23 ديسمبر، 2024 8:12 ص

آدم ليس أول البشر – 10

آدم ليس أول البشر – 10

فيما مضى حصلنا على فكرة إجمالية عن الملائكة وأنها عبارة عن القوى التي تدير الظواهر أو “قوانين القوانين” كما اصطلح السيد محمد باقر الصدر، نتسائل الآن عن معنى السجود الذي ورد في القرآن، أي عندما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم، فما هي الصلة التي تربط بين ظواهر الكون والأرضية منها “خاصة” بالإنسان، وكيف نتصور سجود هذه الظواهر له؟، بداية فإن معنى السجود التي اختلف فيه المفسرون هو عبارة عن الخضوع، وسبب الاختلاف بين المفسرين أنهم مأخوذون بالمفاهيم التي تعودوا عليها، فعندما يريدون أن يفسروا معنى السجود تراهم يدخلون في مباحث عقائدية متشعبة ويحاولون قدر الإمكان تأويل المطلب، وأصل المشكلة عندهم أن السجود لا يصح إلا لله، فكيف يتم تفسير سجود الملائكة لآدم، وكيف يفسرون سجود يعقوب وأسرته ليوسف بعد دخولهم مصر؟. ومما يدل على أن السجود هو الخضوع قوله تعالى :
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ }البقرة58. سجداً أي خاضعين لله شاكرين له.
وما روى الشريف الرضي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) :
((في خطبة يذكر فيها خلقة آدم “عليه السلام” قال “صلوات الله عليه” : واستأدى الله “سبحانه وتعالى” الملائكة وديعته لديهم، وعهد وصيته إليهم في الإذعان بالسجود له والخنوع لتكرمته، فقال : ” اسجدوا لآدم ” فسجدوا)). نهج البلاغة 1 : 22.
أما سجود الملائكة أي الظواهر الكونية المرتبطة بالأرض لآدم (الإنسان بعد الوعي) فتفسيره : أننا بعد أن عرفنا صورة تقريبية عن الملائكة نعرف أيضاً أن الإنسان في المرحلة السابقة كان يعيش في عالم تسوده الفوضى وحكم الطبيعة، ولم يكن الإنسان بعدُ قد تعرَّف الى تسخير المحيط من حوله لما فيه توفير الطعام والملجأ والحماية لنفسه إلا كما تفعل الحيوانات، فعندما يحتاج الطعام كان يبحث عن الثمار أو الحيوانات التي يصطادها، وعندما يحتاج الملجأ من الأخطار أو الحرارة والبرودة والأمطار فإنه يلجأ الى الكهوف أو الأجمات وربما كان يحفر أنفاقاً بسيطة يغلقها بصخرة أو أغصان شجرة، وكانت الطبيعة هي التي تسيِّر حياته، فتراه ينتقل من موطن إلى آخر عند حلول الجدب ولم يكن بعدُ ملتفتاً إلى كيفية تسخير الموارد، ولكنه في نقطة تحول سبقتها تجارب امتدت لقرون أو أكثر أصبح يتأمل في محيطه ويفكر في استخدام هذا المحيط عبر الاستفادة من المواد الأولية التي توفرها الطبيعة له ليضع حداً لتحكم القوانين الطبيعية به.
ولتقريب الصورة أكثر نعطي مثال الملجأ ففي السابق كان الإنسان كما ذكرت يلجأ الى الكهوف أو الحفر ليلجأ إليها، ولكن هذه الكهوف أو الحفر لا تتوفر في كل مكان، فهو عندما يتتبع مصادر قوته قد يصل إلى أرض سهلية كما في جنوب العراق حيث لا جبال هناك وحيث الأرض الرخوة، وعندما وجد القوت رأى أنه يحتاج الى سقف يؤويه من الطقس أو الحيوانات المفترسة، فتأمل في التراب وأنه إذا ما سكب عليه الماء فإنه يتحول الى طين فإذا ما جف أصبح كتلة صلبة، فقام في البداية بصناعة كتل شبه دائرية بيديه (كما في الريف الحالي في جنوب العراق) ليعمل منها حيطاناً بتكديسها واحدة فوق الأخرى فتحصل لديه بيت (غرفة) وتفكر في السقف فاستفاد من سعف النخيل أو القصب ليعمل سقفاً، ولكنه بعد فترة من التمدن والاستقرار وجد أن هذا البناء لا يفي بمتطلباته فتفكر وصنع اللبن المشوي (الآجر) واستفاد من القير ليلصق اللبنات واحدة فوق الأخرى، وهكذا في الزراعة فقد التفت الى أن النباتات التي يقتات منها تخرج من الأرض وأن بذور هذه النباتات عندما تدخل تحت التربة ويصلها الماء فإنها تنمو، لأنه لاحظ أن الأرض التي لا تصلها المياه مجدبة، فقام بحرث الأرض ونثر البذور، واعتمد على هطول الأمطار، ولكن عمَّت سنوات كانت السماء تشح بأمطارها فاقترب من الأنهار وأخذ ينقل المياه منها، ثم تفكَّر فقام بحفر الجداول الى أرضه، وهكذا امتد الأمر الى هذه الساعة حيث لا زال الإنسان يسخر الموارد الطبيعية والقوانين لما فيه صالحه حتى وصل الأمر الى الطاقة النووية والتكنولوجيا الحديثة، ونحن عرفنا فيما مضى أن الملائكة هي القوى المتحكمة بالقوانين أو الظواهر الطبيعية، وبما أن الإنسان استطاع أن يسخر هذه الموارد لصالحه فإننا نصل الى مرحلة خضوع هذه الظواهر له ولخدمته، أي أنها مسخرة له كما هو صريح القرآن الكريم :
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ}الحج65. التسخير بمعنى أخضعها وهو معنى السجود.
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}لقمان20.
ومن هاتين الآيتين نفهم أن التسخير حصل لمطلق الإنسان وليس مختصاً بآدم، بل لمطلق البشر من بعد مرحلته التي هي مرحلة الوعي.
وبما أن الملائكة هي قوانين الظواهر، وبما أن هذه الظواهر مسخرة للإنسان، فإننا نصل الى فهم محدد حول معنى سجود الملائكة لآدم. كما أن الآيات التالية تجعل الصورة أكثر وضوحاً :
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ }الحج18.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }النور41.
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ }النحل48.
{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ }الرحمن6.
فتسبيح هذه الكائنات وسجودها إنما هو تأديتها وظيفتها التكوينية، وهي بطبيعتها منقادة للقوانين بخلاف الكثير من البشر كما هو واضح من الآيات أعلاه، كما أن من يقوم بعمله الإنساني الذي خلق من أجله (وهو معنى العبادة الفعلية التي يريدها القرآن) ليس كل البشر وإنما (وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ)، أما قوله في نفس الآية (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ)، فهو قد يدعو للإستغراب فكيف يخضع لله من هو عاص متمرد وقد استحق العذاب؟، وجوابه : إن كل من في الأرض من البشر على أقسام (ملتزم بإنسانيته، متمرد على إنسانيته، تائه لا يأبه بفساد أو صلاح)، بالملتزم خاضع لربه مؤد لوظيفته، والمتمرد ليس خاضعاً ولكنه يؤدي وظيفة ما ضمن التخطيط الكوني، كما في الرواية (الظالم جندي أنتقم به وانتقم منه) وكما قال تعالى {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }الإسراء16، فالأمم التائهة (حسب المفهوم الديني والإنساني) يتسلط عليها المفسدون ليزادوا فساداً وهم بذلك يحققوا واحدة من السنن (حسب فلسفة التاريخ)، ولدينا من الشواهد ما لا يعد، فمن التاريخ نذكر أمثلة : عندما استفحل فساد المجتمع الإسلامي وانحطاطه وأصبحوا عبيداً للسلطان تسلط عليهم الطغاة أمثال يزيد بن معاوية والحجاج، وعندما استفحل ظلم الإقطاع في أوربا تسلط عليهم ستالين وهتلر، وعندما فسد البلاط العباسي تسلط عليهم المغول، وعندما أفسد العثمانيون تسلط عليهم الأوربيون، وهكذا.
ونتعرف الآن على عدد من النصوص التي تفسر لنا معنى سجود وتسبيح الكائنات :
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ }الحج18. لاحظ أن أول الآية بدأ بلفظ (ألم تر) فكيف يمكن للإنسان أن يرى سجود هذه الكائنات كالشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب إلا بتأديتها وظيفتها التي تنعكس على حياة الإنسان. ونفس الأمر في الآية أعلاه من سورة الحج 65. كما أن الرؤية المقصودة هنا فكرية بناء على مشاهدات بصرية.
{وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ*يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} النحل 49 ــ 50. نلاحظ أن قوله تعالى (ويفعلون ما يؤمرون) يفسر لنا معنى سجود من في السموات والأرض والدواب والملائكة. فالفعل الذي هو وظيفتها التكوينية أو قل (الطبيعية) هو سجود بالمفهوم القرآني.
وذكر علي بن إبراهيم القمي : ((“أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ” النحل48، قال : تحويل كل ظل خلقه الله هو سجوده لله لأنه ليس شيء إلا له ظل يتحرك بتحريكه، وتحويله سجوده. ومنه : في قوله تعالى “وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ” الإسراء 44، فحركة كل شيء تسبيح لله عز وجل)). تفسير القمي 1 : 386. ويمكن تفسير الظلال بالآثار للأشياء والكائنات التي ليس لها ظل.
وقال العلامة المجلسي : ((فسكون الأرض خدمتها وتسبيحها، وصرير الماء وجريه تسبيحه وطاعته، وقيام الأشجار والنباتات ونموها، وجري الريح وأصواتها، وهذه الأبنية وسقوطها، وتحريق النار ولهبها، وأصوات الصواعق وإضاءة البروق وجلاجل الرعود وجري الطيور في الجو ونغماتها، كلها طاعة لخالقها وسجدة وتسبيح وتنزيه له سبحانه)). بحار الأنوار 57 : 178.
وروى العلامة المجلسي : ((بكاء السماء احمرارها من غير غيم وبكاء الأرض زلازلها، وتسبيح الشجر حركتها من غير ريح، وتسبيح البحار زيادتها ونقصانها، وتسبيح الشجر نموه ونشوؤه)). بحار الأنوار 57 : 178.
قال الطبرسي : ((تسبيح الرعد دلالته على تنزيه الله تعالى ووجوب حمده ، فكأنه هو المسبح، وقيل : إن الرعد هو الملك الذي يسوق السحاب ويزجره بصوته، فهو يسبح الله ويحمده)). مجمع البيان في تفسير القرآن 6 : 22. تسبيح الرعد هو الصوت الصادر من الغيوم أي العمل التكويني له، وهذا يبيِّن لنا ماهية تسبيح الطبيعة.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
 
كيف تكلم الله تعالى مع الملائكة في شأن آدم، وكذلك كلامه مع إبليس ومع آدم وحواء لاحقاً؟، بل كيف تكلم مع الأنبياء والبشر والكائنات الأخرى كما في قوله تعالى :
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة30.
و{إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ….}آل عمران55.
و{وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ……}المائدة12.
و{قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ…….}المائدة115.
و{وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ }النحل51.
و{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }مريم9.
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }فصلت11. وغيرها من الآيات.
إن قول الله وقول الملائكة والسموات والأرض عبارة عن الأمر والاستجابة التكوينيين، وهو الأمر الواقعي، أو هو الوحي، إذ يستحيل الكلام المباشر بمعنى خروج الألفاظ، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى :
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ*وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }الشورى 51 ــ 52.
وقد قلنا فيما مضى أن القرآن محكوم باللغة كما هو شأن أي بيان بشري، لأن اللغة ما دامت صناعة بشرية وجدت للتفاهم بينهم فإن من غير المتوقع أن يأتي القرآن بما لا يمكن فهمه إلا من خلالها، ولكن اللغة أحياناً تقف عاجزة عن توضيح الكثير من المفاهيم والأشياء، ومن أمثلته إطلاق الأسماء على المكتشفات الآثارية بأسماء مكتشفيها أو الموضع القريب منها، و(إنسان النياندرتال) نسبة الى نياندرتال قرب دوسلدورف، و(الإنسان البلتدوني) نسبة الى بلدة بلتدون في جنوب انجلترا، وتسمية بعض الكواكب والجراثيم والمخترعات بأسماء مكتشفيها، والسبب في ذلك هو عدم القدرة أحياناً على وضع تسمية تتناسب مع حقيقتها لأنها إما سبقت عصر اللغة فلم تترك لنا أثراً يدل على اسمها أو وصفها، أو لعدم القدرة على وضع لفظ معاصر يتناسب مع صفاتها، وغير ذلك، ولما كانت الحقائق المعنوية والروحية أو الخارجة عن نطاق القوانين والأعراف البشرية فإنه يصبح من غير المتاح أو غير المجدي إطلاق ألفاظ يمكن من خلالها معرفة حقيقة تلك الأشياء أو القضايا بشكل واضح ومباشر، ليس لخلل أو عجز في تلك الأشياء أو خالقها بل لعجز فينا وفي لغتنا وحروفنا وأصواتنا، وهكذا عندما يتحدث القرآن أو النص الديني عموماً فهو مضطر لتلك الأسباب أن يخاطبنا بلغة رمزية أو مجازية، ونجد في أحيان كثيرة أن الأنبياء أو الأئمة يذكرون بعض المطالب التي قد يجد السائل أنه لم يعِ المقصود منها فيستفسر عن حقيقتها فيكون الجواب بالسلب كما في الرواية :
((عن يونس بن عبد الرحمن، أن داود قال : كنا عنده (أي الإمام الصادق) فارتعدت السماء، فقال : سبحان من يسبح له الرعد بحمده والملائكة من خيفته. فقال له أبو بصير : جعلت فداك، إن للرعد كلاماً؟، فقال : يا أبا محمد سل عما يعنيك ودع ما لا يعنيك)). العياشي 56 : 379.
قد يتصور البعض أن من الظلم أن لا يجيب الإمام على السؤال، وما هي الفائدة من طرح الأمر أساساً ما دام السائل لا يفهم؟.
الحقيقة أن كثيراً من النصوص ليست لعصرها، أو لغير أهلها، فعادة ما تأتي النصوص لغرض حفظها وإيصالها إلى زمن آخر مع استغلاق فهمها على معاصريها، أو أن المستمعين للإمام تكون مهمتهم التي أرادها الإمام منهم أن يكونوا مجردة حفظة للنص وإيصاله إلى أهله سواء كانوا معاصرين أو غير معاصرين لهم. وقد يكون جواب النبي أو الإمام عن حقائق تلك الأمور يؤدي الى نتائج كارثية نظراً لبساطة الفهم عند المتلقي، لذلك يوجد النهي عن السؤال عن أشياء لا يمكن إدراكها إلا بعد أن نكون قد أحرزنا مقدماتها كما في قوله تعالى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}المائدة101. وهنا يربي القرآن المسلمين أن لا يسبقوا النبي بالسؤال عن أشياء لم يحن بعدُ أوانها، ونفس الأمر يقال في كل زمن، وها نحن نجد أنفسنا في القرن الحادي والعشرين ولا زلنا نعاني من الفهم المغلق والبدائي عند معظم البشرية من كل البلدان، ناهيك عن مجتمعاتنا المسلمة التي لا زالت راضخة تحت سياط الفهم النصي الحرفي لمفسرين ومحدثين مضت عليهم قرون عديدة، مع أن القرآن والحديث الشريف يؤكدان مراراً على التفكر في كل شيء عدا الخالق لعدم جدوى التفكر في حقيقته “جل وعلا”، أو أن النتيجة ستكون الإلحاد، لأن المفكر حينها يفكر بأدواته التي مهما كانت متقدمة إلا أنها تبقى ضمن حيزه المادي البشري الذي لا يمكن أن يدرك ما وراء المادة إدراكاً تاماً إلا لفئة نادرة جداً.
روى العلامة المجلسي : ((وعن بعض أئمة الكوفة قال : قام ناس من أصحاب رسول الله “صلى الله عليه وآله” فقصد نحوهم فسكتوا، فقال : ما كنتم تقولون؟، قالوا : نظرنا إلى الشمس، فتفكرنا فيها من أين تجيء وأين تذهب، وتفكرنا في خلق الله. فقال : كذلك فافعلوا [و] تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله)). بحار الأنوار 54 : 348. وروى أصحاب الحديث روايات كثيرة بالحث على التفكر في كل شيء إلا في ذات الله كما في الهيثمي، مجمع الزوائد 1 : 81، وابن حجر، فتح الباري 13 : 323، والطبراني، المعجم الأوسط 6 : 250. والكثير غيرها.
فما هي النتيجة التي نصل إليها حول كلام الله أو الحوار الذي دار مع الملائكة وإبليس والإنسان وهو حوار لا زال حتى هذه اللحظة لا ينقطع ما دام هناك خلق في العالم؟، من المهم أنى نلاحظ الآية التي ذكرنا أعلاه : {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }الشورى 51 ــ 52. فهي صريحة أن الله لا يمكن أن يكلم إنساناً، وما ورد عن كلامه مع الإنسان ونحوه لا بد أن نفهمه على ضوء هذه الآية المحكمة أنه عبارة عن وحي، وليس الوحي مقتصراً على البشر كما أن الكلام أو الوحي ليس مقتصراً على البشر :
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ }النحل68.
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا}فصلت12.
{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا }الزلزلة5. أي أوحى للأرض.
كما أن الوحي ليس مقتصراً على الأنبياء :
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }القصص7.
ومن الضروري أن نفرق بين مستويات الوحي، فهو إلى الكائنات التي نسميها “غير عاقلة” بمثابة التوجيه لعملها التكويني، أما بالنسبة للإنسان فهو في الأنبياء تعاليم وتشريعات، وفي غيرهم فكرة مبتكرة كما في أم موسى وأينشتاين ونيوتن وداروين وغيرهم، وهذا المستوى من الوحي وغيره لا زالت البشرية تتلقاه، ولكن في الجانب الذي تنتفع منه البشرية وما فيه خيرها، وفي الجانب الآخر يقف الظلام وهو ما نصطلح عليه “خطوات الشيطان” وستأتي لاحقاً بإذن الله تعالى.
وهنا نصل إلى فهم (تقريبي) لحديث الله مع الملائكة، فتلك القوى أو القوانين التي كانت سائدة على الأرض (خاصة) كانت تسير وفق نمط معين كان هو السائد في عصر الفوضى، ولما كان في علم الله تعالى أن هناك بشراً قادماً سيتكفل مهمة إعمار الأرض الذي عبر عنه بـ(العبادة) فكان لا بد للقوانين أن تتكيف معه، وأن ترضخ له بمعنى أن تسخر قدراتها له ليستعين بها على مهمته الشاقة الطويلة، ولكن القوانين القوية التي أبادت الكائنات لملايين الأعوام على الأرض عبر الكوارث كالنيازك والبراكين والأوبئة والاقتتال بين كائناتها التي كانت تعيش وفق قانونها الذي لا تعرف غيره وعبر عصور الجليد الباردة القاتلة لكل شكل من أشكال الحياة الحيوانية والنباتية كيف لها أن تتكيف مع كائن لا ينسجم معها ولا يعرف كيف يتعامل معها، مع كائن ضعيف أمام جبروتها وعشوائيتها (المقننة إلى وقت محدد)؟. إنه السؤآل الذي سألته الطبيعة وقانونها، والطبيعة لا تعي لأنها لا تفكر فهي مسيَّرة من قوة عظمى تدبر هذا العالم، ولم تكن تعلم أن هذا الكائن الضئيل امتلك في لحظة ما سر القوة التي ستعجز عن هزيمته، أنها قوة التفكير الذي لم يكن يميزه وغيره من الكائنات الأرضية لملايين القرون، فهدأت الطبيعة مرغمة وكفت عن غضبها على قاطني الأرض الوسطى، وهيأتها لاستقبال واحتضان السيد الأول على الأرض، ولكن بعد أن حصل على ميزة لم تكن فيما سبق، وهي طفرة حسب مفهومنا كما تقول “سينثيا ستوكس براون” : ((وإذا ما نظرنا إلى هذه الثمانية آلاف سنة على ضوء الخمسة ملايين وهي تاريخ نشأة أشباه الإنسان، أو حتى المئة ألف أو مئتي ألف سنة منذ ظهور الهوموسابينز (أحد أنواع الإنسان)، فإنها تمثل معدل تغير بالغ السرعة، بلغ من سرعته أن المؤرخين يطلقون عليه الثورة الزراعية، وهي تحول مصيري في تأريخ البشر)). تاريخ الأحداث الكبرى 125، ترجمة : أيمن توفيق، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2010، القاهرة.
ــ وقد أفاد العلامة الطباطبائي قائلاً : ((قوة الفكر والإدراك ورابطة التسخير عناية ثالثة عجيبة، وهي ان يهيئ لنفسه علوماً وإدراكات يعتبرها اعتبارا للورود في مرحلة التصرف في الأشياء وفعلية التأثير والفعل في الموجودات الخارجة عنه للانتفاع بذلك في حفظ وجوده وبقائه)). الميزان في تفسير القرآن  2 : 114.
وهذه الطفرة أو التغير بالغ السرعة كما تعبر براون، وهذا التحول المصيري في تأريخ البشر ليس في الثورة الزراعية فحسب، فهناك ما هو أهم وهو قدرته على الاكتشاف، أي المعرفة والتفكير والإدراك (كما أفادنا العبقري العلامة الطباطبائي)) الذي طرأ فجأة على هذا الكائن الذي عاش ملايين الأعوام شأنه شأن الحيوانات الأخرى، وهو ما عبر عنه أمير المؤمنين “عليه السلام” ((ثم نفخ فيها (أي في صورته) من روحه فمثلت إنساناً ذا أذهان يجيلها وفكر يتصرف بها، وجوارح يختدمها، وأدوات يقلبها، ومعرفة يفرق بها بين الأذواق والمشام والألوان والأجناس)). شرح نهج البلاغة 1 : 96.
 
وهنا يضع القرآن اصطلاحه الخاص وهو (الروح)، فما الذي فعله الإنسان لينتقل من عالم الحيوان البدائي والجهل الى عالم الكائن المتحضر والمعرفة؟، لا يسعفنا علم الآثار والجيولوجيا أو البايلوجيا بالجواب، لأنه إن عزى السبب للتجربة فكيف يجيب على تسائل السيدة براون السابق، فخمسة ملايين سنة من الانحطاط تنفرج في لحظة من لحظات التاريخ، وها نحن بعد أقل من عشرة آلاف عام نشاهد ما حققه البشر من تقدم، لم يقم خلال ملايينه السابقة بخطوة واحدة تدل على أنه سيصل يوماً إلى ما وصل إليه، فما الذي حدث له حتى حصلت له هذه الانتقالة؟. كما أن التجربة لم تقدم شيئاً يذكر لباقي الحيوانات التي لا زالت كما هي منذ نشأتها في هذا العالم.
إنها الروح التي قدمت من السماء أي “جهة العلو الروحي أو المعنوي”، لتتماهى مع أصول الحياة الأولى المادية التي قدمت من السماء المادية. وكما تعسر على علماء الطبيعة أن يتكهنوا بماهية الحياة الأولى وموضعها فمن المؤكد أنهم لم يجدوا لنا حتى الساعة جواباً عن سر الروح والفكر والتمايز بين إنسان وآخر، وبهذا لا نجد أمامنا سوى أن نحاول أن نتعرف على رأي الدين في المعرفة التي حصل عليها الإنسان والتي اصطلح عليها (الروح)، ولكن سنجد أن للروح مفاهيم عديدة منها في النصوص الدينية. وتقسم الروايات أنواع الأرواح إلى خمسة : روح البدن، وروح القوة، و روح الشهوة، وروح الايمان، وروح القدس.
وهذه التقسيم انفردت بها نصوص أئمة أهل البيت دون غيرهم مما لم نعثر على مشابه له في غير مصادر الشيعة.
وقد ورد هذا التقسيم في أمهات المصادر عند الشيعة مثل: (بصائر الدرجات) لمحمد بن الحسن الصفار القمي المتوفي سنة 290 هـ، و(مختصر البصائر) لسعد بن عبد الله الأشعري المتوفي سنة 299 ــ 301 هـ، و (الكافي) لمحمد بن يعقوب الكليني المتوفي سنة 329 هـ، و(تفسير فرات) لفرات بن إبراهيم الكوفي المتوفي سنة 352 هـ وهو أحد علماء الزيدية. وغيرهم.
روى محمد بن الحسن الصفار : ((عن جابر، عن أبي جعفر “عليه السلام” قال : سألته عن علم العالم. فقال : يا جابر إن في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح : روح القدس، وروح الإيمان، وروح الحياة، وروح القوة، وروح الشهوة، فبروح القدس يا جابر علمنا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى. ثم قال : يا جابر إن هذه الأرواح يصيبه الحدثان إلا أن روح القدس لا يلهو ولا يلعب)). الصفار، بصائر الدرجات 467.
و((عن جابر قال سألت أبا جعفر “عليه السلام” عن الروح، قال : يا جابر إن الله خلق الخلق على ثلاث طبقات وأنزلهم ثلاث منازل، وبيَّن ذلك في كتابه حيث قال : “وأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة، والسابقون السابقون أولئك المقربون”، فأما ما ذكر من السابقين فهم أنبياء مرسلون وغير مرسلين جعل الله فيهم خمسة أرواح : روح القدس، وروح الإيمان، وروح القوة، وروح الشهوة، وروح البدن. وبين ذلك في كتابه حيث قال : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) البقرة253. ثم قال في جميعهم : (وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ) المجادلة 22، فبروح القدس بُعثوا أنبياء مرسلين وغير مرسلين، وبروح القدس علموا جميع الأشياء، وبروح الإيمان عبدوا الله ولم يشركوا به شيئاً، وبروح القوة جاهدوا عدوهم وعالجوا معايشهم، وبروح الشهوة أصابوا لذة الطعام ونكحوا الحلال من النساء، وبروح البدن يدب ويدرج، وأما ما ذكرتُ من أصحاب الميمنة فهم المؤمنون حقاً، جعل فيهم أربعة أرواح : روح الإيمان، وروح القوة، وروح الشهوة، وروح البدن، ولا يزال العبد مستعملاً بهذه الأرواح الأربعة حتى يهم بالخطيئة، فإذا هم بالخطيئة زيَّن له روح الشهوة وشجعه روح القوة وقاده روح البدن حتى يوقعه في تلك الخطيئة، فإذا لامس الخطيئة انتقص من الإيمان وانتقص الإيمان منه، فإن تاب تاب الله عليه، وقد يأتي على العبد تارات ينقص منه بعض هذه الأربعة وذلك قول الله تعالى (وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) النحل 70. فتنتقص روح القوة ولا يستطيع مجاهدة العدو ولا معالجة المعيشة، وينتقص منه روح الشهوة فلو مرَّت به أحسن بنات آدم لم يحن إليها وتبقى فيه روح الإيمان وروح البدن، فبروح الإيمان يعبد الله، وبروح البدن ويدب ويدرج، حتى تأتيه ملك الموت وأما ما ذكرت أصحاب المشئمة ……. فيسلبهم روح الإيمان وجعل لهم ثلاثة أرواح : روح القوة، وروح الشهوة، و روح البدن، ثم أضافهم إلى الأنعام فقال : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) الفرقان44. لان الدابة إنما تحمل بروح القوة، وتعتلف بروح الشهوة، ويسير بروح البدن)). الصفار، بصائر الدرجات 467 ــ 468. والكليني، الكافي 1 : 271 ــ 272. و 2 : 281 ــ 284 عن أمير المؤمنين “عليه السلام” بلفظ مقارب.
وهذا النص المطول فيه عدة فوائد : إن ما ذكر عن روح القدس هو الاستثناء الذي نجده عند الأنبياء والتي بها يجددون المجتمعات ويدفعونها الى الأمام، كما عبر النص أعلاه (وبروح القدس علموا جميع الأشياء) أي جميع الأشياء التي يحتاجونها لإصلاح مجتمعاتهم وبما يتناسب ووقتهم، وهو ما أثبته التاريخ عبر تعاليمهم سواء التي جاء منها في الكتب المقدسة أو الحديث، ومما لا شك فيه أن ما جاءت به الأنبياء مهما كانت ملاحظاتنا الحالية فإنه يعتبر إنجازاً مهماً في تلك الأوقات التي كانت فيه البشرية تعيش انحطاطاً متوالياً سواء في تشريعاتها أو أساليبها الحياتية، ونلاحظ أن أعظم العباقرة عندما يتأملون فإنهم يأتوننا بأفكار محددة متغيرة فشريعة موسى تعتبر من أقدم التشريعات الأرضية، وبالرغم من النقد المتواصل الذي نسمعه هنا وهناك فإن هذه الشريعة اعتبرت انتقالة بالإنسان في وادي الرافدين بعد عصور من الانحطاط والتخلف والطغيان البشري، وليس المطلوب من التوراة أن تكون شريعة البشرية الى ما لا نهاية كما شأن كل التشريعات اللاحقة، ومما لاشك فيه أن أقدم شريعة مكتوبة معروفة في العالم هي شريعة “أور نمو” 2060 ــ 2042 ق.م. أول ملوك سلالة أور الثالثة جنوب العراق، إنما استقت موادها من شريعة موسى وليس العكس كما يردد الكتاب المعاصرون، وهذا ما يحتاج الى إثبات يأتي في وقته (بإذن الله تعالى). كما نلاحظ في النص تفضيل الرسل بعضهم على بعض، وهذا التفضيل نتبينه من خلال إعطائهم قوة التشريع والقوانين والإصلاح في مجتمعاتهم، وقد توسعت هذه التشريعات مع تقدم البشرية وهنا جاءت الأفضلية بحسب التوسع وحجم المسئولية، أما الروح الثانية التي وردت في النص : (وبروح الايمان عبدوا الله ولم يشركوا به شيئاً) أي أن الجانب المعنوي الذي عرفوا فيه أن هناك قوة عظمى وخالق لهذا الكون وأنه لم يأت وليد المصادفة، وأن التوحيد في العبودية من سمات الإنسان المتحضر “كما أكدته الفلسفة” وليس هناك خالقان أو أكثر وإلا لحصلت فوضى في الكون. أما الأرواح المتبقية : (وبروح القوة جاهدوا عدوهم وعالجوا معايشهم، و بروح الشهوة أصابوا لذة الطعام ونكحوا الحلال من النساء، وبروح البدن (أو روح المدرج حسب بعض النصوص) يدب ويدرج)، وهذه الأرواح يشترك فيها النبي مع الإنسان الواعي مع المتخلف والهمجي والحيوانات، وهي لا تحتاج الى توضيح.
وهنا قد نسأل إذا كانت روح التفكير العالية مختصة بالأنبياء فكيف نفهم هذا المستوى العالي من التفكير المتوفر في البشر من غير الأنبياء كالمخترعين والمفكرين من مختلف الأديان والطبقات والمجتمعات، وحتى من الملحدين أو اللادينيين؟. وهنا لا بد من التفريق بين مستويين من مستويات التفكير، فبداية فإن روح العلم أو التفكير المشار إليها قد تتوفر أحيان معينة أو أشخاص معينين لوقت محدود حسب نصوص أخرى، ولكنها ليست روح القدس التي أشار إليها النص أعلاه، فهناك فرق بين الروح التي على أساسها خضعت قوانين الظواهر الطبيعية للبشرية وبين الروح التي على أساسها بعثت الأنبياء، فالروح التي نفخت في آدم ليست روح القدس، أي هي الروح التي أسميتها قوة التفكير بشكل مطلق، وهذا ما يشير إليه النص (حتى إذا سويته ونفخت فيه من روحي) ونعلم أن قوله (من روحي) تبعيضية، أي مستوى من مستويات الروح الكاملة، وهذا طبيعي ومتوقع نظراً لأن الروح المتكاملة لا يمكن توقعها منذ فجر البشرية، كما أن روح الأنبياء المشار إليها ليست مهمتها الإختراعات العلمية بقدر ما هي للتشريع الإجتماعي، الذي هو أساس حضارة البشرية، وكما قلنا سابقاً فإن الحضارة ليست هي العمارة والبناء الشاهق كالأبراج والمعابد والتماثيل وغيرها، وإنما هي بالأساس التشريع والقوانين وغيرها متفرع عليها، وعرفنا فيما مضى أن حضارة بلاد الرافدين وهي من أعظم الحضارات كان أهم ما فيها هي المكتشفات الإنسانية كاكتشاف الكتابة والتشريعات ونظام الملك، وأنهم كانوا يستوردون الأيدي العاملة والحرفيين المهرة من خارج البلاد، بالتالي فإن أعلى الأرواح أو أعلى مستويات التفكير أو الإيحاء (قل ما شئت) هو التفكير التشريعي.
ومن المهم أن نلاحظ ما ورد في النص من اشتراك الإنسان مع الحيوان في ثلاثة أرواح أو ثلاث قوى، وهي روح البدن والقوة والشهوة، ونعلم أن البشرية قبل آدم لم يكن لديها أي مستوى من الروحين العاليتين، بالتالي فهو في عداد اللا إنسان وهو ما عبر عنه بالطين، ونتسائل عن اللحظة التي سبقت نفخ الروح في آدم أو الأربعين سنة التي سبقتها كيف كان حاله؟، بالطبع كان هذا الكائن البشري في المنطقة الوسطى بين الإنسان البدائي والإنسان المفكر، وأن تلك المرحلة كانت مرحلة إعداد حتى بلغ مستحقاته، ولم يكن الوعي أتاه في لحظة وإنما استغرق منه أربعين عاماً. وهذه ارتكزت على تجارب بدائية للبشرية تمتد إلى ملايين الأعوام.
بالتالي فإن هذه الروح التي نفخت في آدم ليست روح القدس بأية حال وإنما هي روح المعرفة والوعي وهي متوافرة في غير الأنبياء كما هو صريح القرآن : {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ}المجادلة22. ولكن نحتاج الى تسميتها على ضوء التقسيم الوارد أعلاه، فقد رأينا أنها حسب تقسيم الأئمة خمسة أرواح، ولكننا لا نجدها ضمن هذا التقسيم، ونلاحظ أن الآية تذكر أن المؤمنين أيدهم الله تعالى بالإيمان وروح منه، أي هي غير روح الإيمان، وكذلك هي ليست بروح القدس لأنها خاصة بالأنبياء وفي مرحلة لاحقة، ويمكن أن نستنتج أنها مرحلة تمهيدية سابقة على روح القدس، فقد ذكرت مصادر التاريخ والحديث أن الأنبياء قبل مرحلة النبوة (روح القدس) مرُّوا بفترة تفكير وتأمل في حقيقة العالم والخالق، ومن أوضح المصاديق إبراهيم الخليل “عليه السلام” : ((وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ*فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ*فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ*فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ*إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)). الأنعام 75 ــ 79. إن هذا التفكير والتدرج فيه للوصول إلى حقائق معينة كما حصل مع إبراهيم الخليل ليست خاصة بالأنبياء وإنما هي ميزة وهبة متوفرة في الإنسان، فهو ربما سيكون نبياً، أو حكيماً عظيماً : ((وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)) لقمان 12.
أو ملحداً : ((إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ*فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ*ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ*ثُمَّ نَظَرَ*ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ*ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ*فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ*إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ)). المدثر 18 ــ 24. و ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ)) الأعراف175.
ولكن الروح التي نفخت في آدم روح نقية ليست مشوبة بتجارب الحياة ومؤثرات البيئة الفكرية لأنها جاءت قبل أن تتشوه بهذه المؤثرات، ويسميها القرآن الفطرة : ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)) الروم30.
والهداية ((وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى)) الضحى7. وربما نعثر على تسميات أخرى مع التدقيق في آيات القرآن.
وقد لاحظ جملة من العلماء إلى هذا المعنى :
قال الشيخ الطوسي : ((وأيدهم بروح منه : أي قواهم بنور البرهان والحجج حتى اهتدوا للحق وعملوا به)). الطوسي، التبيان 9 : 557.
الزمخشري : ((وأيدهم بروح منه : بلطف من عنده حييت به قلوبهم)). الكشاف 4 : 78.
وبعد أن استحق الإنسان هذا المقام الفكري جاء الدور على قوانين الطبيعة لتتفاعل معه وتنسجم مع مستواه كما يقول العلامة الطباطبائي :
((فبيَّن أولاً أنهم لم يدعوا إلى السجود له لمادته الأرضية التي سوي منها، وإنما دعوا إلى ذلك لما سواه ونفخ فيه من روحه الخاص به تعالى الحاملة للشرف كل الشرف والمتعلقة لتمام العناية الربانية، ويدور أمر الخيرية في التكوينيات مدار العناية الإلهية لا لحكم من ذواتها، فلا حكم إلا لله)). الميزان 8 : 125.
هذا البيان للطباطبائي توكيد لما ذكرناه من أن شرفية الإنسان ظهرت عندما نفخت فيه روح المعرفة، وهنا نلتفت الى أن آدم ليست قيمته بجسده وإنما بروحه، ومنه نتعرف إلى ضحالة إدعاء أن تسلسل الإنسان من طبقة سابقة معينة (الإنسان البدائي) باطل، ويثبت أن الإنسان حتى بصورته الحالية ليس له قيمة من دون اصطفائه بأن جعل الله تعالى فيه الروح التي استوجبت تسخير ما في السموات والأرض. ولكن في نفس الوقت فإن هذا الإنسان أخذ من الروح جانبها الإبداعي المادي فأصبح يعيش في غابة. ولم تكن الروح التي نفخت في الإنسان القديم تعزل الجانب المعنوي عن المادي، وهنا تأتي قيمة التشريعات السماوية وفرقها الجسيم عن الوضعية التي لا تعير أهمية تذكر للجانب الروحي فأخذت تنحدر شيئاً فشيئاً، وكذلك إن النصوص الدينية متى ما تشوهت (بالانحياز الفئوي والتطرف) فإنها تصبح أكثر فظاعة من التشريعات الوضعية، كما نشهد اليوم في عالم التطرف الذي يؤكد مرة أخرى أن الإنسان لم تنس خلاياه بعد أنه كان جزءً من مجتمع الغابة الحيواني.
 
نلاحظ أن النصوص بعد أن توضح لنا أن هذه الروح ليست روح الحياة بالتالي فإن آدم كان حياً قبلها من دون ريب، أي هو يمتلك الأرواح الثلاثة فقط، بالتالي فإن وجوده سابق على هذه اللحظة التي يتحدث عنها القرآن، فإذا كان كذلك (وهو ما لا يمكن دفعه بسهولة) نصل إلى أنه وزوجه كانا متواجدين في ناحية ما وضمن مجتمع ما، وليس هنا ما يدعو لكثير من الاستغراب، فكل الأنبياء كانوا كآدم قبل البعثة، أي قبل الوحي، أي أنهم لم تأتهم الروح بعدُ كما مثلنا في إبراهيم الخليل، وهنا سنفهم ما قلناه سابقاً من قوله تعالى {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} آل عمران33، فهذا الاصطفاء يتضح في لحظة وجود هذه الروح، ولكن مقدماته سابقة على ذلك كما في مثل إبراهيم الخليل أيضاً.
 
ونستعرض الآن جملة من النصوص التي تؤكد نتائجنا أعلاه، والتي استفدناها كذلك من هذه النصوص من دون ريب :
((عن أسباط عن أبي عبد الله “عليه السلام” قال قلت: تسئلون عن الشيء فلا يكون عندكم علمه؟، قال : ربما كان ذلك. قلت : كيف تصنعون؟، قال : تلقَّانا به روح القدس)). الصفار 471. والكليني 1 : 398.
((عن عمار أو غيره قال : قلت لأبي عبد الله “عليه السلام” : فبما تحكمون إذا حكمتم؟، فقال : بحكم الله وحكم داود وحكم محمد “صلى الله عليه وآله” فإذا ورد علينا ما ليس في كتاب علي تلقانا به روح القدس وألهمنا الله الهاماً)). الصفار 472. والكليني 1 : 398. رواية عن الإمام الحسين “عليه السلام” بنفس المضمون عن مختصر البصائر 61.
((عن جابر قال قال أبو جعفر “عليه السلام” : إن الله خلق الأنبياء والأئمة على خمسة أرواح : روح القوة، وروح الإيمان، وروح الحياة، وروح الشهوة، وروح القدس، فروح القدس من الله وساير هذه الأرواح يصيبها الحدثان، فروح القدس لا يلهو ولا يتغير ولا يلعب، وبروح القدس علموا يا جابر ما دون العرش إلى ما تحت الثرى)). الصفار 474. والكليني، الكافي 1 : 272.
((عن ابي بصير قال قلت لأبي عبد الله “عليه السلام” : جعلت فداك، عن قول الله تبارك وتعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ*صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ) الشورى 52 ــ 53. قال : يا أبا محمد، خلقٌ والله أعظم من جبرئيل وميكائيل وقد كان مع رسول الله “صلى الله عليه آله” يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة يخبرهم ويسددهم)). الصفار 475.
((عن عبد الله بن طلحة، قال قلت لأبي عبد الله “عليه السلام” اخبرني يا بن رسول الله “صلى الله عليه وآله” عن العلم الذي تحدثونا به أمن صحف عندكم، أو من رواية يرويها بعضكم عن بعض، أو كيف حال العلم عندكم؟، قال : يا عبد الله، الأمر أعظم من ذلك وأجل، أما تقرأ كتاب الله؟، قلت : بلى. قال : أما تقرأ (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) أفترون أنه كان في حال لا يدرى ما الكتاب ولا الإيمان؟، قال قلت : هكذا نقرؤها. قال : نعم، قد كان في حال لا يدرى ما الكتاب ولا الإيمان، حتى بعث الله تلك الروح فعلَّمه بها العلم والفهم، وكذلك تجرى تلك الروح إذا بعثها الله إلى عبد علمه بها العلم والفهم)). الصفار 477 ــ 478.
((عن إبراهيم بن عمر قال قلت لأبي عبد الله “عليه السلام” : أخبرني عن العلم الذي تعلمونه أهو شيء تعلمونه من أفواه الرجال بعضكم من بعض، أو شيء مكتوب عندكم من رسول الله “صلى الله عليه وآله”؟، فقال : الأمر أعظم من ذلك، أما سمعت قول الله عز وجل في كتابه (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)؟، قال قلت : بلى، قال : فلمَّا أعطاه الله تلك الروح علم بها، وكذلك هي إذا انتهت إلى عبد علم بها العلم والفهم. تعرض بنفسه “عليه السلام”)). الصفار 479.
((عن أبي حمزة قال سألتُ أبا عبد الله “عليه السلام” عن العلم ما هو، أعلم يتعلمه العالم من أفواه الرجال، أو في كتاب عندكم تقرؤنه فتعلمون منه؟، فقال : الأمر أعظم من ذلك وأجل، أما سمعت من قول الله تبارك وتعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)، ثم قال : وأي شيء يقول أصحابكم في هذه الآية؟، فقلت : لا أدري جعلت فداك ما يقولون. قال : بلى قد كان في حال لا يدرى ما الكتاب ولا الإيمان حتى بعث الله إليه تلك الروح التي يعطيها الله من يشاء، فإذا أعطاها الله عبداً علَّمه الفهم والعلم)). الصفار 480. والكليني، الكافي 1 : 273 ــ 274. ومختصر بصائر الدرجات 3.
((عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله “عليه السلام” : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) الإسراء85. قال : هو خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله يوفقه، وهو معنا أهل البيت)). الصفار 481.
((عن أبي بصير قال : سألتُ أبا عبد الله “عليه السلام” عن الروح، قال : الروح من أمر ربي. فقال أبو عبد الله “عليه السلام” : خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل وهو مع الأئمة يفقهُّم (يوفقهم) قلت : ونفخ فيه من روحه؟، قال : من قدرته)). الصفار 482.
((عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عز وجل (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الإسراء85. قال : إن الله تبارك وتعالى أحد صمد، والصمد الشيء الذي ليس له جوف، وإنما الروح خلق من خلقه له بصر وقوة وتأييد، يجعله الله في قلوب الرسل والمؤمنين)). الصفار 483.
((عن محمد بن مسلم، قال : سألت أبا جعفر “عليه السلام” عن قول الله عز وجل : (ونفخت فيه من روحي)، قال : روح اختاره الله واصطفاه وخلقه وأضافه إلى نفسه وفضله على جميع الأرواح، فأمر فنفخ منه في آدم)). الصدوق، التوحيد 170. ومعاني الأخبار 16.
ــ ((عن الحلبي وزرارة، عن أبي عبد الله “عليه السلام” قال : إن الله تبارك وتعالى أحد صمد، ليس له جوف، وإنما الروح خلق من خلقه، نصر وتأييد وقوة، يجعله الله في قلوب الرسل والمؤمنين)). التوحيد 171.
((عن أبي جعفر الأصم، قال : سألت أبا جعفر “عليه السلام” : عن الروح التي في آدم “عليه السلام” والتي في عيسى “عليه السلام” ما هما؟، قال : روحان مخلوقان اختارهما واصطفاهما، روح آدم “عليه السلام” وروح عيسى “عليه السلام”)). التوحيد 172.
((عن أبي بصير، عن أبي جعفر “عليه السلام” في قوله عز وجل : (ونفخت فيه من روحي)، قال : من قدرتي)). التوحيد 172. ومعاني الأخبار 17، وفيه روى عن الإمام الصادق.
((وقال السهيلي : يدل على مغايرة الروح والنفس قوله تعالى (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي)، وقوله تعالى (َعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) المائدة 116، فأنه لا يصح جعل أحدهما موضع الآخر ولولا التغاير لساغ ذلك)). ابن حجر، فتح الباري 8 : 305.
((عن الضحاك : ونفخت فيه من روحي، قال : من قدرتي)). الطبري، جامع البيان 23 : 220.
وفي تفسير “ونفخت فيه من روحي” ((قال ابن عطاء : بدت عليه آياتي، وشواهد عزتي، وروحت سره بما يكون به العبيد روحانيين)). تفسير السلمي 2 : 190.
((“فإذا سويته”، عدلت صورته. “ونفخت فيه”، وأجريت فيه. (من روحي)، المخلوقة لي)). تفسير الواحدي 1 : 591.
((“ونفخت فيه من روحي” وجعل له به العقل والفهم والروية التي فضل بها على غيره)). الراغب الأصفهاني، مفردات غريب القرآن 14.
ـ((وذلك إشارة إلى الروح الذي هو من عالم الملائكة، ولا شك أن الهداية إنما تحصل من الروح، فقد ظهر بهذه الآيات أن الخلق مقدم على الهداية)). الرازي 24 : 144. أي أن خلق آدم مقدم على نفخ الروح فيه، وهي الهداية من دون شك إلى فهم محيطه وتسخيره.
وأورد هنا بياناً هاماً لأحد كبار فلاسفة الشيعة الإمامية الشيخ صدر الدين الشيرازي المعروف بـ الملا صدرا، حول تعددية الأرواح حيث ستتضح لنا الصورة أكثر :
((وقال ابن بابويه أيضا في كتاب الإعتقادات اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة “عليهم السلام” أن فيهم خمسة أرواح : روح القدس، وروح الإيمان، وروح القوة، وروح الشهوة، وروح المدرج. وفي المؤمنين أربعة أرواح. وفي الكافرين والبهائم ثلاثة أرواح. وأما قوله تعالى “ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي” فإنه خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل وإسرافيل كان مع رسول الله “صلى الله عليه وآله” ومع الملائكة وهو من الملكوت. انتهى كلامه. وقد أخذ هذا الكلام من أحاديث أئمتنا المعصومين “صلوات الله عليهم أجمعين”. والمراد من روح القدس الروح الأول الذي هو مع الله من غير مراجعة إلى ذاته، وهو المسمى عند الحكماء بالعقل الفعال. ومن روح الإيمان العقل المستفاد الذي صار عقلاً بالفعل بعد ما كان عقلاً بالقوة. ومن روح القوة النفس الناطقة الإنسانية وهي عقل هيولاني بالقوة. ومن روح الشهوة النفس الحيوانية التي شأنها الشهوة والغضب. ومن روح المدرج الروح الطبيعي الذي هو مبدأ التنمية والتغذية. وهذه الأرواح الخمسة متعاقبة الحصول في الإنسان على التدريج. فالإنسان ما دام في الرحم ليس له إلا النفس النباتية. ثم ينشأ له بعد الولادة النفس الحيوانية أعني القوة الخيالية. ثم يحدث له في أوان البلوغ الحيواني والاشتداد الصوري النفس الناطقة وهو العقل العملي. وأما العقل بالفعل فلا يحدث إلا في قليل من أفراد البشر وهم العرفاء والمؤمنون حقا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وأما روح القدس فهو المخصوص بأولياء الله. وهذه الأرواح الخمسة أنوار متفاوتة في شدة النورية وضعفها كلها موجودة بوجود واحد ذي مراتب متدرجة الحصول فيمن وجدت له.
والذي يعضد ما ذكره صاحب الإعتقادات من طريق الرواية ما نقل عن كميل بن زياد أنه قال : سألت مولانا أمير المؤمنين علياً “عليه ألف التحية والسلام” فقلت : يا أمير المؤمنين، أريد أن تعرِّفني نفسي، قال : يا كميل، وأي النفس تريد أن أعرفك؟، قلت : يا مولاي وهل هي إلا نفس واحدة، قال : يا كميل، إنما هي أربعة : النامية النباتية، والحسية الحيوانية، والناطقة القدسية، والكلية الإلهية. ولكل واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان. فالنامية النباتية لها خمس قوى : جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة ومولدة. ولها خاصيتان : الزيادة والنقصان وانبعاثها من الكبد . والحسية الحيوانية لها خمس قوى : سمع وبصر وشم وذوق ولمس، ولها خاصيتان : الشهوة والغضب وانبعاثها من القلب. والناطقة القدسية لها خمس قوى : فكر وذكر وعلم وحلم ونباهة. وليس لها انبعاث وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكية. ولها خاصيتان : النزاهة والحكمة. والكلية الإلهية لها خمس قوى : بقاء في فناء، ونعيم في شقاء، وعزٌّ في ذل، وغنى في فقر، وصبر في بلاء. ولها خاصيتان : الرضا والتسليم. وهذه التي مبدؤها من الله وإليه تعود. قال الله تعالى “ونفخت فيه من روحي”. وقال “يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية” والعقل وسط الكل)). صدر الدين الشيرازي، المشاعر 118 ــ 119.
 
إذاً حصلت عندنا نتيجة نهائية أن تلك الروح التي نفخها الله في آدم هي القدرة على التفكير وليست هي الحياة أو (روح الحياة حسب النصوص). ونحصل أيضاً على نتيجة قطعية أن آدم كان بشراً كامل الخلقة يمشي ويأكل ويشرب ويمارس حياته التي تناسب تلك الفترة، قبل نفخ الروح أي هو مخلوق ومضى له عمر معين قبل تلك اللحظة، وعرفنا فيما مضى أن هذا الحدث الذي أصبح فيه كامل الوعي حين بلغ من العمر أربعين عاماً، ومن غير المتوقع أن يتحصل آدم الذي يمثل بداية الوعي على روح المعرفة منذ اليوم الأول لنشأته، بينما نعرف أن جميع الأنبياء تحصلوا عليها بعد مضي فترة من شبابهم، وحتى على فرض أن هذه الروح لازمت عيسى بن مريم منذ ولادته فلا محيص عن القول أنه ولد بشكل طبيعي، ولكنه لم يبعث بعد حتى بلغ أربعين أو ثلاثين سنة على أقل التقادير، ونحن نعرف أن البشرية سارت في طريق التكامل بالتالي فإن روح المعرفة التي وجدت في آدم لا بد أنها  وجدت بعد تجارب بشرية طويلة سابقة ولكنها فاشلة وفوضوية، حتى جاءت تلك اللحظة التي عجزت فيها القوانين الطبيعية لوحدها أن توجد من يحمل الأمانة أي القدرة على إعمار الأرض بالشكل العاقل الذي قام به الإنسان، وهذا يدخل ضمن السنة التي خلقها الله وفق قانون (يأبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها)، وهنا جاءت لحظة الكشف عن النقصان في الطبيعة والقوانين والقوى التي تسيرها وهي ما نعبر عنه بالملائكة، فجاءت لحظة الوعي والمعرفة وإن كانت بدائية حسب نظرتنا الحالية ولكنها كما سمعنا من الأستاذة براون “تغير بالغ السرعة” قياساً الى تأريخ البشرية الطويل السابق.
ولنا معكم لقاء في حلقة قادمة بإذن الله تعالى.