23 نوفمبر، 2024 5:25 ص
Search
Close this search box.

آساطير ألأولين – ألشامانية

آساطير ألأولين – ألشامانية

الشامانية تشكل تجربة دينية متميزة، وكلمة الشامان في لغة التونكوز المنتشرة في سيبيريا تعني الاضطراب والبلبلة لان الرجل يتعرض احيانا في الحلقات الى نوبات يصرخ فيها ويقفز ويؤدي حركات عنيفة.
الشامان هو الكاهن في آسيا الوسطى والغربية وفي جبال الالتاي والاورال وعند الاسكيمو وعند السكان الاصليين من امريكا الشمالية. انه يأتي مجموعة من الافعال السحرية. يزعم الشامان انه يقيم علاقات الصداقة والمودة مع الارواح التي تهيمن على عالم النبات وعلى الحيوانات الاهلية والمتوحشة، ويعقد معها الاتفاقات والمعاهدات، بقصد تأمين الطرائد الوفيرة للصيادين ولكي يمرع الزرع والضرع ولتأتي مواسم الخير.
ويقول الشامان ان بامكانه التأثير على ارواح البشر وبمقدوره ان يتركها تهيم وتتعرض لهجمات الارواح الخبيثة. ويؤدي الشامان مهماته عندما يكون في حالة الوجد فقط. والوجد هو تجربة من مستوى الصوفي يعانيها بالروح خلال الاحلام، يهجر فيها جسده وينطلق الى السماء او الى الجحيم وبذلك يلغي بالفكر والخيال والانفعال شرط الانسان الراهن ويستعيد شرط الانسان الاولي الذي كان في الفردوس.
في بحث سابق ( يونس والحوت ) تطرقنا الى عملية التنسيب في المعتقدات الانسانية، فالشامان لا يصبح شامانا الّا بعد نجاحه في اختبارات التنسيب، وتقتضي اجراءات التنسيب الى الشامانية اجتياز اختبارات شاقة يصعب احتمالها، تدور حول تجربة موت وانبعاث من المستوى الروحي. وكل تنسيب يفرض اعتزال المريد وفصله عن الجماعة لمدة من الزمن يتعرض خلالها للتنكيل والتعذيب، وياخذ العلم بالايحاء والمكاشفة عن الشيخ الفقيه صاحب الحكمة والتدبير ويكون لديه شعور بانه مصطفى من مقامات الهية، انه بالتنكيل الذي يصيبه يموت رمزيا في حياته الدنيوية الخالية من القداسة، لينبعث الى حياة جديدة. بذلك يغدو انسانا مختلفا يرتكز على ابعاد وجودية لم تكن له من قبل.
وينتهي به الامر الى حيازة الوميض والاشراق والى معاناة تجربة من المستوى الصوفي، اساسية وحاسمة ويتكون لديه شعور بالتعالي وكأن البيت الذي يقيم فيه يرتقي الى ارتفاع شاهق.
ليست الشامانية دينا وليس لها عقائد محددة، ولا بيت خاص للعبادة. انما هنالك طراز خاص من الرجال والنساء ( لوجود نساء شامانات ) يعقدون الحلقات التي يحضرها ابناء القبيلة. انهم يحتلون منزلة مرموقة في الجماعة ويعملون على تقديم الخدمات وتحقيق المنافع وتلبية الرغبات.
هنالك خطأ شائع بين الاتراك، فكثير منهم يعتقدون بانّ دينهم قبل دخولهم الى الاسلام هو الشامانية، والصحيح انهم كانوا يؤمنون برب السماء ( كوك تانري) ورب الارض ( ير تانري )، ففي المجتمعات الشامانية، حيث لم يصل الدين بعد الى درجة كافية من التقنين والتنظيم للتجربة الروحية الجمعية تتركز الحياة الروحية للقبيلة حول شخصية واحدة فذة هي الشامان.
انّ ما يميز الشامان في مجتمعات الصيد هذه عن الكاهن في المجتمعات الزراعية المستقرة، هو تفرد التجربة الروحية الفردية للشامان عمن سبقه وعمن سيليه من الشامانات، انه لا يسير في طريق سلكه سلفه ولا يعبّد طريقا لخلفه، بل يرتقي بقواه الخاصة ثم لا يعمل على تقنين تجربته لتكون حذوا لغيره.
اما الكاهن ( رجل الدين كذلك ) فإنّه يلعب دورا مرسوما  بدقة في دين الجماعة، المؤسس منذ القدم على قواعد ثابتة، وما على الكاهن الّا السير على مسالك من ما سبقه من الكهنة. وهذا ما يفرق الشامان ايضا عن مؤسس الديانة الجديدة، لانّ طريقة الشامان تنتهي بموته، اما طريقة مؤسس الديانة فتغدو نمطا لكل الجماعة ولكل من يجيء بعده خليفة.
يمكن تقسيم الاديان الى ثلاثة مجاميع:
1- الدين الفردي:
في قاع الظاهرة الدينية، هنالك خبرة فردية يعانيها الانسان في اعماق نفسه وبمعزل عن تجارب الآخرين. فإذا كان لكل بناء سامق اساس يقوم عليه، فإنّ بناء الدين إنّما يقوم على هذا النوع من الخبرة الدينية الفردية، ويدخل الشامانية ضمن هذه المجموعة.
2- الدين الجمعي:
تتخذ الظاهرة الدينية سمتها الجمعية عندما يأخذ الافراد بنقل خبراتهم المنعزلة الى بعضهم بعضا، في محاولة لتحقيق المشاركة والتعبير عن التجارب الخاصة في تجربة عامة، وذلك باستخدام مجازات من واقع اللغة، وخلق رموز تستقطب الانفعالات الدينية المتفرقة في حالة انفعالية مشتركة، وهذا ما يقود الى تكوين المعتقد، وهو حجر الاساس الذي يقوم عليه الدين الجمعي ( اضافة الى الطقس والاسطورة ). فهنا تتعاون عقول الجماعة، بل وعقول اجيال متلاحقة ضمن هذه الجماعة، على وضع صيغة مرشّدة لتجربتها.
ويمكن مقارنة العلاقة بين الدين الفردي والدين الجمعي بالعلاقة بين الفرد والمجتمع.
3- المؤسسة الدينية:
يختلط مفهوم الدين اليوم بفكرتنا عن المؤسسة الدينية وموقفنا منها، الى درجة تبعث على التشويش، وتؤدي الى نتائج مفجعة في بعض الاحيان، ولعل اوضح مثال على ذلك هو جملة الفيلسوف الاجتماعي كارل ماركس التي تقول: ( الدين افيون الشعوب ).
لقد تحولت هذه الجملة، بعد ان انتزعت من سياقها، الى شعار رفعته احزاب في موقع السلطة ( الحزب الشيوعي كمثال )، وحاربت من خلاله كل اشكال الحياة الدينية، حتى ظنت انها قادرة على اجتثاث الميل الديني من نفوس الناس طرا. والحقيقة انّ ما قصده ذلك الفيلسوف ينصب في معظمه على المؤسسة الدينية لا على الدين، على تفسير المؤسسة الدينية للدين لا على تدين الناس، على تسييس الدين واستخدامه اداة ضغط وتسلط، سواء من قبل السلطة الزمنية (كالكنيسة الكاثولوكية وعلى رأسها البابا في الفاتيكان، وكالازهر في مصر، وكالحوزة العلمية في النجف وكنظام ولاية الفقيه في الجمهورية الاسلامية في ايران)، أمْ من قبل اية شريحة او فئة تجعل من نفسها قيّما على دين الناس ومرجعا اعلى لتفسيره والعمل بموجبه ( كالسلفية والوهابية والاخوان المسلمون وحزب الدعوة في العراق وجميع الاحزاب الدينية بدون استثناء ).
مصادر البحث :
– الاساطير والاحلام والاسرار – ميرسيا ايلياد.
– دين الانسان – فراس السواح.

أحدث المقالات

أحدث المقالات