يحدثنا القرآن الكريم أن الله تعالى حينما أمر الملائكة بالسجود لآدم بدا منهم استغراب المتضمن للرفض، وهذا الاستغراب ناتج من كونهم المتسلطون والقادرون على إدارة العالم الأرضي كونهم القوانين المسيرة له، فلنستمع للنص أولاً ثم نرى مبررات الرفض ومن ثم تبين هذه القوى عجزها أمام السيد الجديد :
((وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ*وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ*قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)). البقرة 30 ــ 33.
نلاحظ : أن أمر السجود لم يتحقق بمجرد صدوره، بعد أن احتجت الملائكة أن هذا الكائن الذي أفسد في الأرض عبر فوضويته التي امتدت ملايين الأعوام لا يمكن أن يصلح للخلافة وإعمار الأرض وتسيير شؤونها، ولكن الملائكة أو القوى الطبيعية فاتها أنها لا تعلم كل أسرار الأرض، فعرضت عليهم الأسماء حسب اصطلاح القرآن، والأسماء ليس المقصود منها اللفظ مجرداً، وإنما طبيعة عمل المسميات، فالتراب فيه عدة فوائد كما أنه يحتوي على عدة معادن، والقوى الطبيعية غير قادرة على الاستفادة من هذه المكونات في إعمار الأرض، كما أنها غير قادرة على زراعة الأرض المجدبة التي لا تهطل فيها الأمطار، ولكن الإنسان قادر على ذلك، فهو يستطيع استصلاح الأرض، وجلب المياه إليها حتى لو كانت في مناطق مرتفعة عن مستوى الأنهار، وهكذا يدخل في هذا السياق كل مكونات الأرض، وبعد أن أجابت تلك القوى (تكويناً) أي أنها بعد مرور عدة مليارات من الأعوام على الأرض لم تستطع أن تسخر أو تستفيد من هذه المكونات الكثيرة، وإنما سارت وفق قوانينها التي هي عمياء ونمطية ولا تتخلف إلا في حالات الاستثناء والاتفاق، أي غير مقصودة من قبلها، فإذا ما رأينا في يوم ما نتاجاً للطبيعة يحتوي على على عدة تراكيب ينتج مكوناً جديداً كالبرونز المتكون من معدني النحاس والقصدير، فمثل هذا المعدن لا يعني أن الطبيعة قصدته وإنما شاءت المصادفة ذلك (بمستوى من مستويات الفهم)، وحتى لو فعلت فهي غير قادرة على تشكيله بأشكال مختلفة وصناعة أدوات متنوعة كالسيوف والأواني وما إليها، وقبل أن يتم هذا الحوار التكويني كما أسلفنا، فإن الإنسان كان قد قطع أشواطاً خلال أجيال معينة، أو خلال جيل واحد وهو جيل (آدم) الذي عرفنا فيما سبق أن رحلته نحو الوعي استغرقت 40 عاماً، ومن ثم (أنبئهم آدم بالأسماء) أي حقيقة عمل تلك الأشياء وتسخيرها، كما أنه عرف كيف يدجن الحيوانات المفيدة له وجعلها تأتلف فيما بينها. وقبل أن نستعرض النصوص الخاصة بهذا الحديث، يرد اعتراض من قبل البعض أن هذه الأسماء لكائنات عاقلة بدلالة قوله (ثم عرضهم) وقوله (أنبئوني بأسماء هؤلاء)، والضمير (هم) في (عرضهم) و (هؤلاء) لا تطلق على غير العاقل، وهذا غير صحيح، فإن قواميس اللغة والنحو جاءا متأخرين عن عصر النص، وقد فرض النحاة واللغويون قواعدهم على فهم القرآن بشكل متعسف في كثير من الأحيان، فقوله (عرضهم) ورد ما يدل على أنه يقصد به غير العاقل كما في قوله تعالى : (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). النور45. فقد فقوله (فمنهم) راجع الى (كل دابة) بالتالي يصح لغير العاقل، ووردت في آية أخرى أكثر وضوحاً وهو قول إبراهيم لقومه بعد أن حطم التماثيل : (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ). الأنبياء63. فقوله (كبيرهم) و (فاسألوهم) عائد الى التماثيل، بالتالي يصح عودة الضمير (هم) لغير العاقل.
ومع ذلك فإن قراءة (ثم عرضهم) ليست نهائية فقد وردت بصيغة (ثم عرضها) و (ثم عرضهن)، وهما قرائتان لأُبي بن كعب وعبد الله بن مسعود. أنظر رسائل المرتضى 3 : 113 وتفسير التبيان، الطوسي. 1 : 141. والطبري، جامع البيان 1 : 311. وتفسير ابن كثير 1 : 76. وغيرها من المصادر.
أما قوله (هؤلاء) فقد وردت في القرآن في مورد آخر لغير العاقل في قوله تعالى : (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ). الأنبياء65، فـ(هؤلاء) هنا تعود للتماثيل، وكذلك قوله : (لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ). الأنبياء99.
نستعرض الآن بعضاً من النصوص وآراء المفسرين حول تفسير هذه الآيات :
((عن أبي العباس، عن أبي عبد الله “عليه السلام” قال : سألته عن قول الله : “وعلم آدم الأسماء كلها” ماذا علَّمه؟، قال : الأرضين والجبال والشعاب والأودية، ثم نظر إلى بساط تحته فقال : وهذا البساط مما علمه)). العياشي 1 : 32.
وكما قلنا سابقاً فليس القصد هو مجرد تعلمه اللفظ، فإن لغة آدم لا نعلم حقيقتها حتى الآن، ولعل الأقرب أنها اللغة الأكدية، ومع ذلك، فإن قول الإمام الصادق إنه تعلم أسماء الجبال والأرضين والبساط، أي أطلق عليها ألفاظاً محددة وعرف ما تعنيه، وأما قوله (البساط مما علمه) أي أنه عرف كيف يعمل بساطاً بأي شكل كان، من الحصير أو صوف الحيوان.
((عن الفضل بن عباس، عن أبي عبد الله “عليه السلام” قال : سألته عن قول الله عز وجل : “وعلم آدم الأسماء كلها” ما هي؟، قال : أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض)). المصدر السابق 1 : 32 ــ 33.
((عن داود بن سرحان العطار قال : كنت عند أبي عبد الله “عليه السلام” فدعا بالخوان فتغدينا، ثم جاؤوا بالطشت والدست سنانه، فقلت : جعلت فداك : قوله : “وعلم آدم الأسماء كلها” الطست والدست سنانه منه؟، فقال : الفجاج والأودية. وأهوى بيده كذا وكذا)). المصدر السابق 1 : 33. نلاحظ أن الإمام لم يجبه بالايجاب على سؤآله، فالطست والدست سنان (إناء معد لغسل اليد) لم يعرفها آدم وجيله بعدُ في زمنه، ولكن الإمام يأخذ بنظر الاعتبار المستوى البسيط لمعظم السائلين، فلا يفصِّل في الجواب أحياناً كثيرة، ولكنه أجاب كما هو الواقع من دون أن يتعرض لمفردات السؤآل. وكما قلنا سابقاً فإن المهم في نظر الإمام هو أن ينقل الرواة تفسيرهم الواقعي في مقابل التفاسير العشوائية والانتقائية لمعاصريهم وغير معاصريهم.
وهذه جملة من آراء المفسرين :
قال الميرزا محمد المشهدي (المتوفي سنة 1125 هـ) وهو من علماء الشيعة الإمامية :
((فإن العلم بالألفاظ من حيث الدلالة متوقف على العلم بالمعاني. والمعنى : أنه سبحانه أراه الأجناس التي خلقها، وألقى في روعه : أن هذا فرس، وهذا اسمه بعير، وهذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية)). تفسير كنز الدقائق 1 : 225.
((“أنبئوني بأسماء هؤلاء” : الإنباء إخبار فيه إعلام، فطلب العالم الإنباء بما يعلمه تحصيل للحاصل، وأمر الجاهل بالإنباء بما يجهله تكليف بما لا يطاق، فالأمر هنا ليس على حقيقته، بل لإظهار عجزهم من أمر الخلافة، فإن الجاهل بأحوال المستخلف عليهم لا يتأتى منه ذلك)). المصدر السابق 1 : 227.
وقال ابن حمزة الطوسي المتوفي سنة 560 هـ : ((أنه سبحانه وتعالى علم آدم الأسماء كلها وألهمه معانيها، ثم قال للملائكة (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) فلما عجزوا واعترفوا، قال لآدم “عليه السلام” (أنبئهم بأسمائهم) فلما عرفت الملائكة فضيلته وأيقنوا برتبته، أمرهم بالسجود تكرمة له)). الثاقب في المناقب 191.
وقال الشيخ الطوسي : ((“وعلم آدم الأسماء كلها ” معناه أنه علمه معاني الأسماء، من قبل أن الأسماء بلا معان لا فائدة فيها، ولا وجه لإيثاره الفضيلة بها وقد نبَّه الله الملائكة على ما فيه من لطيف الحكمة، فاقرُّوا عندما سُئلوا عن ذكرها والإخبار عنها أنهم لا علم لهم بها، فقال : “يا آدم أنبئهم بأسمائهم”)). التبيان في تفسير القرآن 1 : 138.
وقال الشيخ أمين الدين الطبرسي : ((“وعلم آدم الأسماء” أي علمه معاني الأسماء، إذ الأسماء بلا معان لا فائدة فيها ولاوجه لإشادة الفضيلة بها، وقد نبه الله الملائكة على ما فيها من لطيف الحكمة فأقروا عندما سئلوا عن ذكرها والإخبار عنها أنه لا علم لهم بها، قال الله تعالى : “يا آدم أنبئهم بأسمائهم” عن قتادة، وقيل : إنه سبحانه علمه جميع الأسماء والصناعات وعمارة الأرضين والأطعمة والأودية واستخراج المعادن وغرس الأشجار ومنافعها وجميع ما يتعلق بعمارة الدين والدنيا، عن ابن عباس ومجاهد و سعيد بن جبير وعن أكثر المتأخرين، وقيل : إنه علمه أسماء الأشياء كلها ما خلق وما لم يخلق بجميع اللغات التي يتكلم بها ولده بعده، عن أبي علي الجبائي وعلي بن عيسى وغيرهما، قالوا : فأخذ عنه ولده اللغات فلما تفرقوا تكلم كل قوم بلسان ألفوه واعتادوه، وتطاول الزمان على ما خالف ذلك فنسوه، ويجوز أن يكونوا عالمين بجميع تلك اللغات إلى زمن نوح على نبينا وآله وعليه السلام، فلما أهلك الله الناس إلا نوحاً ومن تبعه كانوا هم العارفين بتلك اللغات، فلما كثروا وتفرقوا اختار كل قوم منهم لغة تكلموا بها وتركوا ما سواه ونسوه، وقد روي عن الصادق “عليه السلام” أنه سئل عن هذه الآية فقال : الأرضين والجبال والشعاب والأودية، ثم نظر إلى بساط تحته فقال : وهذا البساط مما علمه. وقيل : إنه علمه أسماء الملائكة وأسماء ذريته، عن الربيع، وقيل : إنه علمه ألقاب الأشياء ومعانيها وخواصها، وهو أن الفرس يصلح لماذا، والحمار يصلح لماذا، وهذا أبلغ لأن معاني الأشياء وخواصها لا تتغير بتغير الأزمنة والأوقات، وألقاب الأشياء تتغير على طول الزمان)). مجمع البيان في تفسير القرآن 1 : 152.
نلاحظ أن اختيار الطبرسي هو الأوفق بناء على ما بيَّنا، أما الآراء الأخرى فمن الواضح أنها جزافية ناظرة الى التبادر اللغوي وهو ممنوع في فهم النص، وقد أوردتها هنا لنعرف البون الشاسع بين تفسير الأئمة من غيرهم.
وقال بعد ذلك : ((واختلف في كيفية العرض على الملائكة فقيل : إنما عرضها على الملائكة بأن خلق معاني الأسماء التي علمها آدم حتى شاهدتها الملائكة. وقيل : صور في قلوبهم هذه الأشياء فصارت كأنهم شاهدوها. وقيل : عرض عليهم من كل جنس واحد، وأراد بذلك تعجيزهم، فإن الانسان إذا قيل له : ما اسم شئ صفته كذا وكذا؟ فلم يعلم، كان أبلغ عذراً ممن عرض عليه شيء بعينه، وسُئل عن اسمه فلم يعرفه. وبيَّن بذلك أن آدم “عليه السلام”، أصلح لكدخدائية الأرض، وعمارتها، لاهتدائه إلى ما لا تهتدي الملائكة إليه من الصناعات المختلفة، وحرث الأرض وزراعتها، وانباط الماء، واستخراج الجواهر من المعادن وقعر البحار، بلطائف الحكمة. وهذا يقوي قول من قال : إنه علمه خواص الأشياء وأراد به أنكم إذا عجزتم عن معرفة هذه الأشياء، مع مشاهدتكم لها، فأنتم عن معرفة الأمور المغيبة عنكم أعجز)). المصدر السابق 1 : 153.
ملاحظة : بيان الطبرسي من أروع ما يكون وهو ما يتفق مع رؤيتنا. وفيه الدليل على أن القوانين الأولى كانت تسير وفق الفوضوية المخطط لها، ولكن آدم أصبح له السيادة والسلطة في توجيه القوانين وجعل من الحيوان ــ مثلاً ــ مروَّضا يحرث الأرض ويركبه لحوائجه وهو ما لم يكن ضمن القوانين الأولى، وهو أمر متضمن لمعنى السجود والتسخير الذي فصلناه فيما مضى.
وهو تأكيد على ما ذكرناه أن القوى الكونية تجهل الوظيفة الفعلية لكائنات ومواد الأرض، أو كيفية توظيفها كما في استخدام الثور للحراثة، وصوف الغنم وشعر العنز لنسج الملابس وصناعة البيوت، وحلبها واستخدام أرواثها كوقود أو سماد، واستخدام اللبن للبناء والقصب وغير ذلك، والزراعة والري، مما لا يتيسر للطبيعة مستقلة أن تقوم به. وكما قلنا سابقاً فإن الحوار الذي جرى إنما هو حوار تكويني وليس لفظياً. ولكن ما الذي فعله آدم لترضخ الملائكة مع أنه من دون شك لا يشاهدهم ولم يكن طرفاً في الحوار؟. الجواب : أنه عندما بدأ يسمي الأشياء بأن يعرف عملها والفائدة منها بتسخيرها رضخت القوانين تلقائياً ورأت أنها ليست سيدة الأرض والمتحكمة في كائناتها بل هناك من يمكنه أن يعمل ما لا تقدر على عمله وهو الإبداع واستنتاج العلاقة بين الأشياء مما لا يمكن للطبيعة وقوانينها أن تحققه منفردة، فالنار التي كانت توجدها الطبيعة بارتفاع درجة الحرارة في الغابات والأدغال، أو عندما تسقط صاعقة ما على ما هو قابل للاحتراق أو غير ذلك، اكتشف الإنسان أنه يمكن أن يستغني عن الطبيعة وأن يوجد النار بطريقة لا يمكن للطبيعة أن تقوم به منفردة، ومنها معرفة النافع من الضار، لهذا كانت الملائكة تجهل حقيقة إبليس باعتباره متناسقاً مع الحال الأولى للقوانين على الأرض، وهنا جاءت الروايات أن الملائكة كانت تعتقد أن إبليس منها ولكنه بعد أن رفض السجود تبين لهم، وفي الواقع أنه اعترض كما اعترضت الملائكة والفرق أنها خضعت وتجاوبت ولكنه مضى في طريقته وسيره.
ومن المناسب أن أذكر هنا التفاتة علمية وبيان لطيف : ((والأسماء من المفاهيم التي وقع الخلاف فيها بين علماء التفسير حول حقيقتها والمراد منها ، والآراء فيها تسير في الاتجاهين التاليين : الأول : أن المراد من الأسماء الألفاظ التي سمى الله سبحانه بها ما خلقه من أجناس وأنواع المحدثات وفي جميع اللغات ، وهذا الرأي هو المذهب السائد عند علماء التفسير ونسب إلى ابن عباس وبعض التابعين. وينطلق أصحاب هذا المذهب في تفكيرهم إلى أن الله سبحانه كان قد علم آدم جميع اللغات الرئيسة. وقد كان ولده على هذه المعرفة، ثم تشعبت بعد ذلك واختص كل جماعة منهم بلغة غير لغة الجماعة الأخرى. الثاني : أن المراد من الأسماء : المسميات، أو صفاتها وخصائصها، لا الألفاظ وحينئذ فنحن بحاجة إلى القرينة القرآنية أو العقلية التي تصرف اللفظ إلى هذا المعنى الذي قد يبدو أنه يخالف ظاهر الاطلاق القرآني لكلمة (الأسماء) الدالة على الألفاظ. ويمكن ان نتصور هذه القرينة في الأمور التالية : أ ــ كلمة (علَّم) التي تدل على أن الله سبحانه منح آدم (العلم) وبما “أن العلم الحقيقي انما هو إدراك المعلومات أنفسها والألفاظ الدالة عليها تختلف باختلاف اللغات التي تجري بالمواضعة والاصطلاح فهي تتغير وتختلف والمعنى لا تغيير فيه ولا اختلاف” (عن تفسير المنار). فلا بد أن يكون هو المسميات التي هي المعلومات الحقيقية. ب ــ قضية التحدي المطروحة في الآيات الكريمة، ذلك أن الأسماء حين يقصد منها الألفاظ واللغات فهي إذن من الأشياء التي لا يمكن تحصيلها إلا بالتعليم والاكتساب، فلا يحسن تحدي الملائكة بها، إذ لا دلالة في تعليمها آدم على وجود موهبة خاصة فيه يتمكن بها من معرفة الأسماء، وهذا على خلاف ما إذا قلنا : إن المقصود منها المسميات ، فإنها مما يمكن ادراكه ولو جزئياً عن طريق إعمال العقل الذي يعد موهبة خاصة، فيكون لمعرفة آدم بها دلالة على موهبة خاصة منحه الله إياها. قال الطوسي : “إن الأسماء بلا معان لا فائدة فيها ولا وجه لإيثاره الفضيلة بها”. وقال الرازي : “وذلك لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات البتة، بل ذلك لا يحصل إلا بالتعليم فإن حصل التعليم حصل العلم به وإلا فلا، أما العلم بحقائق الأشياء فالعقل متمكن من تحصيله فصح وقوع التحدي فيه”. ج ـــ عجز الملائكة عن مواجهة التحدي، لأن هذه الأسماء لو كانت ألفاظاً لتوصل الملائكة إلى معرفتها بإنباء آدم لهم بها، وهم بذلك يتساوون مع آدم فلا تبقى له مزية وفضيلة عليهم، فلا بد لنا من أن نلتزم بأنها أشياء تختلف مراتب العلم بها، الأمر الذي أدى إلى أن يعرفها آدم معرفة خاصة تختلف عن معرفة الملائكة لها حين إخباره لهم بها، وهذا يدعونا لأن نقول إنها عبارة عن المسميات لا الألفاظ)). محمد باقر الحكيم، علوم القرآن 456 ــ 457.
وأخيراً أذكر هنا إشكال واستدلال للعلامة الطباطبائي له صلة بما نتناوله :
((وهذا السياق : يشعر أولاً : بأن الخلافة المذكورة إنما كانت خلافة الله تعالى، لا خلافة نوع من الموجود الأرضي كانوا في الأرض قبل الإنسان وانقرضوا ثم أراد الله تعالى أن يخلفهم بالإنسان كما احتمله بعض المفسرين، وذلك لأن الجواب الذي أجاب سبحانه به عنهم وهو تعليم آدم الأسماء لا يناسب ذلك، وعلى هذا فالخلافة غير مقصورة على شخص آدم “عليه السلام” بل بنوه يشاركونه فيها من غير إختصاص، ويكون معنى تعليم الأسماء إيداع هذا العلم في الانسان بحيث يظهر منه آثاره تدريجاً دائماً، ولو اهتدى إلى السبيل أمكنه أن يخرجه من القوة إلى الفعل، ويؤيد عموم الخلافة قوله تعالى (إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) الأعراف 69، وقوله تعالى (ثم جعلناكم خلائف في الأرض) يونس 14 ، وقوله تعالى (ويجعلكم خلفاء الأرض) النحل 62)). ــ الميزان في تفسير القرآن 1 : 115 ــ 116.
ويرد على ما ذكره العلامة أن الملائكة قالوا (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) أي أنهم يقومون بمهمة الخلافة أفضل من هذا الكائن الموجود على الأرض والذي أفسد فيها وسفك الدماء، فإن معنى تسبيح الملائكة كما أصبح واضحاً عندنا مما سبق هو عملها التكويني، ولكن في العالم الأرضي خصوصاً أسرار لا تعرفها الملائكة مع أنها تتعامل معها، ولكن الإنسان الذي أعطاه الله تعالى هبة المعرفة هو الذي استطاع أن يعرف ما تجهله الملائكة، فالخلافة المقصودة هنا تخص الأرض كما هو واضح، والملائكة وجدت فيها منذ القدم ولكنها عجزت عن تدبيرها كما سيفعل الإنسان المصطفى، لأنها لا تعلم ما وراء هذه المواد (الأسماء ومسمياتها) والناتج من ذلك أن الإنسان الخليفة كان موجوداً قبل الاستخلاف وقبل الحوار التكويني، ولا شك أيضاً أن السجود حصل بشكل تدريجي وليس دفعياً وسيستمر باضطراد الى نهائة العالم الأرضي، وهذا طبيعي فمع مرور الوقت عرف الإنسان أسرار الطبيعة (بما يتناسب عصره البدائي) وفي نفس الوقت الذي كان فيه سفك للدماء، أي أن اعتراض الملائكة كان في وقت لم يحن بعد ظهور الإنسان الواعي بشكل كامل، وهو ما عبرت عنه الروايات بأن الملائكة ومنهم إبليس كانوا يمرون بجسد آدم أو صورته ويقولون (لأمر ما خلقت) وهذا يعني أن هناك إنساناً متقدماً متغايراً مع أفراد جنسه المفسدين في الأرض سابقاً، ولكن لم يتضح دوره حتى تلك الساعة، والطبيعة بعنادها لم تكن تعتقد أنه سيكون هذا النوع الفاسد المفسد قادراً على تسخيرها، وحتى مع التسخير البسيط كما كان يفعل سابقاً لم تكن لتعتقد أنه سيحقق ما فيه تحد لها وإرغام لجبروتها، ومن المؤكد أن المعرفة جاءت إلى الأنبياء بعد ذلك وفق مراتب تدريجية كما في حال إبراهيم الخليل وموسى، وكما أشارت الآية إلى النبي محمد “صلى الله عليه وآله” (ووجدك ضالاً فهدى) ومهما كان تفسير هذه الآية فإنه لا شك يدل على انتقالة من الضلال إلى الهداية، وهو لم يأت بين ليلة وضحاها، فإذا كان الأمر كذلك في الأنبياء المتأخرين عن آدم فمن الأولى أنه تحقق فيه، وليس أن هذا العلم جاء دفعياً. وتحدثنا الروايات أن آدم عندما كان في الجنة فإنه يتنعم فيها يأكل ويشرب ويسكن ويأمن، ولكنه في لحظة ما وبعد حادث انتقل من موقعه الى موقع آخر احتاج فيه الى الاستعانة ببيئته وما توفره من مواد ليقتات ويسكن، وفي كل يوم يمضي يجد أنه يحتاج المزيد فيخترع المزيد، ومن أهم الشواهد حادثة هابيل وأخيه قابيل، فهما كما نعرف ابنا آدم، وبعد أن قتل قابيل أخاه وجد نفسه أمام جثة أخيه لا يعرف ما يفعل، ((فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ*فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)) المائدة 30 ــ 31، والآية لا تشير الى غراب قاتل وآخر قتيل وإنما فقط غراب يبحث في الأرض، فتفكر قابيل فعلم أنه إن حفر في الأرض كما فعل هذا الغراب ودسَّ أخاه في التراب فإنه بذلك يحفظ جسد أخيه من الافتراس أو التفسخ، أو يخفي أثر جريمته على الأقل عن أعين الناظرين، وهنا تفكر لأنه أُعطي هذه الميزة التي لم تكن قبل أبيهما، فدفن أخاه، وهذا يعني بكل وضوح أن علم آدم لم يكن دفعياً كاملاً وإنما احتاج الى التجارب مع ما أعطاه الله تعالى من روح المعرفة، فهو لم يكن يعرف كيف يتصرف مع الميت إلا كما كان يفعل البشر السابقون بأن يتركوا موتاهم لتنهشها الحيوانات أو تنال منها ظواهر الطبيعة، ولو كان آدم يعرف الدفن لعلَّم أبنائه مسبقاً، وعندما حدث ما حدث، جاءت لحظة الاستفادة من روح المعرفة التي ألهمته بالدفن، وهذا رد آخر على العلامة الطباطبائي (قدست نفسه). وما قاله فيه تعارض لو تأملنا، فهو يعترف أن هذا العلم تدريجي، وما دام كذلك نسأل : عن أي أسماء إذن سُئلت الملائكة، مع أن المفترض أن الإنسان يعرف كل الأسماء حسب صريح القرآن؟، والحق أنه لم يكن يعرف كل شيء في وقت واحد وإنما كل ما مرَّ بشيء ما أو حادث ما تفكر فيما يمكن أن يستخلص منه.
كما أن الأمثلة التي ذكرها العلامة لا تشير إلى كون الإنسان خليفة لله في الأرض بل العكس تماماً كما في استشهاده بالآية (إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح). وقد ذكرنا فيما مضى عدة آيات تدل على أن آدم هو خليفة لمن كان قبله، ومنها : ((قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)) الأعراف129. و ((وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ*ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)) يونس 13 ــ 14. و ((يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ)). ص26. ومن الضرورات أن داود خلف طالوت (شاؤل) في الملك، وأما القول أن الخليفة لا بد أن يكون خلفاً لمن هو أعلى شأناً فهذا لا يتم، وهو واضح من الآيتين أعلاه (يونس 13 ــ 14)، بل يمكن أن يكون الفاسد خليفة للفاسد كما في ثمود الذين خلفوا عاداً : ((وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)) الأعراف74.
أو يكون الخيِّر خليفة للفاسد كما في الناجين من قوم نوح الذين خلفوا قومهم الفاسدين كما في الآية أعلاه (الأعراف 129)، وقوله تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ) يونس73. و((أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)) النمل62.