ينصرف مصطلح اليسار الى الحركة او التيار وأحيانا الى الحزب السياسي الذي ينشط في الدول الراسمالية مدافعا عن الذين ليس لهم الوسيلة للتعبير عن مصالحهم ضد مستغليهم ومنع الظلم عنهم. وبحسب الظروف السياسية التي ينشط اليسار في ظلها هناك قائمة طويلة من الاهداف التي يسعى اليسار لتحقيقها كالسعي لتحقيق توزيع عادل للدخل والثروات لتحسين الحياة المعيشية للشطر الأكبر من الناس وجعلها متناسبة مع ضرورات العيش الكريمة. كما يسعى الى مكافحة التمييز بين الناس على أساس الجنس والعنصر واللغة والدين واللون وضمان المساواة التامة أمام القانون وبين المرأة والرجل. وفي الفترة الأخيرة تبنت العديد من الاجنحة اليسارية في الغرب خاصة حق مثلي الجنس في اختيارشريك حياته ذكرا كان أو أنثى وعدم التمييز تجاههم في العمل والعلاقات الاجتماعية.
لا يشترط باليساري ان يكون شيوعيا أو اشتراكيا ليتبنى هذه الحقوق التي يتبناها الشيوعيون فالأحزاب البرجوازية المحافظة التي تنثسط تحت مسميات مختلفة من بينها الاحزاب الاجتماعية الديمقراطية أوالمسيحية الديمقراطية في الدول الغربية تتبنى في برامجها السياسية الكثير من تلك الاهداف. فيما تبنت أحزاب برجوازية كحزب العمال البريطاني والحزب الاشتراكي الفرنسي التي ينظر اليها كأحزاب يسارية مقارنة بتلك المحافظة أهدافا أخرى مثل توسيع قاعدة ملكية الدولة لفروع اقتصادية انتاجية وخدمية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية رغم تبنيهما مبادئ النظام الرأسمالي كالحرية الاقتصادية واقتصاد السوق. لكن ادراج تلك الاهداف في البرامج السياسية شيئ والتطبيق الفعلي لها شيئا آخر. هذا من جانب ومن جانب ثاني فان هذه الاحزاب تنظر لتلك الحقوق من موقف طبقي برجوازي يحابي الطبقة الرأسمالية على حساب الطبقة العاملة وليس العكس. ويعمل الصراع الطبقي داخل جمهور وقيادات هذه الأحزاب على رجحان كفة اليسار فيها أو العكس وبالتالي السياسة التي تنسجم معها.
الحركة اليسارية ظاهرة رأسمالية نشأت وتطورت كرد فعل للاستغلال الرأسمالي الذي تمارسه الطبقة البرجوازية بحق طبقات وفئات المجتمع الأخرى من خلال هيمنتها على وسائل الانتاج التي أدت الى انقسام المجتمع الى طبقات متناقضة المصالح حيث اقلية تتحكم بالموارد الاقتصادية وأكثرية لا تملك غير قوة عملها وما تدره عليها من دخل يفرض على نسبة كبيرة منها حياة الفقر والحاجة. يطرح اليسار شعاراته السياسية والاقتصادية تعبيرا عن منظوره لسبل اصلاح واقع الحياة ونظم العمل السائدة في ظل الرأسمالية. ويتدرج اليسار كحركة جماهيرية بين الاعتدال والتطرف الذي يعتمد على العلاقة بينه وبين السلطة الحاكمة وأرباب العمل ، وكلما ارتفع أو انخفض سقف الاصلاحات أو المطالب التي يطرحها كلما نظر اليه بكونه أقل اعتدالا أوأكثر تطرفا ومن هنا نشأ ما يطلق عليه اليسار المتطرف. بتعبير آخر ان الجهة السياسية ذات التوجهات المغالية في برامج عملها التي لا تتناسب مع قوتها الفعلية وقوة الخصوم تعارف على وصفها باليسار المتطرف وبرنامجها بالبرنامج غير الواقعي وغير القابل للتحقيق دون أن يعني ذلك ان برنامج اليسار غير قابل للتحقيق بالفعل. فأرباب العمل والسلطة المعبرة عن مصالحهم لا يستجيبون لمطالب العمال في مواقع العمل عن طيب خاطر فاحدى وسائل دفاعهم عن مصالحهم هي اطلاق مثل تلك التبريرات لكسب السلطات الحكومية الى جانبها للضغط على العمال لخفض سقف مطالبهم أو لتبرير هجومهم المضاد على الحركة العمالية وهضم حقوقها.
لقد شعرت مؤسسات الاتحاد الأوربي بالرعب عندما فوجءت بانتصار اليسار اليوناني في الانتخابات العامة في 25 يناير كانون الثاني المنصرم وتشكيله الحكومة الجديدة بدلا من حكومة حزب الديمقراطية الجديدة المحافظ. وقد تلقت الاحزاب اليسارية والتقدمية في العالم الخبر بالتفاؤل متوقعة بأن ربيع اليسار والحكومات اليسارية قد حل وأن فوز اليسار اليوناني هو بداية النهاية لسياسة الاذلال والافقار التي تنفذها سلطات الاتحاد الاوربي بحق شغيلة وفقراء شعوب الاتحاد الاوربية. وكنا سنشهد صحوة فكرية يسارية في دول الاتحاد الأوربي قد تقود الى توحيد صفوف اليسار في العالم في جبهة نضالية واسعة ضد سياسات التقشف ودفاعا عن حقوق الشغيلة التي تتعرض لهجوم واستغلال أرباب العمل.
لكن تلك الآمال قد تبخرت مع استسلام ائتلاف” سيريزا ” لشروط الاتحاد الأوربي القاضية بفرض اجراءات تقشف جديدة تثقل كاهل الشعب اليوناني وهي رسالة تحذيرية شديدة اللهجة لليسار عامة بأن لا يعيدوا المحاولة مرة ثانية. بعبارة أخرى أتاح استسلام سيريزا للاتحاد الأوربي فرصة كان يتمناها فلولا تنازل رئيسه تسيبراس لما تمكن الاتحاد الاوربي ان يقمع تطلعات اليونانيين الى حياة أفضل ويقول لليسار الأوربي ” احذروا المثال اليوناني ولا تكرروا تجربته الفاشلة “.
وليس صدفة أن تشن وسائل الاعلام والأحزاب والأجنحة اليمينية في الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية في بريطانيا وأوربا وغيرها حملة تشهير شرسة ضد المرشح اليساري لقيادة حزب العمال البريطاني جيرومي كوربين. فللرجل سجل حافل بالمواقف التضامنية مع الحركة العمالية والنقابية ومعارضة الحروب والسلاح النووي خلال نشاطه السياسي وكعضو في البرلمان لمدة 40 عاما. وكان أحد قادة الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها بريطانيا ودولا أوربية أخرى ضد الحرب التي كانت ستشن على العراق عام 2003. ويقود حاليا حملة سياسية شعبية لتقديم توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق المسئول عن توريط بلاده في تلك الحرب الى محكمة مجرمي الحرب الدولية عن الجرائم التي ارتكبها بحق العراق. ولم يفاجأ الرأي العام البريطاني بتحذير توني بلير وأنصاره من مؤيدي الحرب من خطر انتخاب كوربين رئيسا للحزب ، لكن تحذير بلير على العكس قد ادى الى اتساع التأييد له بين جماهير الشغيلة والشباب واتحادات العمال والطبقة المتوسطة حيث انظم لحزب العمال أكثر من 600 الف من الاعضاء الجدد. انتصار اليسار البريطاني في دفع كوربين كزعيم لحزب العمال سيحدث تغييرا جوهريا في السياسة الداخلية والخارجية البريطانية وهو ما يقلق الاتحاد الأوربي وخاصة اذا ما انتخب رئيسا للوزراء في انتخابات عام 2020 .
انهيار النظام الاشتراكي الذي سعت اليه لعقود الولايات المتحدة خلال حربها الباردة منذ خمسينيات القرن الماضي قد ترك فراغا كبيرا في الثقافة التقدمية والماركسية والوعي السياسي الاشتراكي بادرت الماكنة الاعلامية المناهضة للشيوعية الى تغذيته بكل ما هو فاسد ورخيص ومبتذل من المواد الدعائية لتشويه الشيوعية والاحزاب الشيوعية واليسار الشيوعي وكل ماهو تقدمي لتسويق النظام الرأسمالي بكونه النظام الأصلح والاقدر على البقاء والتطور وما عداه مجرد محاولات يائسة غير صالحة للحياة مكتوب لها الفشل والاندثار. وقد شجعت الولايات المتحدة انتشار الحركات الدينية المتطرفة وساعدت وتساعد احزابا دينية وطائفية على استلام السلطة في البلدان العربية والاسلامية ودعم القائم منها ماليا وسياسيا وعسكريا كدول باكستان ودول الخليج وتركيا والعراق وليبيا ومصر وتسعى لاحلال سلطة دينية في سوريا ودول اسيا الوسطى الاشتراكية السابقة بدل النظام العلماني القائم فيها حاليا لتكون جبهة امامية تعمل نيابة عنها ضد عودة النفوذ الفكري الاشتراكي والشيوعي اليها.
وكان من نتائج انهيار الحزب الشيوعي السوفييتي مركز الحركة الشيوعية في العالم وتحت تأثير الصدمة التي أحدثها ذلك الانهيار تخلت العديد من الأحزاب الشيوعية والعمالية وأعضاءها وجماهيرها طواعية عن مهمة السعي من أجل الاشتراكية بينما تحول آخرون الى الجبهة المعادية للاشتراكية وتناقص تبعا لذلك الاهتمام بالفكر الماركسي الى حد كبير. وكنتيجة له تخلت الفئة المثقفة وشطر واسع من الطبقة الوسطى عن دورهم كجبهة احتياطية حليفة لحركة الطبقة العاملة والثورة الاشتراكية. وبدا واضحا اختلال التوازن بين الفكر الماركسي وما يمثله من قيمة علمية وواقع الحال الذي كانت عليه التجربة الاشتراكية وأحزابها ونظامها. وكنتيجة لهذا الاختلال ظهرت الحركات اليسارية الى الواجهة مقدمة نفسها كبديل للأحزاب الشيوعية والعمالية التي تقاعدت عن النضال بنتيجة تفكك المركز الشيوعي العالمي.
يتبع الجزء الثاني