آذر نفيسي، كاتبة أمريكية من أصل ايراني، تعود بنسبها الى ذلك الطبيب المداويا (إبن النفيس) لذلك تَشَرَّفتْ وإستَقتْ إسمها منه. فَرَغتُ تواً من كتابها المترجم من الفارسية الى العربية والموسوم أشياء كنت ساكتة عنها. أهمية الكتاب تكمن في سردها التأريخ الحديث لبلدها ايران، من خلال سبر سيرة عائلتها، وصولاً الى إندلاع الثورة عام 1978 وما تبع ذلك من تطورات دراماتيكية ومن سياسات لم ترق لها وحدها فحسب بل هناك الكثير مَنْ هم على شاكلتها ويشاطرونها الرأي، مما إضطرارها وتحت الظروف آنفة الذكر الى حمل حلمها معها في غربتها المفروضة عليها، ولتعلن عن رفضها المطلق والصريح لسلطة العمائم.
على الرغم من أهمية الكتاب كما أسلفت الاّ اني ذهبت في وجهتي الى مكان آخر منه وقد يراه البعض هامشياً أو يقع على أطرافه. لذا يمكن القول ومع صدور أي كتاب فمن البداهة أنْ يجد صاحبه وبالضرورة مَنْ سيختلف أو يتفق معه، وهذا تا الله لأمر حسن ومفروغ منه، غير اني سأركن جانباً جلَّ ما ورد في الكتاب وعلى أهميته لأمسك بموضوعين إثنين، وجدت فيهما ما يدغدغ ضالتي، دون أن أصادر حق القارئ في الذهاب الى أبعد مما بغيت، ودون أن يعني ذلك أيضاً ان ما جاء فيه، ما لا يستحق الوقوف أطول مما وقفت، فقد يكتشف القارئ في بعض تفاصيله وعناوينه الفرعيه ما لم أستطع المسك به.
فأول ما لفتَ نظري في كتابها آنف الذكر هو ذلك العرفان والشعور بالجميل الذي تسديه في كتابها وعبر عدد لا بأس به من الصفحات وبالأسماء الصريحة، الى كل من ساهم وساعد ونصح، أو عدَّل من إعوجاج، أو صوب رأياً كانت قد اتت عليه دون أن تدركه على النحو الذي يستحق، أو أن تفرغ منه قبل إشباعه، آخذة بنظر الإعتبار كل ما ورد اليها من ملاحظات ونصائح مفيدة، حتى بلوغها المراحل الأخيرة من إعداد وتهيئة كتابها ليخرج ويرى النور الى ماهو عليه وعلى الشاكلة التي انتهى اليه، انها شيمة مَنْ يسعى الى السير بخطى ثابتة وواثقة على طريق فن الكتابة وشروطها، لتكون بذلك قد أمسكت حقاً بأخلاقيات صناعتها.
وبذا يمكننا القول إنَّ آذر نفيسي لم تتنكر ولم تجحد ولم تغمط حق مَنْ ساعدها وما كان قد قُدِّمً لها من وقفات، لا يجيدها الاّ من يعرف قيمة ما يحفل به قلمه، وهنا بيت القصيد، فناصية الكتابة عندها وعند مَنْ يشابهها في الهم، تبدأ بعبور عتبة الأخلاق قبل البلوغ الى مبتغاها الأخير وهو إخراج الكتاب. انها صفة حميدة اذن بكل المقاييس، فهي وكما أرى تقوي صاحبها وتعطيه جرعة اضافية من الثقة، وتبرئ أيضاً ما عَلِقَ في رقبتها من دَينٍ إن كنا نسميه دَيناً.
ما فات ذكره يدفعك لأن تثير سؤالا مشروعاً، هل ان الأدب الفارسي والإيراني بشكل عام وبما حمل من إرث يقودك الى القول بأنَّ أحد ركن أركانه الرئيسية مبني على رد الجميل بجميل أكثر أناقة وأبهى؟ وهل يحتكر لوحده صفة من هذا النوع؟. على ما أظن فإنَّ الأدب العالمي ربما كان سباقاً في ذلك العِرفْ حتى راح محلقاً، بعيداً في تساميه، وأدبنا العربي يحفل بذلك أيضاً فهو الآخر يحمل من هذا العطر، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة جداً، لسنا بصدد ذكرها الآن، فالكاتب النوعي وبصرف النظر عن لونه وجنسه وعرقه، تجده مهموماً بمنتجه، يدرك ما يكتب ويدرك أيضاً قيمة الجهد المقدم له من المحيطين به حتى لو كان همساً. إذن هو تقليد متعارف عليه بين أوساط الطبقة الرصينة من الكتاب.
ومن طرافة ما ذكرته أيضاً آذر نفيسي في بعض صفحات كتابها ويشد الإنتباه، هو تقديم واجب الشكر لتلك الأمكنة التي حفزتها أو لنقل ساعدتها على شحذ ذاكرتها وعلى تهيأة الأجواء المناسبة لتكتب بإنسيابية وإستراخ عاليين، بل راحت بثناءها ابعد من ذلك حين غاصت في إسترجاعاتها لتجد نفسها مستفزة، عائدة بها ومن حيث لا تدري الى بعض الامكنة، مستحضرة في آن ما مرَّ بها من أحداث، مذ طفولتها وحتى إستقرارها بالولايات المتحدة الأمريكية، مرورا بمرحلة الصبا والشباب وإندفاعات ذلك العمر. فهذه الزاوية على سبيل المثال التي إتخذت منها منزلاً للكتابة، ذكرتها بأحد أركان مدينتها الأولى والعريقة أصفهان، والمقهى الذي تتردد عليه وهي في مغتربها، إكتشفت فيه تقارباً عجيباً وذاك المكان الذي كان والدها يصحبها اليه حين تبوأ منصب المحافظا لمدينة طهران الكبرى أيام حكم الشاه. وتلك المكتبة الأمريكية التي إصطفتها دون غيرها، فتحت لها شهيتها لتعود بها الى قاع ذاكرتها. انه الوفاء بعينه لكل من عانها وساعدها في تصويب ومراجعة وتدقيق ما أبدعته.
على النقيض من ذلك وفي اللفتة الثانية التي شدت انتباهي هو ما جاء على الصفحة السادسة والاربعين من ذات الكتاب وبالنص: علمنا أبي ان مقدارا وافرا من الوعي القومي الايراني استند الى الوجدان المناهض للعرب. وكي لا يحدث لبساً أو سوء ظن بما آتي عليه، فإنَّ الرأي الآنف الذكر يجد له تأكيداً وتفسيرا على الصفحة اربعمائة وسبعة عشر، حيث يجري التعامل مع الفتح العربي ودخول الاسلام باعتباره احتلالا، إذ تقول: في بداية الثورة (وتقصد هنا الثورة الايرانية عام 1978) كتب بهرام بيزايي مسرحية شعبية جداً نالت اطراءا نقديا عن موت الملك الأخير للامبراطورية الفارسية يزدجرد، الذي قتله طحان قبيل الغزو العربي لبلاد فارس. وفي ثنايا الكتاب تجد الكثير من تلك الشهادات والإستشهادات المريبة والتي تدفع بدورها الى إثارة الكثير من الأسئلة.
وعلى صلة بما فات ذكره وإرتباطاً به وإنصافاً لها فقد حملت معها آذر نفيسي الى غربتها وأينما حلَّت وارتحلت، ما كان أبوها يروي لها من قصص تمجد تلك البطولات ورجالها الأشاوس الذين تصدوا للظلم وللهمجية، من أجل بناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة. حتى الآن يبدو الأمر طبيعياً فكل الشعوب الحية والتواقة لصناعة مجدها والإرتكازعليه، تجدها مغموسة في قراءة التأريخ وإستخلاص عبره، علها تجد في ذلك ضالتها وتعثر على ما هو نافع ومفيد، تقارع فيه أعدائها ويجعلها تقف صامدة، موحدة بوجه التحديات الخارجية ومقتضيات التطور.
لذلك كله لم يغب عن بالها وعلى الرغم من تواجدها بعيداً عن وطنها مرغمة، من أن تبقىي جذوة الإتصال بكلاسيكيات الأدب الذي تنتمي اليه والذي تجد تعبيراته في ثقافة كافة الشعوب الإيرانيية بشكل عام والفارسي منها بشكل خاص، فتراها بين حين وآخر تستحضر وتستشهد بتلك الثروة وذلك الرصيد الهائل، المتراكم عبر عشرات بل مئات السنين|، ولا بد لها وهي في هذه الحالة من التوقف طويلا على شهنامة الفردوسي وما جاء به من حِكمٍ وتعاليم، تجدها موزونة، مقفاة، تستجيب لتلك المشاعر التي جُبِل عليها مواطني تلك الشعوب. ولا تنسى كذلك أشعار حافظ الشيرازي وسعدي أو فروغ فرخزاده وصادق هدايت أو المثقفين المعاصرين وشخصياتها البارزة التي لفتت إنتباه العالم لمساهمتها ومشاركتها اخوتها من بني البشر. وإن أردنا التذكر وإستحضار مَنْ هو مناسب لذلك فلابد من الوقوف على شخصية شيرين عابدي ودورها الملحوظ داخل المجتمع الإيراني والعالم أجمع، من اجل أن ترفرف حمامات السلام على ربوع العالم، فكانت الأكاديمية السويدية على حق حين منحتها جائز نوبل للسلام.
غير انه وعلى الرغم من المساهمة الإيجابية لتلك الثقافة والدور الذي لعبته في الحضارة الإنسانية، فإنَّ هناك بعض الحقائق التي لابد للمرء من التوقف عندها ويعطيها حقها قدر ما يستطيع. وعوداً على بدأ فمع نجاح الثورة الإيرانية، إستبشرت شعوب تلك الدولة خيراً وإصطفت وتلاحمت ببعضها البعض كالبنيان المرصوص للتخلص من نظام الشاه وبطانيته وتحت راية واحدة، ساهمت في نجاحها كل القوى الوطنية الايرانية وأحزابها وفعالياتها الإجتماعية وكذلك بعض المنظمات التي كانت تقارع النظام المقبور بلا هوادة كمنظمة فدائي خلق ومجاهدي خلق وكذلك حزب تودة.
فيما بعد وكما هو معروف فقد إنحرفت الثورة عن مبادئها وسُرِقتْ من قبل الإسلام السياسي وعلى يد جناحه المتشدد، والذي سيدفع بالكثير من مثقفي إيران ويجبرهم على خوض غمار حرب ضروس، مشروعة، من أجل إستعادة الثورة ومبادءها ثانية ووضعها على خط سيرها الصحيح، والذي كانت قد رسمته من قبل، غير انها لم توفق. المهم ما في الأمر هو ما تلى ذلك من خطاب مُريب، وعلى لسان القابضين على دست الحكم في إيران إتجاه الشعوب الأخرى والذي يُجبرك أن تتلمس منه رائحة من العداء والكراهية والغطرسة والبغض، وبشكل خاص اتجاه الشعوب التي تجاورها والعربية منها على وجه الخصوص.
فما بين الإعتداد والإعتزاز القومي من جهة، وهذا حق مشروع لكل الشعوب التي تريد أن تبني مجدها، وما بين الشوفينية والتعصب من جهة اخرى، تكتشف ان هناك خيطاً رفيعاً أو ضلاً يكاد أن يتماهى وسط خطاب تضليلي، معسول، ليس من السهل إكتشاف كنهه وأهدافه، وما يضمر خلفه كذلك من أحقاد وأهداف، ربما يكون مصدره ذاك الكم المتراكم من العداء التأريخي الذي إعتقدنا بأنه سيتوارى ويختفي تحت راية وقوة الإسلام، بإعتباره ديناً موحداً لكل الأمم، لا فرق فيه بين عربي وأعجمي الاّ بالتقوى والإقتراب من الحق. والمؤسف في الأمر فإنك ستكتشف بإنَّ ذلك الخطاب، ستتقاسمه وتتبناه وتسير على خطاه فئات لا يستهان بدورها وتأثيرها وحجمها داخل المجتمع الإيراني، من مثقفين وقادة أحزاب وسياسيين، يستوي فيها الحاكم والمعارض.
وعودة للتأريخ وتأكيداً على ما فات ذكره، وبعد نجاح الجناح المتشدد في السيطرة على السلطة، إستقبل الخميني في منزل إقامته وفداً عربستانياً، حمل معه بعض المطالب التي إعتقد بأنها مشروعة وستلقي آذاناً صاغية من قبل احد قادتها بل زعيمها المطلق والذي سيسمى فيما بعد بقائد الثورة. تفاجأ الوفد بأن الخميني بدأ يحادثهم باللغة الفارسية، رغم إجادته على ما قيل عنه للغة العربية التي أنزل بها الله قرآنه، ورغم إعتماره للعمة السوداء التي تعطي دلالة لمن يلبسها بإنتسابه للنبي العربي محمد والتي شرَّفَ الله بها العرب لتكون لغة الجنة التي بها يوعدون، بحسب ذات الخطاب الذي يتداوله الإسلاميون أنفسهم في حواراتهم وسجالاتهم.
وعلى ذات الصعيد وكنموذج آخر على طبيعة الخطاب الإيراني وحقيقته وعلى لسان أحد معارضي النظام الحاكم في طهران هذه المرة، فإنَّ ما يصدر من بعض هؤلاء (المعارضين) من آراء ومفاهيم، لا يقل خطورة عن القابضين على دست الحكم، بل تجدهم على إتفاق كامل معهم، يصل في بعض الأحيان حد التطابق، خاصة في القضايا المصيرية والخطيرة، حتى لو أتت على حساب مصالح وصداقات الشعوب الأخرى.
ففي حوار تلفزيوني مع السيد علي نوري زاده، الذي يرأس مركزاً للدراسات الإيرانية العربية، ويقيم في لندن كلاجئ سياسي، بإعتباره معارضاً للنظام في طهران، لم يتورع عن الرد على زميله في الحوار وفي إحدى الندوات التلفزيونية التي دأبت القنوات العربية الفضائية على إقامتها، حين سمى الخليج بالخليج العربي، حيث ردَّ عليه نوري زاده بما معناه بل قل الخليج الفارسي، في الوقت الذي كان من الممكن تمرير العبارة الى وقت آخر أو أن يقترح تسمية اخرى بدلاً من الخوض في هكذا إشكال، فيمكن على سبيل المثال أن يسميه بالخليج الإسلامي، رغم تيقنه بأنَّ خطاباً من هذا النوع سوف لن يلقى رصيداً من الرضا من قبل الجمهور العربي، خاصة ونحن نمر في ظروف بالغة التعقيد والتمترس الطائفي، وما هو مُنتظر ومرسوم لمنطقتنا لهو أشد خطورة إن لم يجر تداركه.
كل الود والتقدير للكاتبة آذر نفيسي وللسيد علي نوري زاده، والنية الحسنة وراء القصد.