه حتى تقبل الزواج منه ان يصطاد الحداد سمكة هائلة الحجم، وعندما فعل التهمته السمكة فصار في احشائها. ثم هبط الى امعائها، وراح ينتفض فتوسلت اليه السمكة، ورغبت ان يخرج من الخلف. فاجابها: (انا لن اسلك هدا السبيل، ولو فعلت ساكون موضع هزء وسخرية من الناس جميعا)، عند ذلك اقترحت السمكة ان يخرج من فمها. اما الحداد فرفض طلبها وقال: (لو اتيت هدا الفعل، سيقول الناس: هذا الحداد تقيأته السمكة) ثم واصل انتفاضته بالعنف والشدة الى ان تفجر جسم السمكة المسكينة، وتناثرت ابعاضها.
نلاحظ ان الغول البحري يقوم بدور مزدوج في هذه الاساطير, وان السمكة الهائلة التي ابتلعت النبي يونس ( يونان في التوراة) وسائر الابطال الاسطوريين ترمز الى الموت، وان بطنها يمثل الجحيم. لقد جرى في رؤى البلدان المطلة على بحر الابيض المتوسط، تصور الجحيم بصورة معتادة، تحت شكل تنين بحري هائل، ربما يتخذ نموذجه القديم من اللويثان*، الذي تتحدث عنه التوراة.
ان يُبتلع المرء يوازي اذن موته، في نظر الاقدمين، وهذا ما نلخص اليه بكل وضوح من جميع الطقوس البدائية المتصلة بالتنسيب. ومن جهة اخرى يعني ايضا، الولوج الى احشاء التنين الالتحاق بحالة جنينية سابقة لتكوين الاشكال.
ان الظلمات التي تخيم في بطن التنين تقابل الليل الكوني، وتعادل حالة السديم والعشوائية التي كانت قبل الخلق. بتعبير آخر، نحن امام رمزية مزدوجة: رمزية الموت، اي نهاية الزمان، ورمزية الارتداد الى وضع البذور وإلى بداية التكوين والإنشاء، والى حالة سابقة لكل شيء، وسابقة لكل وجود في الزمان.
ان ابتلاع التنين او الحوت طالب التنسيب له دور مهم في التقاليد الطقسية، وعلى حد سواء في اساطير الابطال، وفي الميثيولوجيات المعنية بالموت، الامر يتعلق بسر ديني يقتضي اداء الاختبار التنسيبي الاشد هولا، اختبار الموت، لكنه يؤلف بطبيعة الحال، السبيل الوحيد المتاح من اجل الغاء الديمومة الزمنية، اي من اجل ازالة الوجود التاريخي، واستعادة الوضع الاولي البدئي. هده الاستعادة لحالة البذور، لحالة كمون الوجود انما توازي بدورها ايضا الموت.
وبهدا الاعتبار فالإنسان يقتل وجوده الخاص الدنيوي، الوجود التاريخي، الذي اصابه الإنهاك والإهتراء، من اجل استعادة الطهارة والبراءة، والوجود المنفتح الغير الملطخ بادران الزمان. ان الموت من خلال تلك السياقات التنسيبية ( الدخول في بطن الحوت او التنين) يعمل على الخلاص من الماضي، وعلى وضع حد الى وجود خائب- شأن اي وجود دنيوي لا صلة له بالقداسة- من اجل استئناف وجود آخر الى حياة جديدة، وهدا ما حدث للنبي يونس بعد خروجه من بطن الحوت.
وفي اسطورة ايتانا والنسر السومرية التي تطرقنا اليها في بحث سابق (حكايات جدتي واسطورة ايتانا والنسر-2) قلنا: لقد كان على النسر أن يموت رمزياً في باطن الأرض– الأم، لكي يُبعَث من جديد معافى ومزوداً بقوى تتعلق أيضاً بالإخصاب زوَّدته بها ننخرساج، الأرض.
لقد هبط النسر أولاً من القمة إلى الأرض حيث جحر الحية، ثم هبط أعمق من ذلك في غياهب البئر حيث رحم الأرض، لينطلق بعد ذلك في طلب النبتة التي تتعهدها بالرعاية عشتار إلهة الخصوبة الكونية. هذا المغزى السرَّاني لعلاقة النسر بالحية يفسر لنا عدم جدية العِقاب الذي تعرَّض له النسر، ومسارعة الإله شمش إلى العفو عنه ليوكل إليه المهمة التي صار الآن صالحاً لها، بعد أن تحول، عبر الطقس الذي مر به، من نسر عادي إلى نسر قادر على إتمام مهام لا يقدر عليها غيره.
وتماثل هده الحالة عقاب الله للنبي يونس بجعل الحوت يلتقمه، (( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)- الآيات 142-147 من سورة الصافات.
فهنا نجد بان العقاب لم يكن جديا، لان الله عفى عنه وارسله لهداية قومه ((وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ))- الآية-147 من سورة الصافات.، وكل ما في الامر، ان النبي يونس مر بطقس تنسيبي ليكون جاهزا لتحمل مشاق الدعوة.
وما دمنا نتحدث عن طقس التنسيب فإن طقوس الحج والعمرة في الدين الإسلامي هي عملية تنسيب ايضا، فالحاج او المعتمر يموت اثناء الحج والعمرة طقسيا، بدليل لبسه كفنا ابيض اثناء الطقوس ومن ثم يتصفى من ذنوبه بعد انتهاء طقوس الحج او العمرة كمن ولدته امه من جديد.
*اللويثان : هو تنين مخيف يتحدث عنه التوراة (العهد القديم)، عندما يُثار يكون بمقدوره ابتلاع الشمس، تخرج من فمه مشاعل ويتطاير منه شرر النار/ سفر ايوب- الفصل الاربعون والحادي والاربعون.
10- أساطير العالم ألحديث:
في بحث سابق (آساطير ألأولين- الفردوس المفقود) تناولنا اساطير العصر الذهبي بالتفصيل وقلنا في المقدمة:
منذ أنْ زالت المشاعة الابتدائية ألتي عاشها الانسان القديم، وفقد الفرد سلطته على وسائل انتاجه لصالح الآخرين، تحوّل العمل من متعة وتحقيق للذات الى عبودية واغتراب، ومن طقس جماعي مُرْضٍِ الى وحدة قاسية بلا هدف او غاية الّا لقمة العيش اليومية التي تدفع للاستمرار يوما آخر. ومع نضوج المجتمعات الابوية التسلطية وإحكام حلقاتها على الافراد، صار الإنسان الى حالة احباط دائمة هي شرطه الاساسي في حياة تبدوا بلا معنى ولا تسعى الى غاية، سوى موت يضع حدا لفصل مؤلم.
ولكن المجتمع التسلطي استطاع انْ يحرّم الفرد من كل شيء إلّا من رغبة في التغيير بادية او كامنة و حلم. تجلت رغبة التغيير في ثورات البشر عبر التاريخ في سبيل حياة اكثر وحرية اكثر. وتجلّى الحلم، بديلا عن الفعل، في ادبيات البشر التي تصف عالما قادما، هو حرية كاملة ومساواة مطلقة وراحة من لعنة العمل المفروض على الانسان.
عالم لا مرض فيه ولا عناء ولا شيخوخة ولا موت. فكانت اساطير الجنة لدى كل الشعوب، تعبيرا سلبيا عن رغبة في التغيير لم تخرج الى حيّز الفعل، او فعل تمّ إحباطه فصار حلما ينتظر.
في هذا البحث سنحاول التطرق لبعض اساطير العالم الحديث كالشيوعية الماركسية والاشتراكية الوطنية الالمانية ( الفكر النازي).
ألشيوعية ألماركسية وأسطورة ألعصر ألذهبي:
إذا تركنا الحديث عن مصيرها التاريخي والسند الفلسفي للماركسية، وتوقفنا عند البنية الاسطورية للشيوعية، عند دلالة مذهبها في المآل وفي النهاية القصوى، وعند الوعود التي اطلقها والتي صادفت رواجا شعبيا. وأيا كان مقاصد ماركس العلمية، فمن الجلي أنّ صاحب (البيان الشيوعي) يستعيد واحدة من الاساطير الكبرى الخاصة بالنهاية والمآل، في العالم الآسيوي المتوسطي، ويواصل ألأخذ بها.
إنّها الاسطورة المعنية بالدور الانقاذي الذي يطّلع به العادل والمصطفى، والقدّيس، والبريء، والمبشّر. وتسميته الشيوعية ( البروليتاريا ). وإنّ العذابات وألألام التي يكابدها المُنقِذ مدعوة لأنْ تُحدِث تغييرا في البنية الانطولوجية ( علم الوجود بما هو موجود ) للعالم. على هذا النحو، فإنّ مجتمعا بدون طبقات يدعو اليه ماركس، وما ينتج عنه من زوال للتوترات التاريخية، يجد له السابقة الاكثر صوابا في أسطورة العصر الذهبي ألتي تُمَيِّزُ -بحسب تراث شعوب عديدة_ بداية ونهاية التاريخ ( يدخل ألأفكار ألمهدية ألإسلامية ضمن هذه ألأفكار ).
لقد عمل ماركس على إغناء تلك ألأسطورة الشهيرة مستفيدا من الايديولوجيا المُبشِرة بالخلاص في في كل من المسيحية واليهودية، هنالك من جهة أخرى، الصراع النهائي بين الخير والشر. ويمكننا بسهولة أنْ نقارنه بالنزاع بين المسيح والمسيح الكاذب الدجّال، والمتبوع بالظفر النهائي للمسيح الحقيقي.
وثمة دلالة هامة في متناول ماركس لفائدة مذهبه، دلالة الامل الذي يراود المسيحية واليهودية بنهاية قصوى للتاريخ تكون تكون بمثابة ألمآل. إنّ ماركس في هذا المنحى، يختلف عن سائر الفلاسفة من اصحاب النزعة التاريخية، الذين يعتقدون أنّ التوترات التي يطلقها التاريخ تلازم بالجوهر، الشرط الإنساني، وبالتالي لا يُمكن لها، ابدا، أنْ تضمحل وأنْ تتلاشى بتمامها.
ألإشتراكية الوطنية ( ألنازية ):
على عكس الشيوعية الماركسية، تشكو الميثولوجيا ( علم الاساطير ) التي اخذت بها الاشتراكية الوطنية ( النازية بالتحديد ) من تهافت لا يوصف، بالقياس إلى عظمة الاسطورة الشيوعية، وإلى التفاؤل الواسع الذي اثارته عند مُريديها. ولا تُعزى تلك الحالة إلى محدودية الاسطورة العرقية فقط، إذ لا يخطر في البال أنْ تقبلها عن طيبة خاطر، انحاء شاسعة من اوربا، وإنما يعود الميثولوجيا الجرمانية، على وجه الخصوص، إلى نزعة التشاؤم الاساسي الكامنة فيها.
مع ذلك ترتب على الإشتراكية الالمانية أنّ تبذل، بالضرورة، الجهد الحثيث من أجل إحياء الميثولوجيا الجرمانية القديمة. وفي سبيل ذلك عملت على محو القيم المسيحية بقصد لقاء الينابيع الروحية ل ( العرق الجرماني ) أي الوثنية التي انتشرت فيما مضى في اوربا الشمالية.
وبحسب منظور علم نفس الاعماق، إنّ محاولة مماثلة للعودة إلى ينابيع العرق الجرماني هي مجرد دعوة إلى ألإنتحار الجماعي، ذلك أنّ النهاية القصوى أو ألمآل المعلن عنه، والمرتقب من قِبل قدماء الجرمان يبدو في الدمار النهائي ألشامل ( رايناروك ). أي أنّ نهاية العالم تكون بكارثة. ذلك ألمآل يقتضي حصول معركة هائلة بين ألآلهة وألابالسة تنتهي إلى موت جميع ألآلهة وألأبطال، وتُفضي بالعالم إلى حالة السديم والعشوائية.
وفيما بعد سينبعث عالم جديد من بين الانقاض وسيعود إلى حياة جديدة. لذا فإنّ قدماء الجرمان عرفوا بدورهم المذهب القائل بوجود دورات كونية ( كما في ألدين ألزرداشتي والهندوسية ) وأخذوا بأسطورة خلق العالم ودماره بصورة دورية.
ألتساؤل الذي يطرح نفسه بشدة هو:
كيف أمكن لرؤيا تتناول نهاية التاريخ، إلى هذه الدرجة من التشاؤم، أنّ تُلهِبَ مشاعر شريحة، على ألأقل من الشعب الالماني؟ لهذا التساؤل اهميته البالغة، ولم يكف عن طرح المشكلات أمام علماء النفس.
المصادر:
مغامرة العقل الأولى…… فراس السوّاح
ميلاد ألشيطان…… فراس السوّاح
ألإنجيل
ألقرآن
ألاحاديث ألنبوية
ألتوراة.
روايات جدتي للحكايات ألشعبية
ألأسطورة والمعنى………. فراس ألسوّاح
لغز عشتار………. فراس السوّاح
الاساطير والاحلام والاسرار – ميرسيا ايلياد.
دين الانسان – فراس السواح.