23 ديسمبر، 2024 8:48 ص

آدم ليس أول البشر – 8

آدم ليس أول البشر – 8

يخبرنا القرآن الكريم أن الله بعد أن خلق آدم مرَّ بمرحلة ما قبل الإصطفاء والسجود، وهو ما أشار إليه في قوله {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} الحجر29 و ص72، أي أن سجود الملائكة يتحقق بعد أن يكتمل ويستحق مرتبة الاصطفاء وليس قبل ذلك، وتشير بعض الروايات أنه مرَّت عليه أربعون سنة حتى بلغ تلك المرحلة، روى القمي : عن أبي جعفر “عليه السلام” قال : وجدنا في كتاب علي “عليه السلام” (فخلق الله آدم فبقي أربعين سنة مصوراً). تفسير القمي 1 : 41، وأفهم من هذه الرواية خلاف الفهم التقليدي وذلك أن آدم احتاج الى 40 عاماً حتى يكتمل وعيه حسب المعتاد، وهذا ما يذكره القرآن (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) الأحقاف 15، وكونه مصوراً أي هو مجرد صورة إنسان تأكل وتشرب، شأنه شأن من سبقه ممن لم يبلغوا مرحلة الوعي، ولهذا كان اعتراض الملائكة فالبشر الذين أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء كيف يستحقون أن تسجد لهم الملائكة ويكونوا خلفاء في الأرض تنقاد لهم القوانين (عموماً)؟.
وتؤيد هذه النتيجة أن معنى الصورة هي أنه كان إنساناً كامل الخلقة عدة روايات :
((عن الإمام الجواد “عليه السلام” قال : إن الله عز وجل خلق آدم “ع” وكان جسده طيباً وبقى أربعين سنة ملقى تمر به الملائكة، فتقول : لأمر ما خُلقتَ)). الصدوق، علل الشرائع 1 : 275. وابن شهر آشوب، المناقب 3 : 490.
وقال السيد ابن طاووس  : ((ثم جعلها (أي صورة آدم) جسداً ملقى على طريق الملائكة الذي تصعد فيه إلى السماء أربعين سنة)). سعد السعود 34.
((عن هشام عنه عليه السلام : ولما خلق الله آدم قبل أن ينفخ فيه الروح كان إبليس يمر به فيضربه برجله فيدب فيقول إبليس : لأمر ما خلقت)). العياشي 2 : 328. والقمي 1 : 42.
هذه الرواية واضحة في أنه كان خلقاً متكاملاً من ناحية الجسد قبل أن تنفخ فيه الروح، وأما حركات إبليس وأفعاله وأقواله فسنأتي عليها لاحقاً بإذن الله تعالى.
وروي عن رسول الله (ص) رواية مطولة جاء فيها : ((فخلقه بشراً، فكان جسداً من طين أربعين سنة)). الطبري، جامع البيان 1 : 293. والقرطبي، تفسير القرطبي 1 : 280. وابن كثير، تفسير ابن كثير 1 : 80. والسيوطي، الدر المنثور 1 : 47. وابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق 7 : 378. وغيرها.
أما معنى الصورة التي ستردنا كثيراً فمعناها الماهية بأبعادها، ومنه : ((التصاوير : التماثيل)). ابن منظور، لسان العرب 4 : 86.
ويدل على أن التصوير إنما يأتي بعد الخلق أي وجد بعد عدم قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ}الأعراف11. وأفضل ما يمكن تفسير الخلق والتصوير ما جاء في رواية مطولة عن الإمام الباقر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه سأل أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) : ((ما أول نعمة بلاك الله (عز وجل) وأنعم عليك بها؟، قال : أن خلقني جَلَّ ثناؤه ولم أكُ شيئاً مذكوراً. قال : صدقت، فما الثانية؟، قال : أن أحسن بي إذ خلقني فجعلني حياً لا ميتاً. قال : صدقت، فما الثالثة؟، قال : أن أنشأني فله الحمد في أحسن صورة وأعدل تركيب)). فهنا ثلاث مراحل، الأولى : الوجود بعد العدم، الثانية : الوجود الحي وليس الميت كالجماد ونحوه، الثالثة : التصوير في أحسن صورة وأقومها. فهناك صور خسيسة ومتسافلة ومنها صور الحيوان، بالتالي فالوجود المادي متعدد المراتب ومن أفضلها الوجود الإنساني، مع وجود إمكانية أن يكون هذا الوجود اقل مرتبة كالوجود الحيواني.
 وهذه الآية تشير الى أن الإنسان كان مخلوقا مصوراً أي سوي الخلقة ولكنه بعد لم يبلغ الوعي الذي يصلح به لحمل أمانة إعمار الأرض، فإذا سجدت له الملائكة بعد أن نفخت فيه الروح صلح للمهمة. والآية تفسر معنى أن آدم كان مصوراً أربعين سنة.
وهذه الآية تؤكد أن تصوير الإنسان بهذه الخلقة يكون في الأرحام {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}آل عمران6. وفي الآية أعلاه {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ}الأعراف11. نلاحظ التسلسل : خلقناكم، ثم صورناكم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، أي أن مرحلة خلق الإنسان سبقت شكله الحالي، فهو قد مرَّ بعدة مراحل بلغت الملايين من الأعوام حسب ما رأينا في الحلقات الماضية، وأول هذه المراحل خلقه كما باقي الكائنات من ماء ثم طين أو تراب، وهذا التشكيل هو الذي عبَّر عنه القرآن كما في سورة الطارق : {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ{5} خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ{6} يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ{7}، ولكن المفسرون ذهبوا طولاً وعرضاً في فهم معنى الصلب والترائب فمن صلب الرجل الى رحم المرأة أو أضلاعها، والواقع أن الآية واضحة في أن أصل الكائنات ومنها الإنسان خلقت من الماء الذي يخرج من الأرض، ومن الطبيعي أنه يخرج من بين الحجارة الصلبة والترائب جمع تريبة، أي تراب باختصار.
ومن ثم جاء دور التصوير أي هذا الشكل والمادة التي تشكل الإنسان، وبعد أن تم ذلك في الأرحام جاء الدور بعد نضج الإنسان ليصلح لسجود الملائكة له، ولو لم نجد من دلالة على أن هناك بشر سابقين على آدم إلا هذه الآية لكفى بها. بل ربما يفهم منها أن آدم ولد ولادة طبيعية : ((وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ)).
والآيات : {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ{6} الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ{7} فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ}الانفطار، وهذه الآية تدل على إمكانية أن يكون الإنسان بصورة أخرى كالحيوان أو غيره. بمعنى أن هناك صلة أو علاقة شكلية أو مادية بين الإنسان وغيره من الحيوانات، بل هناك اتفاقات بين الانسان وكل الموجودات على الأرض، وهذا مفهوم حسب القرآن أيضاً عندما ذكر أن كل الكائنات الحية على الأرض تعود إلى أصل واحد مشترك : {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}الأنبياء30. وهذا يوضح لنا بعض الآيات التي نتصور غرابتها لأول وهلة مثل : {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ}المائدة60. وقوله : {وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً{49} قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً{50} أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً{51}. الإسراء، فمن الممكن أن يكون الوجود منحطاً كالقرد أو الخنزير، باعتبار أن المادة المكونة للكائنات الحية متشابهة الى حدٍّ بعيد، أو يكون خلقاً آخر من الجمادات وهي أيضاً تشترك مع الإنسان في العناصر الأساسية المكونة للمادة.
قال العلامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية : (( والمعنى : قل لهم ليكونوا شيئاً أشد من العظام والرفات حجارة أو حديداً أو مخلوقاً آخر من الأشياء التي تكبر في صدورهم ويبالغون في استبعاد أن يُخلق منه الإنسان)). الميزان في تفسير القرآن 13 : 116.
والشيخ ناصر مكارم الشيرازي : ((من الواضح أن العظام بعد أن تندثر وتتلاشى تتحول إلى تراب، والتراب فيه دائما آثار الحياة، إذ النباتات تنمو في التربة، والأحياء تنمو في التراب، وأصل خلقة الإنسان هي من التراب، وهذا كلام مختصر على أن التراب هو أساس الحياة. أما الحجارة أو الحديد أو ما هو أكبر منهما تحدى به القرآن منكري المعاد، فإن كل هذه أمور بينها وبين الحياة بون شاسع، إذ لا يمكن للنبات مثلا أن ينبت في الحديد أو الصخور أما القرآن فيبين أن لا فرق عند الخالق جل وعلا، من أي مادة كنتم، إذ أن عودتكم إلى الحياة بعد الموت تبقى ممكنة، بل وهي المصير الذي لابد وأن تنتهوا إليه. إن الأحجار تتلاشي وتتحول إلى تراب، وأصل الحياة ينبع من هذا التراب. الحديد هو الآخر يتلاشى ويتفاعل مع باقي الموجودات على الكرة الأرضية ليدخل في أصل مادتها وفي تركيبها الترابي الذي هو أيضا أصل الحياة الذي تنبع من داخله ومن مادته الموجودات الحية. وهكذا تحتوي جميع موجودات الكرة الأرضية بما فيها الإنسان، في بنائها وتركيبها على خليط من الفلزات واللافلزات. وهذا التحول والتغير في حركة الموجودات، دليل على أن جميع مخلوقات عالم الوجود لها قابلية التحول إلى موجود حي باختلاف واحد يقع في الدرجة والمرحلة، إذ بعضها يكون في مرتبة أقرب إلى الحياة مثل التراب، بينما بعضها الآخر يكون في مرتبة أبعد مثل الحجارة والحديد)). الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل 9 : 24 ــ 25.
وهذه جملة من آراء المفسرين من الفريقين :
الطبرسي : ((وقيل : في أي صورة ما شاء من صور الخلق ركبك، إن شاء في صورة إنسان، وإن شاء في صورة حمار، وإن شاء في صورة قرد، عن عكرمة، وأبي صالح. وقال الصادق (عليه السلام) : لو شاء ركبك على غير هذه الصورة. والمعنى أنه سبحانه يقدر على جعلك كيف شاء، ولكنه خلقك في أحسن تقويم حتى صرت على صورتك التي أنت عليها، لا يشبهك شيء من الحيوان)). مجمع البيان في تفسير القرآن، 10 : 287.
مقاتل بن سليمان : ((يعنى لو شاء ركبك في غير صورة الإنسان)). تفسير مقاتل بن سليمان 3 : 458.
الطبري : ((إن شاء في صورة كلب، وإن شاء في صورة حمار. وعن عكرمة، في قوله : في أي صورة ما شاء ركبك، قال : إن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير)). جامع البيان 30 : 109.
((قال صلى الله عليه وسلم : إن شاء في صورة إنسان، وإن شاء في صورة حمار، وإن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة كلب، وإن شاء في صورة خنزير)). تفسير الثعلبي 10 : 147، وتفسير البغوي 4 : 456. وتفسير القرطبي 19 : 249. وتفسير ابن كثير 4 : 514. والسيوطي، الدر المنثور 6 : 323. وغيرها من التفاسير ومصادر الحديث النبوي.
وتشير آيات أخرى الى أن هناك مشتركات بين الإنسان وغيره من الحيوانات أو الكائنات الأرضية عموماً، وهي مرتبطة بما سبق خاصة قوله تعالى {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ }الانفطار8 ، و{قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً{50} أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ….{51} الإسراء.
وهذه الآيات هي :
{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ{60} عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ{61} وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ} سورة الواقعة. وقال المفسرون في تفسير هذه الآيات :
((قوله [عز وجل] : (وننشئكم في ما لا تعلمون) وفيه أربعة أقوال : أحدها : نبدل صفاتكم ونجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم، قاله الحسن. والثاني : ننشئكم في حواصل طير سود تكون ب‍”برهوت” كأنها الخطاطيف، قاله سعيد بن المسيب. والثالث : نخلقكم في أي خلق شئنا، قاله مجاهد. والرابع : نخلقكم في سوى خلقكم، قاله السدي. قال مقاتل : نخلقكم سوى خلقكم في ما لا تعلمون من الصور. قوله [عز وجل] : (ولقد علمتم النشأة الأولى) أي وهي ابتداء خلقكم من نطفة وعلقة (فلولا تذكرون) أي : فهلا تعتبرون فتعلموا قدرة الله فتقروا بالبعث)). ابن الجوزي زاد المسير 7 : 289.
 ((وننشئكم في ما لا تعلمون )، قال : في أي خلق شئنا)). ابن حجر، تغليق التعليق 4 : 5.
 ((وننشئكم في ما لا تعلمون)، من الصور كالقردة والخنازير)). تفسير شبر 501.
((وننشئكم في ما لا تعلمون)، يعني ونخلقكم سوى خلقكم من الصور فيما لا تعلمون من الصور مثل القردة والخنازير)). تفسير السمرقندي 3 : 374.
 (وننشئكم فى ما لا تعلمون)، فيه للعلماء أقوال متقاربة. قال بعضهم : ننشئكم بعد إهلاككم فيما لا تعلمونه من الصور والهيئات، كأن ننشئكم قردة وخنازير، كما فعلنا ببعض المجرمين قبلكم)). الشنقيطي 7 : 531.
نلاحظ الاتفاق على أن من الممكن أن يكون الإنسان في مرحلة ما كائناً آخر، هذا ما قد يحدث بعد تطور ربما بعد ملايين الأعوام، وهذا ما سنتحدث عنه لاحقاً بإذن الله تعالى، وسوف نعلم أننا سنعود إلى خلقتنا الأولى ومن ثم التلاشي في مرحلة ما، ولكن نلتفت إلى قوله تعالى أعلاه
(ولقد علمتم النشأة الأولى)، أليس من الواضح صلته بالآية التي سبق أن عرضنا تفسيرها : {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ}الشعراء184، وعرفنا هناك أن الجبلة هم أسلاف الإنسان ما قبل الوعي، فمن الراجح جداً أن النشأة الأولى هي الجبلة الأولين، ومن المؤكد أن كلا الآيتين أو المفهومين مرتبطان بقوله تعالى : {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }ق15، فالنشأة الأولى والجبلة الأولين والخلق الأول تعني شيئاً واحداً، وهو من دون شك مرتبط بالخلقة الأولى للإنسان قبل أن يصل الى (أحسن تقويم) جسداً وعقلاً ووعياً، وكل الخطاب في هذه الآيات الثلاث موجه للإنسان ليذكره بتقلبات أحواله منذ القدم.
ولا يمكن القول أن القصد بها غير الإنسان، لأن النشأة الأولى ذكرت في عرض (وننشئكم في ما لا تعلمون)، أما من يحتج بأن النشأة الأولى تعني نشأة الإنسان من السائل المنوي وتكوين الجنين فهذا مردود بأن الآية السابقة (وننشئكم في ما لا تعلمون) صريحة بأن النشأة هي خلق آخر مختلف كلياً عن الخلقة الحالية للإنسان، والنشأة هي الإيجاد والإبداع وليس المتسلسل، كما أن القول إن الإنسان متكون حصراً من السائل المنوي للذكر أصبح من الماضي بعد الاستنساخ البشري الذي أثبت أن من الممكن أن يتكون الانسان من بويضة المرأة ونواة الخلية من دون الحاجة الى السائل المنوي الذكري.
أما الاحتجاج بقوله (علمتم) وأنها تدل على المعرفة بكيفية النشأة بالتالي فإن القصد منها المتعارف عندهم من كيفية نشأة الجنين ونموه، فهذا أيضاً مردود، فقوله (علمتم) لم ترد بخصوص المعرفة الواقعية، وإنما هي على غرار  {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }البقرة65، و  {قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ }يوسف73، و {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }البقرة102، ففي كل هذه الآيات لم يكن هناك علم بمعنى اليقين، وإنما يتحدث القرآن وينقل الحوارات بمعانيها الواقعية وليس بالنص الحرفي، وهذا ينبغي أن يكون متسالماً عليه، خاصة أن الأمم التي يتحدث عنها القرآن لم تكن تتحدث العربية، ومن المهم الالتفات أن لغة القرآن ليست لغة فقهية أو عرفية، وإنما هو خطاب أعلى من هذين القسمين، أي لغة الواقع الذي يروي الحدث بلغة مفهومة محددة، وليس الغرض نقل الحوارات اللفظية، وهذا ما سيتضح لنا في الحوار بين الله تعالى والملائكة من ناحية، وبينه وبين إبليس من ناحية أخرى، وغيرها من الأحاديث التي سنعرف أنها حوارات تكوينية بين كائنات ليس لها أصوات كما في تسبيح الملائكة والأرض والسماء والشجر والحجر مما أوضح القرآن أننا لا نفقه تسبيحهم، فيكون معنى قوله (علمتم) بالمعنى الواقعي أو الغيبي الذي يخاطَب به الآخر على وفق العلم الذاتي للمتكلم الذي ينبغي أنه صادق فيما يقول بناء على مقدمات واضحة عند الآخر، ومن هنا كان الأنبياء يتحدثون بلغة الواقع الذي تم إنكاره من قبل الآخرين مع أنهم يسلمون بمصداقية الأنبياء ولكن عظمت عليهم الوقائع التي اعتبروها غيبية. كما أن قوله (فلولا تذكرون) توضح المعنى أي أنكم لو كنتم تتذكرون تلك النشأة الأولى لعلمتم كيف كنتم، بالتالي انتفى الإشكال.
والتقيكم في حلقة قادمة إنشاء الله تعالى.