23 ديسمبر، 2024 9:01 ص

آدم ليس أول البشر – 6

آدم ليس أول البشر – 6

أشرنا فيما سبق إلى أن آدم هو الإنسان الواعي الذي انتقل الى الطور الذي سيمهد لإنشاء الحضارة في الأرض، وهذا هو معنى الاستخلاف الذي أشار إليه القرآن في قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} البقرة30، والتي تعني أن الله تعالى اختار آدم ليكون خلفاً لمن كان قبله والذين وصفوا بالفساد أي الفوضى، إذ إن معنى “خليفة” أنه يتلو من كان قبله في تولي زمام الأمور، ولا تعني بالضرورة السلطة بالمعنى المعروف، وإنما مهمة الخلافة هو تأسيس نظام لحياة مدنية ويتسيد بها العالم، وهو يعني أيضاً وجود أقوام سابقين أصبح آدم خليفة لهم في الإستيطان والسكنى في موضع معين، كما في قوله تعالى : {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} ص26، وقوله : {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} الأنعام165، و : {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} يونس14، وهي واضحة الدلالة في كون الاستخلاف والخلافة تكون بعد زوال سيطرة آخرين سابقين. وقوله : {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} يونس73.
ولكن قد يفهم مما سبق أن آدم أول من نطق باعتبار أنه أول بشر حسب الفهم الكلاسيكي، وأن من سبقه كانوا مجردين من أي مستوى يتفوق على المجتمع الحيواني الصرف، والحقيقة إن الأمر ليس كذلك، فإن آدم لم يخرج مصادفة ولم يكن من سبقه عديمي الوعي تماماً، ويمكن أن نقيسه على أي نبي أو مصلح متميز في باقي العصور، فمثلاً عندما نتحدث عن نبوة موسى فهو قد جاء الى بني إسرائيل الذين ابتعدوا كثيراً عن آبائهم الأوائل، وصاروا مندمجين في المجتمع المصري وعاداته وعباداته، فلذلك لم تترسخ عندهم العقيدة بين ليلة وضحاها، فهو بمجرد أن قام برحلته الى طور سين في الجنوب التي استغرقت 40 يوماً حتى عبدوا العجل، لأنهم لم يكونوا بعد على مستوى فهم العقيدة التي كان يريدها لهم، ونموذج آخر هو النبي محمد (صلى الله عليه وآله) فإن قومه كانوا على جاهلية مطلقة، وفي نفس الوقت كانوا المجتمع المثالي لمجيء هذه الرسالة الجديدة، أي أن النبي والمصلح هو نتاج بيئته وتوجد بينهم مفاهيم مشتركة يختلفون في تأويلها، وبخصوص آدم فمن الصحيح أنه كان مسبوقاً بأجيال لها نسبة معينة من الوعي والإدراك الذي يتناسب مع الإنسان ولكنه وعي طفولة تطور بمرور الزمن، يقول برستيد : ((ونحن نعرف عن بعض الحيوانات قدرتها على مسك العصا أو قطعة من الحجر واستعمالها كآلة في يدها، ولا شك أن السلف من أجدادنا الذين عاشوا في أقدم عصور الإنسانية فعلوا ذلك أيضاً، ولكن هؤلاء السلف الأوائل خطوا خطوة إلى الأمام وكانت خطوة أساسية لم يستطع غيرهم من المخلوقات أن يخطوها. لاحظ الإنسان أن حجره الذي التقطه من الأرض لم يكن ملائماً ملائمة تامة لغرضه، لقد فحص شكله ولم يرض عنه، وعدم الرضرا عامل مهم في التقدم بل أساسي له. وهكذا ربما خطر لأحد الرجال البدائيين والذي كانت لديه موهبة التفكير أكثر من غيره أن يضرب حجراً بآخر، وهكذا تمكن من تحسين شكل الحصاة التي التقطها وجعلها أكثر ملائمة للغرض الذي أراد أن يستعملها فيه، وبهذا صار أول المخلوقات التي صنعت الأدوات. وأصبح مخلوقاً يستعمل ذكاءه لا لسد جوعه بما يجده من مواد غير حية فحسب بل يستعمل ذكاءه أيضاً لتشكيل بعض أنواع الجماد لتصبح أدوات تساعده كثيراً في السيطرة على دنياه التي حوله وما فيها من كائنات حية أو غيرها)). جيمس هنري برستيد، إنتصار الحضارة 10، ترجمة : أحمد فخري، المركز القومي للترجمة، القاهرة ــ 2011.
 ومن أهم ما يلفت نظرنا في قصة آدم القرآنية أنه لم يكن وحده يعلم الأسماء (التي سنأتي على تفصيلها) بل إن حواء هي الأخرى كانت تعلمها وتعيها وبينها وبين آدم لغة مشتركة، وعادات مشتركة، وهذا يعني أنهما مسبوقان بجملة من المفاهيم للأقوام الذي سبقوهما أو عاصروهما، ولكن آدم كان أعلى أشكال هذا الوعي والنقلة، وحسب تعبير برستيد أعلاه (كانت لديه موهبة التفكير أكثر من غيره)، لذا عندما قلنا سابقاً أن آدم يمثل الإنسان الذي انتقل من عصر الصيد والإلتقاط إلى عصر الثورة الزراعة وتدجين الحيوانات الأليفة، ليس معنى ذلك أنه أول من مارس الزراعة أو تدجين الحيوانات أو معرفة السلوك المتناسب مع الإنسان كتغطية العورة، وإنما من المؤكد أن أجيالاً قد سبقته بالتدريج إلى بعض هذه المفاهيم، ولكن بشكل بدائي غير منتظم، وأهم ما يميز آدم أنه مصطفى ومختار (منتخب) لانتقالة مهمة في تأريخ البشرية، ومن المؤكد أن الحضارات لم توجد إلا بعد تاريخ آدم، نعم قد تكون استغرقت عدة مئات من الأعوام وهذا طبيعي، ولكن المهم هو أنها لم توجد إلا من بعده، ومن أهم ما يلفت النظر في فترة آدم وجود الدين كما قلنا سابقاً وبشكله البدائي، والدين من أهم مرتكزات الحضارة فمن المعبد انطلقت أول القوانين التي تنظم حياة المجتمع، ومنه خرجت أول حروف الكتابة التي هي أعظم اكتشاف على الإطلاق، ولكننا لا نعرف عن طبيعة دين آدم وطقوسه سوى تقديم القرابين الذي عرفناه من خلال قصة هابيل وقابيل، وأرجح أن الدين بهذا الشكل البسيط ربما كان موجوداً قبل آدم ولكنه وكلما تقدمنا في الزمن سنجده أبسط من ذلك بكثير حتى نصل الى مرحلة التلاشي، وحسب إحدى الروايات التي مرَّت بنا فإن عصر الدين يعود الى ما قبل آدم بألفي سنة، وأرجعت الرواية موقع هذا الدين الى الجزيرة العربية، ولكن نؤكد مرة أخرى أنه ليس ديناً معتداً به وإنما يرجح أنه كان مجرد اتخاذ رمز بدائي لغرض ما، ربما لم يكن ذلك الانسان يعيه، ولكنه استأنس به أو لاذ به خشية من بعض الظواهر الطبيعية، فتحول إلى رمز ديني مع الوقت وجاءت الديانة الحنيفية لاحقاً لتجعل منه مركزاً أساسياً للدين.
((عن الإمام الصادق (عليه السلام) : أمر الله عز وجل إبراهيم (عليه السلام) أن يحج ويحج إسماعيل معه ويسكنه الحرم، فحجا….. فلما كان من قابل أذن الله لإبراهيم (عليه السلام) في الحج وبناء الكعبة. وكانت العرب تحج إليه، وإنما كان ردما إلا أن قواعده معروفة، فلما صدر الناس جمع إسماعيل الحجارة، وطرحها في جوف الكعبة، فلما أذن الله له في البناء قدم إبراهيم (عليه السلام)، فقال : يا بني، قد أمرنا الله ببناء الكعبة. وكشفا عنها، فإذا هو حجر واحد أحمر، فأوحى الله عز وجل إليه : ضع بناءها عليه….)). الكليني 4 : 203. الصدوق، من لا يحضره الفقيه 2: 232. وهذا النص يؤكد لنا أن البيت قبل إبراهيم كان عبارة عن ردم أي كومة من الحجارة، ونلاحظ هذا مكرراً عند بعض الأنبياء الذين كانوا يتخذون بعض الرموز من كومة من الحجارة كما فعل يعقوب :
تكوين 31 : 45 ــ 49: ((فأخذ يعقوب حجراً ونصبه عموداً، وقال لأقربائه : اجمعوا حجارة. فأخذوا الحجارة وجعلوها رجمة وأكلوا هناك فوقها. ودعاها لابان يجر سهدوثا (ومعناها : رجمة الشهادة بلغة لابان) وأما يعقوب فدعاها جلعيد (ومعناها : رجمة الشهادة بلغة يعقوب). وقال لابان : هذه الرجمة شاهدة اليوم بيني وبينك. لذلك دعي اسمها جلعيد. وكذلك دعيت بالمصفاة أيضا لأنه قال : ليكن الرب رقيباً بيني وبينك حين يغيب كل منا عن الآخر)).
وهذه الرمزية البدائية كانت ولا شك متناسبة مع الدين في ذلك الوقت، حتى جاء عصر إبراهيم، الذي لم يأت الى مكة مصادفة وإنما لذكرى قديمة مقدسة بقيت منذ أبيه آدم وربما أقدم من ذلك بكثير.
يقول السيد الصدر : ((معنى البيت العتيق يمكن ان يكون مأخوذاً من العتق بمعنى الحرية، لأنه ليس ملكاً لأحد غير الله سبحانه كما يمكن أن يكون مأخوذاً من العتق وهو التقادم لأنه مبني في الزمن القديم جداً، على ما سوف نذكر…… وفي خبر آخر عن أبي جعفر قال : قلت له : لم سمي البيت العتيق؟، قال: لأنه بيت حر عتيق من الناس ولم يملكه أحد)). الصدر، ما وراء الفقه 2 : 200. دار الأضواء ــ بيروت 1993.
وقال : ((الأمر الأول: ما ورد من أن الله تعالى خلق ألف ألف آدم وألف ألف عالم. وليس آدمنا هو الأول ولن يكون هو الأخير. الأمر الثاني : ما ورد من دحو الأرض من تحت البيت وأن البيت هو الأصل في خلقة الأرض. الأمر الثالث : قوله تعالى : إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، بحيث نفهم من (الأول) ما كان في أول الخلقة على وجه الأرض. فينتج أن الكعبة بنيت من أول ذرية عاقلة وحَّدت الله على وجه الأرض. واستمرت تتجدد مرة بعد مرة)). الصدر، المصدر السابق 2 : 206.
ذكرنا فيما مضى أن الزمن الذي عاش فيه آدم يمتد الى 7,200 قبل عصر الإمام جعفر بن محمد الصادق، الذي ذكر لنا هذا التاريخ، كما في الرواية التي وردت عنه : ((ثم بدا لله فخلق آدم وقدر له عشرة ألف عام، وقد مضى من ذلك سبعة ألف عام ومائتان)). العياشي 1 : 31 ــ 32.
وعلينا أن نرجع هذا التاريخ القمري الى التاريخ الشمسي (الميلادي)، حيث أن المعدل هو نقصان السنة القمرية عن الشمسية أحد عشر يوماً للسنة الواحدة، فنحصل على تاريخ تقريبي هو 6,983 سنة، ننقص منها 750 سنة، باعتبار أن الإمام الصادق ولد سنة 699م وتوفي سنة 765م، فيكون تاريخ وجود آدم حسب هذه الرواية هو 6,233 قبل الميلاد، ومن المثير أن هذا التأريخ الذي ذكره الإمام الصادق متوافق مع التاريخ العلمي الذي يذكره علماء الآثار والتاريخ القديم كما تقول “سينثيا ستوكس براون” وهي أستاذة في التربية والتاريخ في جامعة الدومينيكان بكاليفورنيا : ((من المثير أن الزراعة نشأت بصورة مستقلة في أربعة أماكن على الأقل وربما في سبعة أماكن حول العالم في نطاق زمني مقداره 8,000 سنة فقبل 10,000 سنة (8,000 ق.م) كان الناس يعيشون عملياً على الغذاء البري. وبحلول 2,000 سنة مضت “أي سنة 6,000 ق.م” صارت الأغلبية الساحقة من الناس تعيش على الزراعة. وإذا ما نظرنا إلى هذه الثمانية آلاف سنة على ضوء الخمسة ملايين وهي تاريخ نشأة أشباه الإنسان، أو حتى المئة ألف أو مئتي ألف سنة منذ ظهور الهوموسابينز (أحد أنواع الإنسان)، فإنها تمثل معدل تغير بالغ السرعة، بلغ من سرعته أن المؤرخين يطلقون عليه الثورة الزراعية، وهي تحول مصيري في تأريخ البشر)). تاريخ الأحداث الكبرى 125، ترجمة : أيمن توفيق، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2010، القاهرة. وسنأتي على تفاصيل أخرى مهمة حول الزراعة وتدجين الحيوانات وغيرها من مختصات البشر العاقل عند الحديث عن جنة آدم.
وعندما نقول أن آدم هو أبو الحضارات في الشرق الأدنى فنحن لا نتعدى أو نجازف في ذلك، فمن المؤكد أن لكل أمة وحضارة كان هناك شخص ما، شخص متميز، قام بالانطلاقة الأولى أو الفكرة الأساسية، ومنها أخذت أسرته أو قبيلته أو مجتمعه في التوسع والابتكار، فعندما نأتي على تأريخ المدينة الأولى فليس من الغريب الآن بعد هذه المقدمات أننا نجد أنفسنا في وقت واحد أو متقارب جداً لنشوءها في البلدان التي احتضنت أقدم الحضارات، تقول براون ((نشأت المدن الأولى متزامنة تقريباً حوالي 3,500 ق.م. في وديان الأنهار في أربع مناطق إفرو ــ أوراسيا، وهي أقدم القارات التي سكنها البشر، وظهرت تلك المدن المبكرة في وديان دجلة والفرات في جنوب العراق، وفي وادي النيل، وفي وادي الإندوس في باكستان/الهند، وبعدها بقليل نشأت في وادي النهر الأصفر (نهر هوانج) في الصين. وبعد ذلك نشأت مناطق حضرية في الأمريكتين، بدءاً من الأولمك في المكسيك حوالي 1,300 ق.م. ثم مجموعات في جبال الأنديز حوالي 900 ق.م.)). المصدر السابق 154. وأنظر أيضاً طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ج1 وج2، منشورات دار البيان ــ بغداد، الطبعة الأولى 1973.
جيمس بيكي، الآثار المصرية في وادي النيل ج1.
ف.دياكوف / س.كوفاليف، الحضارات القديمة ج1، مطابع سجل العرب، القاهرة ــ 1993.
الموسوعة الآثارية العالمية، تأليف نخبة من العلماء، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية 1997. وغيرها من المصادر.
الخلاصة : أن النص الديني والآثاري يتفقان أن الإنسان الذي عاش في الفترة ما قبل 6,000 قبل الميلاد هو أول من مارس الزراعة، وأنه كان الأب لمؤسسي الحضارة وأولى نشأة المدينة، وأقدم من تعرف إلى الدين كشأن أساسي في الحياة، وفي القوت الذي يقول في الدين أن هذا الإنسان هو آدم، لا يمتلك علم الآثار حسب ما في أيدينا من الوثائق اسماً محدداً نعم عرف ألواح بلاد الرافدين اسماً لبطل اسطوري قديم هو (آداب)، فربما كان هذا هو ذاك ونترك إيجاد الصلة إلى مناسبة أخرى، إن شاء الله تعالى.