23 نوفمبر، 2024 12:03 ص
Search
Close this search box.

آدم ليس أول البشر / ح 13 – ج3 / جنة آدم وشجرة الخطيئة

آدم ليس أول البشر / ح 13 – ج3 / جنة آدم وشجرة الخطيئة

الخطيئة :

وردت عدة تفاسير لخطيئة آدم وخروجه من الجنة، أي انتقاله من هذا الموضع إلى آخر، وهذه جملة من هذه الآراء أو التفاسير :

يرى كارم محمود : ((إن المعرفة لدى الرجل كانت سابقة على تناول ثمار شجرة المعرفة، فهذا ما يؤكده نص الإصحاح الثاني من سفر التكوين (2 : 19 ــ 20)، حيث أن الرب بعد أن خلق الحيوانات والطيور، أحضرها إلى الرجل “ليرى ماذا يدعوها”، فدعاها الرجل بأسمائها، وكلمة “ليرى : لرؤت” توحي بأن الإنسان يمتلك الرؤية الحرة التي تنم عن معرفة وتمحيص واختبار واختيار، وهو ما يثبت أن الرجل كان بالفعل مكتسباً للمعرفة العقلية قبل تناوله من ثمار شجرة المعرفة. وقد يؤيد ذلك فكرة تجسيد المعاني المجردة، حيث لم تكن الشجرةُ شجرةَ معرفة. ومن هنا فمن المحتمل أن المسألة ليست لها علاقة بالمعرفة، وإنما يمكن القول بأنه ما دامت الثمار كانت مشاركة بين المرأة والرجل، بوساطة الحية التي تحمل رمزاً جنسياً، فإن المسألة تتعلق بالعلاقة الجنسية بينهما)). أساطير التوراة الكبرى 179.

وهذا الرأي تمَّ استنتاجه مباشرة من قصة أنكيدو السالفة، والتي عرفنا مما مضى أن أنكيدو انتقل من عالم الوحشية إلى عالم المدينة والاستقرار بعد أن اتصل بالمرأة للمرة الأولى، وأن عينيه انفتحتا وبات يعرف أموراً كان يجهلها، وهذا ما قد يُفهم من التوراة وبعض آيات القرآن التي ربطت بين الخطيئة ورؤية السوءة (التي فسرت بالعضو الجنسي)، وهذا ما سنأتي على مناقشته. إلا أن كارم محمود يخلط بين مفهومي المعرفة بوظائف الأشياء وطريقة تسخيرها، وبين معرفة الخير والشر، وهما مفهومان مختلفان كما سوف يتضح.

ويرى هنري ساكز : ((أما التحول الاقتصادي المعتمد على زراعة المحاصيل ولا سيما الحبوب، وتدجين الحيوان، فلعله قد بدأ في الشرق الأدنى، كما يستدل على ذلك من الأدلة المتوفرة في الألف الثامن قبل الميلاد، في المنطقة الواقعة بين فلسطين وأناضوليا  وسلسلة جبال زاكروس، وبانسحاب النهر الجليدي القطبي في نهاية العصر الجليدي الأخير، تغير اتجاه رياح أمطار المحيط الأطلسي نحو الشمال وبدأ الجفاف في أنحاء الشرق الأدنى فنمت أصناف برية مختلفة من الحنطة والشعير في هذه المنطقة كما وُجدت الأصول المتوحشة للكلاب والماعز والأغنام والماشية والخنازير. وكان لزاماً على الإنسان آنذاك في سبيل البقاء أن يحصل على انتاج قوته فبدأ بالنزوح تدريجياً من المناطق المرتفعة واستقر في واحات ذات مياه وفيرة حيث يتمكن من انبات المحاصل والحبوب ويرعى قطعانه طالما أن استمرار تناقص النباتات البرية والطرائد التي كان يصطادها لم يعد يسمح له بأن يظل يعيش على مجرد جمع القوت. ومما لا شك فيه أن هذا التغيير لا بد وأنه كان كغيره من الثورات التالية، مؤلماً لأولئك المعنيين به مباشرة، ولعله انعكس في بعض قصص فقدان العصر الذهبي الموجودة في كثير من الأساطير وأكثرها وضوحاً : قصة العهد القديم الخاصة بطرد آدم من جنة عدن حيث أصبح الإنسان بعد ذلك لا يأكل الخبز إلا بعرق جبينه بعد أن كانت جميع المخلوقات وثمار الأشجار متوفرة وموجودة أمامه للأكل دون مقابل)). عظمة بابل 26 ــ 27.

وهذا الرأي مهم جداً إذ يحتمل أن يكون السبب في انتقال آدم من هذا الموضع هو الجدب الذي حصل فيه للأسباب التي ذُكرت، ولكنها أسباب حصلت لاحقاً بعد أن ارتكب آدم خطيئته فكان من نتائجها وآثارها الوضعية هذه المشكلة الاقتصادية أو البيئية، ولكن كما نعلم فإن النصوص الدينية تتحدث عن الأسباب المعنوية دائماً، أي كما في المصطلح الديني (الأسباب الواقعية وتغيير النية)، وسنعلم أن ما حصل لآدم هو هذا.

((أما بالنسبة للتفسير التاريخي، والذي قال به “أرنولد توينبي”، فمؤداه أن صورة الرجل والمرأة في جنة عدن ما هي إلا صدى للمرحلة الاقتصادية في عصور ما قبل الحضارات والتي كانت تعتمد على التقاط وجمع الثمار، أما عملية السقوط، فهي ترمز الى طرح التكامل التام ــ الذي تمثله الجنة، ثم البدء في عملية تفاضل جديدة من المحتمل أن تؤدي فيما بعدُ إلى عملية تكامل جديدة أخرى. وأما الخروج من الفردوس أو الطرد منه فإنه لم يكن سوى تجربة ترتبت على قبول تحدي الحية، بينما لم تكن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة سوى فعل الخلق الاجتماعي)). كارم محمود، مصدر سابق 184.

وهذا الرأي صحيح أيضاً، أي أن الانتقال هو البدء في عملية تفاضل جديدة تناسب مع الوعي الذي حصل لآدم، حيث أن الموضع الأول (الجنة) لم يعد يلبي مطالب آدم ومجتمعه الصغير، وطموحاته التي نشأت بعد أن انفتحت عيناه، وحسب التعبير القرآني (نفخ الروح) وعرفنا أنها روح الوعي ومعرفة وظائف المحيط، وتوظيفه لأهداف جديدة، أما العملية الجنسية فلا دخل لها بالأمر كما سوف نرى.

 

بعد أن رجحنا أن الشجرة التي منع منها آدم هي التي أشارت إليها التوراة أنها (شجرة معرفة الخير والشر) أما شجرة الحياة فهي ليست متيسرة في تلك الفترة من حياة آدم، وهنا لا بد من التفريق بين معرفة الأشياء وعملها (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) البقرة 31. وبين معرفة الخير والشر، هذا الشر الذي عرَّفه القرآن بـ(سوآتهما) أي النقائص والعيوب، والخير في تغطية هذه السوءآت أو العيوب والنقائص، وسيأتي تفصيله.

 

وردت الشجرة في القرآن بمعان متعددة، منها الشجر المادي، والشجر المعنوي، ومما ورد في الأخيرة :

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء }إبراهيم24.

{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ }إبراهيم26.

{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً }الإسراء60.

{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }النور35.

وعرفنا أن الذي دفعهما الى (الأكل ــ التذوق ــ الإقتراب) من الشجرة هو الشيطان (الجهة الدنيوية من النفس التي تبحث عما هو أفضل والذي قد يؤدي إلى الشقاء)، فأدَّى هذا الأكل (الخطيئة) إلى خروجهما من الجنة، ولكي تتضح الصورة أكثر نعرض بياناً قرآنياً آخر يفسر لنا بشكل أقرب معنى أكل الشجرة أو الخطيئة.

وهل أن الخطيئة المذكورة على النحو الشرعي، أي الذنب المستحق للعقوبة الشرعية، أم أنها خطيئة مباحة مقدرة وحتمية مسبقاً؟.

وما هي السوءات التي بدت لآدم وزوجه، والتي لم تكن بادية قبل ذلك، هل هي سوءة بالمعنى الجسدي، أو غير ذلك؟.

 

{فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ }الأعراف22.

{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ }الأعراف20.

{يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }الأعراف27.

ــ نلاحظ أن القرآن يصف فعل الشيطان بأنه مرة (ينزع عنهما لباسهما)، وأخرى من نفس السورة الآية 20، بأن الأكل من الشجرة سيؤدي إلى ما هو أفضل : مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ.

نلاحظ : أن نزع اللباس وأكل الشجرة واحد ونتيجته رؤية السوءة أو ما خفي (ووري) منها، أي هناك جانب غير ظاهر في السوءة ظهر لهما، وقد فسرت السوءة بأنها العضو الجنسي، وهذا غير صحيح بشيء من التأمل في آيات القرآن.

إذ نلاحظ أن الآية الثانية لا تتعرض للشجرة وإنما تذكر الحدث بتعبير آخر يؤدي إلى نفس النتيجة دون شك، وعليه فمن المرجح جداً أن أكل أو تذوق الشجرة هو نفسه نزع اللباس، ونزع اللباس الإلتفات الى السوءة التي هي عيوب ونقائص، أي أن آدم استعجل الكمال قبل أوانه ولم ينتظر، وهنا  نستذكر آية لها صلة مسيسة (حسب رأيي على الأقل) قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }المائدة101. والسوءة وما (يُسئ) لأصل واحد، ونلاحظ أنه القرآن ينصح بعدم التسرع والسؤال عما هو ليس من التكليف الحالي أو ما هو فوق مستوى الفهم الحالي، وإلا سينتج عنه ما يسؤهم، ولو انتظروا فإن ما يطلبون سـ(يبد) لهم أي سيتحقق بالاستحقاق وليس بالاستعجال الذي حصل مع آدم وزوجه {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى }طه 121.

ولمزيد من البيان، وبعد أن اقتربنا من معنى الشجرة، والتي هي العالم الذي باتا يعرفان من خلال تذوقه نفسياً معنى الشر والخير، أي بالمستوى الذي كانت تعيه تلك الأجيال، فدفعهما (الحرص) إلى الخروج المعنوي من حال التسليم الأول الذي كانا عليه، أي انهما لم يقتنعا بالحال الذي كانا عليه، لأنه لا يكاد يختلف (بمعناه الدنيوي) عن حال الكثير من البهائم المحيطة بهما، ولأن آدم أصبحت لهم (معرفة) حيث تعلم الأسماء وأهدافها وما يمكن أن يستفيده منها، كان لا بد له من الانتقال إلى تسخير هذه المسميات (الأشياء) طلباً لما هو أفضل نفسياً له، فمن المؤكد أن عالم الفكر أعلى شأناً من عالم الجنة (الأكل والنوم والترف).

نستوضح أولاً معنى (التذوق، الأكل) حسب القرآن : ((وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ)). يونس21.

((وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ)). هود9. كما مضى.

((وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)). الروم36.

((وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ }هود10.

((إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً }الإسراء75.

((وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }الحج25.

وغيرها من الآيات التي توضح أن معنى التذوق ليس خاصاً بهذه الحاسة المادية. وإنما هو تذوق نفسي معنوي وله آثار خارجية.

أما الأكل فهو الآخر ورد على النحوين المادي والمعنوي في العشرات من الآيات منها :

((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }البقرة174.

((لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }المائدة63.

ولاحظنا أن (الأكل أو التذوق) من الشجرة نتج عنه أن بدت لآدم وحواء (سوءاتهما) : {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ }الأعراف22.

و (الأكل والتذوق) مرادف لنزع اللباس، كما جاء في الآية : {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا}الأعراف27.

كما أن (الأكل والتذوق من الشجرة) مرادف لـ(نزع اللباس) فهما مرادفان لـ(وسوسة الشيطان، أي نفسيهما) : {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ }الأعراف 20.

فيكون كل من : (الأكل من الشجرة) و(نزع اللباس) و(الوسوسة) تعابير مختلفة لمقصود واحد.

فإذا اتضح لنا أن الأكل من الشجرة أمر معنوي، وانتقال إلى مرحلة أخرى من الوعي والإدراك بوجود (سوءات)، أي عيوب وليس بمعنى (العورات) أي الأعضاء الجنسية، ونلاحظ هنا أن القرآن قال (سوءاتهما) بالجمع (سوءات)، ولم يقل (سوءتيهما)، لأن ما لاحظاه عيوب ونقائص نتيجة المعرفة التي وهبها الله لهما.

أما معاني السوءة :

قال الزبيدي :  ((السوأة : كل عمل وأمر شائن، يقال : سوأة لفلان، نصب لأنه شتم ودعاء. والفاحشة والعورة، قال ابن الأثير : السوأة في الأصل : الفرج، ثم نقل إلى كل ما يستحيا منه إذا ظهر من قول وفعل، ففي حديث الحديبية والمغيرة : وهل غسلت سوأتك إلا الأمس. أشار فيه إلى غدر كان المغيرة فعله مع قوم صحبوه في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، وفي حديث ابن عباس في قوله جل وعز “وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة” قال : يجعلانه على سوآتهما، أي على فروجهما. والسوأة : الخلة القبيحة أي الخصلة الرديئة كالسوآء وكل خصلة أو فعلة قبيحة سوآء، والسوأة والسوآء : المرأة المخالفة، قال أبو زبيد في رجل من طي نزل به رجل من بني شيبان فأضافه الطائي وأحسن إليه وسقاه، فلما أسرع الشراب في الطائي افتخر ومد يده، فوثب الشيباني فقطع يده، فقال أبو زبيد :

ظل ضيفاً أخوكم لأخينا * في شراب ونعمة وشواء

لم يهب حرمة النديم وحقت * يا لقوم للسوأة السوآء)). تاج العروس 1 : 177 ــ 178. وأنظر ابن منظور، لسان العرب.

وما ذكره الزبيدي أعلاه من أن السوأة في الأصل الفرج، أي العضو الجنسي ليس صحيحاً، فكلا من اللفظين لم يوضعا للعضو الجنسي بل له لفظ خاص به سواء في المرأة أو الرجل، كما هو معلوم، ولا يطلق لفظ العضو الجنسي للذكر والأنثى على معان أخرى، بينما السوأة والفرج تطلق على معان أخرى أوسع بكثر من إطلاقهما على العضو الجنسي.

الخلاصة أن السوءة كل خلة وقبح، ومنها إظهار العورة المادية، ولكنها ليست هي المقصودة بالكلام دائماً، إلا بقرينة، وهذا ما نلاحظه في قوله تعالى : {فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ }المائدة31. فالسوءة هنا بمعنى :

قال الشيخ الطوسي ((ومعنى “سوءة أخيه” قيل فيه قولان : أحدهما – قال أبو علي : إنه جيفة أخيه، لأنه كان تركه حتى أنتن فقيل لجيفته سوءة. وقال غيره : معناه عورة أخيه. والظاهر يحتمل الامرين. وأصل السوء التَّكَرُّه، تقول : ساءه يسوءه إذا أتاه بما يكرهه)). التبيان في تفسير القرآن 3 : 500. والطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 3 : 318.

الزمخشري ((“سوءة أخيه” عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده، والسوءة الفضيحة لقبحها، قال : يا لقوم للسوءة السوآء : أي للفضيحة العظيمة فكنى بها عنها)). الكشاف 1 :608، وتفسير الرازي 11 : 209.

أما قول جلُّ المفسرين أن المراد من (سوءآتهما) عضواهما الجنسيان، فهو ليس بصحيح جزماً، لأنهما كانا متزوجين سلفاً، كما أنهما كانا كاملي الخلقة من قبل ذلك دون شك : {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }التين4. أي أكمل خلقة.

ولاحظنا فيما مضى أن إحدى الآيات تشير إلى أنهما بدا لهما ما كان قد خفي عنهما من سوءاتهما، أي العيوب والنقائص التي لم يكونا ملتفتين إليهما.

أما قوله تعالى (فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة)، فقد أجمع المفسرون تقريباً، على أنهما سترا عورتيهما بورق التين أو غيره، مع أننا علمنا فيما مضى أن وعد الله لآدم أنه لن يجوع في الجنة أو يعرى، بالتالي فهو كان يعرف تغطية جسده أو عورته على الأقل قبل هذا اليوم، ويعرف أن العري معيب : {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى }طه118.

أما معنى (يخصفان عليهما من ورق الجنة)، فإن معنى (الخصف)، فمن الراجح أنهما بدءا بالاستفادة من ورق الجنة، ومنه خوص النخل لعمل منزل بدائي، أو سلال وغيرها مما يحتاجاه لجمع الغذاء، أو لعمل سور من القصب ونحوه لإيواء الحيوانات خاصتهما :

روى المحب الطبري : عن رسول الله “صلى الله عليه وآله” : (إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله قال أبو بكر “رضي الله عنه” : أنا هو يا رسول الله؟. قال : لا، ولكن خاصف النعل في الحجرة. وكان أعطى علياً نعله يخصفها) أخرجه أبو حاتم . وأصل الخصف الضم والجمع، وخصف النعل إطباق طاق على طاق، ومنه قوله تعالى (يخصفان عليهما من ورق الجنة). ذخائر العقبى 76.

وقال العلامة المجلسي : ((والخصف : أن تضم الشيء إلى الشيء وتشكه معه)). بحار الأنوار 22 : 287.

ابن حجر : ((“قوله أخصف نعلي” أي أخرزها، وأصل الخصف الضم والجمع، ومنه “يخصفان عليهما من ورق الجنة” أي يجمعان بعضه إلي بعض (قوله خَصَفة) بفتحتين، وحجرة مخصفة : هي حصير من خوص)). فتح الباري بشرح صحيح البخاري، المقدمة 109.

الجوهري : ((والخَصَفَة بالتحريك : الجلة التي تعمل من الخوص للتمر)). الصحاح 4 : 1350. وهو يؤكد ما سبق، أما قولهم أن الخصف هو أنهما يخصفان عليهما من ورق الجنة أي يلزقان بعضه ببعض ليسترا به عوراتهما، وأن هذا الورق هو ورق التين، فغير مفهوم باعتبار أن آدم كان كاسياً غير عارٍ، لأنه عرف عمل الأشياء حوله (علم آدم الأسماء كلها)، ومنها الاستفادة من المواد المتاحة كصوف الغنم ليعمل به ثوباً. وسيأتي أنه كان في الجنة من الأساس يمتلك ماشية أخرجها معه لاحقاً من الجنة إلى شرق العراق. كما أن تعيينهم لورق التين دون غيره ليس مفهوماً، وكيف يلزق ورق التين ببعضه لينتج مئزراً؟.

قال الزبيدي : ((الخُصَّاف ، كَرُمَّان : حصير من خوص)). تاج العروس 12 : 174.

الجوهري، الصحاح 3 : 1038، (والخوص : ورق النخل ، الواحدة خوصة). وهو يعني أن آدم وزوجه شرعا ببناء بيت لهما من خوص وغيره لما عرفا بسوءاتهما أي نقائصهما. كما نلاحظ أن القرآن يقول (يخصفان عليهما) وليس على سوءتيهما، ويدعمه أن قابيل قال (فأواري سوءة أخي) أي بدنه، والمواراة هنا تمام التغطية وسترها بالكامل.

الطوسي 4 : 272 ــ 273 : ((وقوله ” فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما ” أي ظهرت عورتاهما، ولم يكن ذلك على وجه العقوبة، لأن الأنبياء لا يستحقون العقوبة، وإنما كان ذلك لتغير المصلحة، لأنهما لما تناولا من الشجرة اقتضت المصلحة اخراجهما من الجنة ونزعهما لباسهما الذي كان عليهما، واهباطهما إلى الأرض، وتكليفهما فيها. وقوله “وطفقا” قال ابن عباس : معنى طفق جعل يفعل، ومثله قولهم : ظل يفعل واخذ يفعل وابتدأ يفعل، فقد يكون ذلك بأول الفعل وقد يكون بالقصد إلى الفعل، ويقال : طفق يطفق وطفق يطفق طفقاً. وقوله “يخصفان عليهما من ورق الجنة” معناه يقطفان من ورق الجنة ليستترا به، ويحوزان بعضه إلى بعض، ومنه المخصف : المثقب الذي يخصف به النعل، والخصاف الذي يرفع النعل، قال الشاعر : واسعى للندى والثوب جرد * محاسرة وفى نعلي خصاف. يعني ترقيع.

وقال الأعشى : قالت أرى رجلاً في كفه كتف * أو يخصف النعل لهفي آيةً صنعا.

ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله (خاصف النعل في الحجرة ) يعني علياً (عليه السلام). والإخصاف سرعة العدو، لأنه يقطعه بسرعة. والخصف ثياب غلاظ جداً، لأنه يعسر قطعها لغلظها. وكان الحسن يقرأ “يُخَصِّفان ” بمعنى يختصفان. وقوله “من ورق الجنة” قيل : انه من ورق التين. وأصل الورق ورق الشجرة، ومنه الورق اسم الدراهم. والورقة سواد في غبرة كأنه كلون الورق الذي بهذه الصفة، وحمامة ورقاء. وفي ذلك دلالة على أن ستر العورة كان واجباً في ذلك الوقت)).

وذكر الطوسي أيضاً في نفس المصدر 4 : 273 ــ 274 ((قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. آية بلا خلاف. في هذه الآية حكاية عما قال آدم وحواء (عليه السلام) لما عاتبهما الله ووبخهما على ارتكابهما ما نهاهما عنه، وإخبار عن اعترافهما على أنفسهما بأن قالا : “ربنا ظلمنا أنفسنا”، ومعناه بخسناها الثواب بترك المندوب إليه. والظلم هو النقص. وعلى مذهب من يقول إنهما فعلا صغيرة لابد ان يحمل قوله “ظلمنا أنفسنا” على تنقيص الثواب، لأن عندهم أن الصغيرة أنقصت ثواب طاعاتهم، فكان ذلك ظلماً للنفس، فأما من يقول : ان الصغيرة تقع مكفرة من غير أن تنقص من ثواب فاعلها شيء، فلا يتصور معنى لقوله “ظلمنا أنفسنا” ولا يثبت فيهما فائدة، لأنهما لم يستحقا عقابا بلا خلاف. وصفة ظالم مفارقة لقولنا : ظلمنا، لان الظالم اسم ذم في أكثر التعارف، وظلم قد يستعمل في غير المستحق للعقاب والذم، كما أن اسم (مؤمن) اسم مدح لمستحق الثواب، وآمن يؤمن بخلاف ذلك عند القائلين بالوعيد. وقوله “وإن لم تغفر لنا” معناه ان لم تستر علينا، لأن الغفر هو الستر على ما بيناه فيما مضى)).

بالرغم من التشويش في بيان الشيخ الطوسي والدوران حول القضية من دون أن يعطينا نتيجة وتفسير للخطيئة بشكل واضح، إلا أنه متأكد أن كلا من آدم وحواء لم يرتكبا ذنباً أو خطيئة بالمفهوم الشرعي أو العرفي، وكذلك فهو يسير على خطى المفسرين الآخرين بإقحام الدين والشريعة في الأمر بقوله أعلاه : (وفي ذلك دلالة على أن ستر العورة كان واجباً في ذلك الوقت). إلا أن نفهم أن الواجب هنا باعتبار أن الإنسان قبل هذا اليوم، أي قبل آدم، كان يغطي بدنه، لأننا لا نفهم الوجوب الشرعي أو العرفي في تغطية البدن أو العورة في مجتمع لم يكن فيه غير زوج وزوجته (حسب الشائع عند المفسرين)، وليس هناك وجوب شرعي أو عرفي في تغطية البدن بين الزوجين.

ولبيان ذلك أكثر : نعلم مسبقاً أن آدم تعلَّم الأسماء، وأنه عرف الصلة بين تلك المسميات، بالتالي عرف وظائف الأشياء المحيطة به، وأنه قادر على أن يجمع بين شيئين أو أكثر ليخرج بنتاج منها، ولكنه حتى تلك اللحظة لم يكن يفكر بعدُ بالاستفادة عملياً من تلك المعرفة لغناه عنها، بحسب مستوى حياته ومتطلباتها البسيطة، وفي لحظة لاحقة أدرك أنه يمكن أن تكون له حياة أفضل، بأن ينطلق إلى مستوى آخر، يستغل فيه معرفته، وهذا التفكير قدح في عقله عندما لاحظ أن هناك نواقص وعيوب في محيطه (جنته)، فهو يمكن أن يكون له بيت، وأن يجمع المواشي والأغنام المتوفرة والمتناثرة في هذه الجنة، وأن يبدأ بتخزين الأغذية خشية من فقدانها، كما أن المعرفة التي تميز بها ما كانت لتدعه في هذا الموضع من دون أن يغذي نهمها بتكريسها عملياً.

ولاحظنا مسبقاً أن الناتج من أكل الشجرة هو نزع لباس كان على آدم وحواء بنص القرآن، وأن الذي ينزع هذا اللباس هو الشيطان (ينزع عنهما لباسهما ليريهما ما ووري عنهما من سواءاتهما).

فأولاً : لو حملنا اللباس على المعنى المادي فهذا يتعارض مع كونهما كانا عاريين، وأنهما كانا يعرفان ستر جسديهما، فهل من المنطقي أن نقبل القول أنهما كانا لا يعرفان سوءتيهما الماديتين.

ثانياً : إن الشيطان ليس كائناً مادياً يقوم بفعل مادي، وقد خلصنا فيما مضى إلى ذلك بوضوح، بالتالي فإن فعله معنوي وهو الوسوسة والأمر بكل ما من شأنه ضرر الإنسان، وعلى ذلك يكون اللباس هو الآخر لباساً معنوياً، وقد ورد ذلك في القرآن أيضاً، كما في قوله تعالى : {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }الأعراف26. وقوله : (أحل لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن). البقرة 187. و (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف). النحل 112. و (وجعلنا الليل لباساً). النبأ 10. وغيرها من الآيات.

ثالثاً : نلاحظ أن الندم من آدم وحواء لم يحصل بعد الأكل من الشجرة، وإنما لاحقاً بعد الخروج من الجنة إلى عالم المعاناة والعمل، وهذا إحساس طبيعي يواجهنا جميعاً حين نترك حياة الراحة ونبحث عن الاكتشاف، وحينما تواجهنا الحياة بمصاعبها نندم في أحيان كثيرة، إلا أننا سنعرف في كثير من الأحيان أن النتائج التي خرجنا بها تستحق هذا العناء، وقد لا تظهر هذه النتائج في حياتنا.

ويرى السيد محمد باقر الصدر : ((إن الله سبحانه قدَّر لآدم الذي يمثل أصل الجنس البشري أن يمر بدور الحضانة التي يمر بها كل طفل ليتعلم الحياة وتجاربها، فكانت هذه الجنة الأرضية التي وُجدت من أجل تربية الاحساس الخلقي لدى الانسان والشعور بالمسؤولية وتعميقه من خلال امتحانه بما يوحيه إليه من تكاليف وأوامر. وقد كان النهي عن تناول الشجرة هو أول تكليف يوجه إلى هذا الخليفة ليتحكم في نزواته وشهواته، فيتكامل بذلك ولا ينساق مع غريزة الحرص وشهوة حب الدنيا التي كانت الأساس لكل ما يشهده مسرح التأريخ الانساني من ألوان الاستغلال والصراع. وقد كانت المعصية التي ارتكبها آدم هي العامل الذي يولد في نفسه الاحساس بالمسؤولية من خلال مشاعر الندم فتكامل وعيه بهذا الاحساس، في الوقت الذي كانت قد نضجت لديه خبرات الحياة من خلال وجوده في الجنة. وكان الهدى الإلهي يتمثل بخط الشهادة وهو الوحي الإلهي الذي يتحمل مسؤوليته الأنبياء لهداية البشرية وبذلك تتكامل المسيرة البشرية ويتطور الانسان ويسمو على المخلوقات من خلال التعليم الرباني والهدى الإلهي الذي يجسده شهيد رباني معصوم من الذنب يحمله إلى الناس من أجل تحصينهم من الضلال : (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)). محمد باقر الحكيم، علوم القرآن 477.

إلا أن السيد الصدر لم يفسر لنا ما هي الشجرة التي أعقبت الندم، مع أن الندم لم يتضح من آدم في لحظة الأكل من الشجرة، بل إننا نشاهده بدأ بالعمل مباشرة بعد أن تذوق منها، عندما ظهرت له سوءاته، وإنما ظهر الندم والتألم عنده بعدما خرج من الجنة  إلى عالم المعاناة (والشقاء) والذي كانت نتيجة طبيعية لم يكن آدم قد قدَّرها بفعل عجلته : {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى }طه117. إضافة إلى أن إسهاب السيد الصدر خارج الموضع تماماً. وقد أجمع المفسرون أن معنى الشقاء هنا هو الكد والتعب والعمل :

قال العلامة المجلسي : ((“فتشقى” أي فتقع في تعب العمل وكد الاكتساب والنفقة على زوجتك، ولذلك قال : “فتشقى” ولم يقل : “فتشقيا” وقيل : لأن أمرهما في السبب واحد فاستوى حكمهما)). بحار الأنوار 11 : 159.

وهذا ما تؤكده آية أخرى : {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}البقرة36. ومن الواضح أن الذي كانا فيه هو الراحة والرزق المتاح والبساطة، فخرجا إلى ما فيه العناء والشقاء.

ولكن الصدر أعلاه لا يعني (بالطبع) من قوله : (النهي عن تناول الشجرة هو أول تكليف). أي التكليف الشرعي حسب ما نعرفه، لأننا نقطع بأنه لم تكن هناك تكاليف أو شريعة بهذا المعنى الفقهي الذي يشير إليه الصدر (الفقيه). لأن النهي الوارد في القرآن لآدم هو نهي تكويني وليس تشريعياً، أي أنه رغب عن حياة الجنة طواعية، واختار حياة أخرى تتناسب مع معرفته المكتسبة، بالتالي فهي خطيئة بحق نفسه تكويناً، كما لو أن إنساناً ما يعيش حياة هادئة هانئة ولكنها روتينية لا تلبي حب الاستطلاع والاكتشاف في نفسه التواقة لتكريس معرفته، فضجر منها ورغب في أن يعيش مغامرة تخرجه من هذه الحياة النمطية الباردة، فتكون نتيجة المغامرة ما لم يكن في حسبانه، أي أن العواقب كانت مؤلمة له بدنياً ونفسياً، فهو بات يشقى في العمل ويحتمي من الحيوانات المفترسة له أو لأسرته أو حيواناته الأليفة، كما أن المنافسة أو الحسد دفع أحد ولديه إلى قتل الآخر. ولكن هذه المرحلة كانت ضرورية وأساسية لإعمار الأرض وجعلها مستعدة للأجيال القادمة.

وأشار الشهيد الصدر بقوله : ((في الوقت الذي كانت قد نضجت لديه خبرات الحياة من خلال وجوده في الجنة)). في الوقت الذي نحن على يقين منه أن تجربة الشجرة هي الأولى والتي على أثرها بدأ بتجارب العناء والعمل. ولم تكن عند آدم أي خبرات اكتسبها من الجنة سوى المعرفة النظرية (معرفة الأسماء)، والتي نتج عنها تذوق الشجرة، ومن بعد ذلك بدأت التجارب وليس قبلها. إلا أن نقول أن بداية التجارب بدأت عندما بدءا بتكريس وتوظيف المواد المتاحة حولهما : (فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة).

ويعقب السيد محمد باقر الحكيم على كلام السيد الصدر أعلاه : ((ويمكن أن نشير في نهاية هذا العرض لهذين التصورين إلى عدة ملاحظات : الملاحظة الأولى : انه يمكن تكميل الصورة : بأن الإسكان في الجنة في الوقت الذي يمثل مرحلة الاعداد والتهيؤ، يعبر في نفس الوقت عن هدف إلهي وهو : أن مقتضى الرحمة الإلهية بالانسان هو أن يعيش حياة الاستقرار والسعادة بعيداً عن الشقاء، وأن مسيرة الشقاء انما هي اختيار الانسان، ولذا بدأ الله تعالى حياة الانسان بالجنة وشمله برحمته الواسعة من خلال التوبة والسداد الإلهي بالهدى الذي أنزله على الأنبياء. كما أن الخطيئة هي التي فجرت في الانسان – إضافة إلى احساسه بالمسؤولية – ادراكه للحسن والقبح والخير والشر، ولعل هذا هو الذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى : ( . . . فبدت لهما سوأتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة . . . ) . وكان هذا الادراك ضرورياً للإنسان من أجل أن يكون قادراً على مواجهة مشكلات الحياة وألوان الصراع فيها وتمييز الحق من الباطل، والخير من الشر، والمصلحة من المضرة، ويخلق فيه حالة التوازن الروحي والنفسي في مقابل ضغوط الشهوات والغرائز. وقد كان من الممكن أن يحصل هذا الادراك من خلال الحضانة الطويلة والتجربة الذاتية في حياته في الجنة، ولعل هذا هو الهدف من وضعه في الجنة ليمر بهذه الحضانة الطويلة، كما يحصل للإنسان في تجاربه في الطفولة، حيث تنمو فيه هذه المعرفة تدريجاً، ولكن كان هناك طريق أقصر محفوف بالمخاطر وبالخطيئة والذنب. ولم يكن الله سبحانه وتعالى ليختار للإنسان طريق الخطيئة بالرغم من قصره لأنه طريق خطير، ولكن عندما اختار الانسان ذلك وأصبح يدرك هذه الحقائق صار مؤهلاً للبدء في الحياة الدنيا. وقد فتح الله سبحانه وتعالى أمامه باب التوبة والرجوع إليه ليتمكن الانسان من مواصلة طريقه عندما يضعف ويقع في الخطيئة، وبذلك يتكامل عندما يكون قادراً على التغلب على شهواته والسيطرة على رغباته. الملاحظة الثانية : أن العلامة الطباطبائي لم يوضح دور الخطيئة في معرفة السوءات، كما لم يوضح عدم انسجام السوءات مع حياة الجنة، ولعله يريد من دور الخطيئة في معرفة السوءات ما أشرنا إليه من دورها في الاحساس الخلقي للإنسان في ادراكه للحسن والقبح، وكذلك لأن حياة الجنة يراها حياة طاهرة ونظيفة لا تنسجم مع السوءات، وهو معنى عرفاني حيث لم يشر القرآن الكريم إلى أن آدم (عليه السلام) لم تكن لديه سوءة قبل الخطيئة، أو أنها وجدت بعد الخطيئة، وانما أشار إلى أن ادراكه للسوءة انما كان بعد الخطيئة والذنب. الملاحظة الثالثة : أن الشهيد الصدر (قدس سره) لم يذكر في تكوُّن مسار الخلافة على الأرض دور التوبة في هذا المسار، مع أن التوبة لها دور أساس يمكن من خلاله أن يستأنف الانسان عمله وتجربته في هذه الحياة ويصعد بسببها في مدارج الكمال. الملاحظة الرابعة : أن الكمالات الانسانية يمكن أن نتصورها بدون خطيئة ويتكامل فيها الانسان من خلال الطاعة والاحساس بالعبودية لله سبحانه وتعالى، إلا إذا كان مقصوده من الخطيئة ليس مجرد المخالفة، وانما إحساس الانسان بالحاجة والتقصير في حق الله تعالى وشكره لنعمه، الأمر الذي يدفعه إلى الاستزادة من الأعمال الصالحة والرجوع إلى الله تعالى والإنابة إليه. الملاحظة الخامسة : أن العلامة الطباطبائي (قدس سره) تصور أن الجنة سماوية، والشهيد الصدر (قدس سره) تصورها أرضية، وهذا التصور الثاني في الوقت الذي ينسجم مع بعض الروايات، يتوافق أيضا مع فرضية خلق الانسان للأرض، والله سبحانه أعلم)). محمد باقر الحكيم، علوم القرآن 477 ــ 480.

ونلاحظ أن بيان الحكيم يجعلنا نرجح مرة أخرى أن الشجرة التي تناول منها آدم هي (شجرة معرفة الخير والشر) كما ذكرت التوراة. ولكنه على خطى سابقيه أقحم المفاهيم الشرعية في المفترضات التكوينية، وأدخل القارئ في نفس المتاهة.

قال السيد محمد الصدر : ((التساؤل عن آدم الذي هو أبو البشر، هل كان في أول عصر القصور الذهني، كما سميناه، أي في أول وجود الانسان، باعتباره أباً للبشر جميعاً، أو كان في أول عصر التفكـير والاختلاف، باعتباره نبياً مبلغاً عن الله تعالى بعض التعاليم التي لا تنسجم إلا مع مستوى التفكير. ولعل القول : بأنه أبو البشر على الاطلاق، وان نبوته تناسب مع القصور الذهني الذي كان عليه الناس، هو الأقرب إلى الذهن فعلاً. إلا أن هذا التصور قد يبدو منافاته لفهم آخر، وهو: ان المشكلة التي مَرَّ بها آدم التي نسمعها في التوراة والقرآن، هل أثَّرت فيه شخصياً فقط أو فيه وفي أولاده جميعاً. هذا الأثر الذي يمكن أن نفهمه من قوله تعالى : فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ…” وهو وجود الوعي والقدرة على التفكير عندهما بعد أن لم يكن، فإن كانت قد أثَّرت فيه شخصياً، أو هو وزوجته فقط، أمكن أن يصبح نبياً واعياً لمجتمع قاصر، وان أثَّرت فيه وفي ذريته، فمعنى ذلك انتهاء عصر القصور الذهني وبدأ عصر الوعي والتفكير. وحينئذ فلنا أن نختار القول بأن آدم كان في أول عصر الوعي، وكان هو أول الواعين، لكن علينا أن نتنازل عن كونه أباً للبشر أجمعين، إلا إذا كان الانسان اسماً للواعين منهم، واما العصر السابق فهو أقرب إلى الحيوان.

ولنا أيضا أن نختار القول بأن آدم، كان في أول عصر القصور الذهني، مع بساطة نبوته كما قلنا، غير اننا نصطدم بالظهور القرآني الدال على وجود اللغة لدى آدم شخصياً كقوله تعالى : “وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا…” وغيرها. وهذه الظاهرة تنافي القصور الذهني، ولا يمكن ان توجد إلا في عصر الوعي.

وعلى أي حال، فقد اضطررنا إلى التنازل عن صرامة الاطروحة الرئيسية الأولى، من عدة زوايا، بالرغم من اننا لم نتجاوز عرض المشكلة، ولم نبت فيها برأي وليس هذا مجاله. وأهم ما تنزلنا عنه من مكونات تلك الأطروحة أن المجتمع لم يخلق ناجزاً في وعيه، بل كان ذلك بشكل تدريجي. ومما يمكن التنزل عنه الآن أيضا: ان آدم قد يكون أبا للقاصرين، لا للواعين، كـما ان النبوات لا تنحصر أن تكون في عصر الوعي، بل تكون مناسبه لعصرها بطبيعة الحال.

والمهم الذي نحتاجه في بحثنا هذا، هو ان البشرية في عصر قصورها الذهني، تحتاج إلى تخطيط معين لإيصالها إلى مرحلة الوعي والتفكير، لكي يقع ضمنا في طريق تكاملها العام. وهذا هو الجزء الأول من التخطيط العام لتكامل البشرية، ونستطيع ان نسميه بالتخطيط الأول كما سيأتي((. اليوم الموعود بين الفكر المادي والديني 509 ــ 510.

نقف الآن مع جملة من الروايات التي تتحدث عن خطيئة آدم :

روى الكليني في أصول الكافي عن : ((علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن واصل بن سليمان، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله “عليه السلام” قال : سمعته يقول : أَمَرَ الله ولم يشأ، وشاء ولم يأمر، أَمَرَ إبليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد، ولو شاء لسجد. ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها، ولو لم يشأ لم يأكل)).

وروى أيضاً : ((علي بن إبراهيم، عن المختار بن محمد الهمداني ومحمد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعاً، عن الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي الحسن “عليه السلام” قال : إن لله إرادتين ومشيتين، إرادة حتم وإرادة عزم، ينهى وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء، أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ولو لم يشأ ان يأكلا لما غلبت مشيتهما مشية الله، وأمر إبراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه، ولو شاء لما غلبت مشية إبراهيم مشية الله)).

نستدل من هاتين الروايتين وأمثالهما على أن المشيئة الإلهية أن يرتكب آدم ما نُهي عنه، وهو نهي تكويني كما أسلفنا وليس نهياً تشريعياً يستحق عليه العقاب الأخروي كما في الذنوب والمعاصي التشريعية، وهو كما قلنا ذنب وخطيئة بحق نفسه بتحميلها تكليف شاق على نفسه، ولكنه في نفس الوقت مطلب لتلك النفس التي نفخت فيها روح المعرفة وطلب تلبية هذه الحاجة النفسية وهو الطموح لتنفيذ رغبة في نفس آدم بتحقيق معرفته النظرية على أرض الواقع عملياً، أي أنه بدأ بحب التملك والاقتناء وحصر ممتلكاته ضمن حمى مادي، وهو ما أسمته بعض النصوص المهمة بـ(الحرص)، كما جاء :

 وذكر المجلسي ((قصص الأنبياء : بالإسناد عن ابن أورمة، عن مصعب بن يزيد، عمن ذكره، عن أبي عبد الله “عليه السلام” قال : جاء نوح عليه السلام إلى الحمار ليدخل السفينة فامتنع عليه، قال : و كان إبليس بين أرجل الحمار، فقال : يا شيطان ادخل فدخل الحمار ودخل الشيطان، فقال إبليس : أعلمك خصلتين؟. فقال نوح عليه الســـــــــــلام : لا حاجة لي في كلامك، فقال إبليس : إياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة). البحار 11 : 323.

وعنه أيضاً : ((كشف الغمة : عن الحسن بن علي “عليهما السلام” قال : هلاك الناس في ثلاث : الكبر والحرص والحسد، فالكبر هلاك الدين وبه لُعن إبليس، والحرص عدو النفس وبه اخرج آدم من الجنة، والحسد رائد السوء ومنه قتل قابيل هابيل)). البحار 75 : 111.

عن أمير المؤمنين “عليه السلام” : ((ثلاث موبقات : الكبر فإنه حط إبليس عن مرتبته، والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة، والحسد فإنه دعا ابن آدم إلى قتل أخيه)). المعتزلي، شرح نهج البلاغة 20 : 293.

روى الرازي : ((وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة)). الفخر الرازي.

فهنا فُسرت معصية آدم بالحرص، ولو عدنا للوراء لرأينا أنها سُميت بعدة تسميات : الأكل أو التذوق من الشجرة، نزع اللباس، وسوسة الشيطان، وأخيراً هذه التسمية التي وردت في الروايات أي (الحرص) ولو قمنا بجمع هذه الصفات لخرجنا بنتيجة طيبة، إذ إن الصفات الثلاث الأولى عمومية يمكن تفسيرها بعدة تفسيرات، ولكن صفة (الحرص) هي أهم وصف أو توصيف للحال، فقد رأينا أن الشيطان (أي الجانب الدنيوي في نفس الإنسان) أكد على أن الأكل من الشجرة سيؤدي لأمرين أو أحدهما (الخلد، المُلك) وكلا الطموحين مطلب للنفس البشرية بطبعها، أي حب البقاء والتملك، أو كما فسَّره الفخر الرازي :

((ورغَّبه إبليس أيضاً في دوام الراحة بقوله : “هل أدلك على شجرة الخلد”، وفي انتظام المعيشة بقوله : “وملك لا يبلى”)). مفاتيح الغيب

وهو (الحرص) دون شك. وعندما تبدأ هذه الخصلة عملها في النفس تطلب المزيد لتغطية حاجات أخرى قد لا تكون ضرورة للحياة الآنية، أي أن الإنسان تظهر له نقائص في حياته، حتى لو كانت هذه النقائص متخيلة، أو مستقبلية محتملة، وليست حالية، فيبدأ الإنسان بالعمل لأخذ احتياطاته حسب ما يراه من ضرورة تحسباً للمستقبل، فبدأ آدم وحواء بعملية تجميع المقتنيات، وهي مقتنيات لم يكونا بحاجة إليها في تلك المرحلة، لأن الموضع الذي كانا فيه يلبي كل متطلباتهما الحياتية اليومية، وبما أن الطبيعة لا توفر أكثر من حاجتهما الفعلية، وبما أنهما يطمحان إلى أكثر من الحاجة الفعلية والقناعة بما قسم لهما، كان من الحتمي أو ينتقلا إلى مرحلة أخرى ليوفرا لنفسيهما ما يطمحان إليه، وهذا يستلزم العمل لخلق بيئة جديدة، بالتالي يستلزم منهما الكد والعمل والمعاناة من دون شك، وهو ما فسرت به الروايات قوله تعالى :

 {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى }طه117. وقد أجمع المفسرون تقريباً أن معنى الشقاء هنا هو الكد والتعب والعمل :

قال العلامة المجلسي : ((ولقد عهدنا إلى آدم من قبل “أي أمرناه وأوصينا إليه أن لا يقرب الشجرة” فنسي “أي فترك الأمر” ولم نجد له عزماً” ثابتا، وقيل : فنسي من النسيان “ولم نجد له عزماً” على الذنب لأنه لم يتعمد، “فتشقى” أي فتقع في تعب العمل وكد الاكتساب والنفقة على زوجتك، ولذلك قال : “فتشقى” ولم يقل : “فتشقيا” وقيل : لأن أمرهما في السبب واحد فاستوى حكمهما)). بحار الأنوار 11 : 159.

البحار 11 : 210 ــ 211، ((قصص الأنبياء : بالإسناد عن الصدوق، عن ابن الوليد، عن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم، عن عمرو بن عثمان، عن أبي جميلة، عن عامر، عن أبي جعفر “عليه السلام” قال : قال رسول الله “صلى الله عليه وآله” : إن الله عز وجل حين أهبط آدم عليه السلام من الجنة أمره أن يحرث بيده فيأكل من كدها بعد نعيم الجنة، فجعل يجأر ويبكي على الجنة مائتي سنة، ثم إنه سجد لله سجدة فلم يرفع رأسه ثلاثة أيام ولياليها)).

البحار 11 : 215، ((الكافي : بالإسناد المتقدم عن إبراهيم، عن أبي عبد الله “عليه السلام” قال : إن الله تعالى لما أهبط آدم عليه السلام أمره بالحرث والزرع، وطرح إليه غرساً من غروس الجنة فأعطاه النخل والعنب والزيتون والرمان فغرسها لتكون لعقبه وذريته ، فأكل هو من ثمارها…)).

الكافي : ((العدة، عن سهل، عن ابن محبوب، عن الحسن بن عمارة، عن مسمع، عن أبي عبد الله “عليه السلام” قال : لما هبط بآدم إلى الأرض احتاج إلى الطعام والشراب، فشكا ذلك إلى جبرئيل فقال له جبرئيل : يا آدم كن حَرَّاثاً)).

وقال السرخسي : ((أن أول من اكتسب أبونا آدم “عليه السلام” قال الله تعالى (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) أي تتعب في طلب الرزق. وقال مجاهد في تفسيره : لا تأكل خبزاً بزيت حتى تعمل عملاً إلى الموت. وفى الآثار أن آدم “عليه السلام” لما أهبط إلى الأرض أتاه جبريل “عليه السلام” بالحنطة وأمره أن يزرعها فزرعها وسقاها وحصدها ودرسها وطحنها وخبزها)). المبسوط 30: 245.

((فتشقى، أي : فتتعب ويكون عيشك من كد يمينك بعرق جبينك)). العيني، عمدة القاري 19 : 61. أنظر أيضا : الطبري، جامع البيان 16 : 275. وتفسير السمرقندي 2 : 415. وتفسير ابن زمنين 3 : 131. والراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن 265. وتفسير السمعاني 3 : 359. وابن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير 5 : 226.

وهذا ما تؤكده آية أخرى : {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}البقرة36. ومن الواضح أن الذي كانا فيه هو الراحة والرزق المتاح والبساطة، فخرجا إلى ما فيه العناء والشقاء. كما ذكر القرطبي :

((فأَعلمه أن له في الجنة هذا كله : الكسوة والطعام والشراب والمسكن، وأنك إن ضيعت الوصية، وأطعت العدو أخرجكما من الجنة فشقيت تعباً ونصباً، أي جعت وعريت وظمئت وأصابتك الشمس)). القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 11 : 253.

وابن كثير : ((“فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى” أي إياك أن تسعى في إخراجك منها فتتعب وتعنى وتشقى في طلب رزقك، فإنك ههنا في عيش رغيد هنيء بلا كلفة ولا مشقة : “إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى”)). ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 3 : 176.

وهكذا فإن آدم خرج من الجنة لحرصه ورغبته فيما هو أوسع مما كان فيه، فوقع في محنة العمل الشاق والذي أعقبه الندم، وهو حال طبيعي يعتري الإنسان عندما يختار لنفسه المجهول.

……………………………………………..

والسوءات الواردة في الآيات حتى لو فسرناها بجسديهما، يكون المعنى أنهما لما تذوقا الشجرة بدت لهما صفات لجسديهما يمكن أن يستغلاها لأغراضهما الدنيوية وأنهما مختلفان عن البهائم جسديا بالتالي فلا بد أنهما يختلفان عنها حياتياً ومعيشة، أي يمكنهما الاعتماد على نفسيهما وما يمتلكان من طاقات بالجسد الذي يسيره العقل (الروح) فانطلقا الى العالم الجديد للكدح، ولم يرتضيا حياة الجنة التي توفر لهما الطعام والمأوى وتكفيهما من هذه الناحية ولكنها لا ترضي رغبتهما في الابداع والاكتشاف. وهذا يعين أن وجودهما في الجنة مع أنه يوفر الراحة إلا أن جسديهما فيه مجرد سوءة وفي لحظة ما عرفا أن هناك ما خفي ووري عنهما في هذا الجسد من إمكانات وطاقات، ووصف القرآن لذلك بأنه من وسوسة الشيطان لأنه سيؤدي الى شقائهما بمعنى الكدح وكسب القوت بالعمل كما التفت اليه المفسرون، ومن الملاحظ أن القرآن يصف ويؤكد أن نتيجة أكل الشجرة ليست معصية لله بالمعنى التشريعي وإنما يؤدي الى آثار جانبية هي الكدح وهو ما تشير إليه آيات منها (فأخرجهما مما كانا فيه) (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) وغيرها، فوسوسة الشيطان ستؤدي الى مشقة وتعب دنيويان، وشاهده أنهما عندما خرجا من هذا الموضع أخرجا معهما قضبان لعدد من الأشجار وبذور وحيوانات مدجنة (الأنعام الثمانية)، أي أنهما هاجرا رغبة في الخروج من الجنة التي رأيا فيها سجنا وقتلا لطموحهما وهي رغبة بشرية لا زلنا نجدها عند العباقرة والأوحديين من الناس. وتؤكد الروايات أن آدم لبث في الجنة ست ساعات بعد نفخ الروح فيه، وهذا تأكيد أنه كان قبلها مدة أربعين عاماً قبل الروح لا يشعر بالضجر أو الروتين، ولكنه في لحظة الروح والتفكير قرر أن يكتشف نفسه وما وضعت فيه السماء من موهبة الفكر وهو ما لن يتحقق في هذا الموضع فقرر الهجرة ليؤسس المستقبل والحضارة لأبنائه جنوبي العراق.

……………………………………………

خرج آدم من الجنة لرغبة منه في التسيد، على عالم البشر (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) وإخراج البشرية من عالم الجهل والتخلف الى عالم المعرفة والتحضر، لأنه تعلم معنى الأسماء وأهدافها، فرغب في إيصالها، وهو شكل من أشكال التسيد المشروع ظاهراً، ولكنه جاء قبل أوانه، (لا تحرك به لسانك لتعجل به).

إن آدم انطلق في حياته الجديدة بناء على أنه القدر الذي خلق من أجله، فقد وهب المعرفة وهي لا دور لها في حياة الرخاء والبساطة، لذلك فإن المشيئة أن يخرج آدم من الجنة بعد تلقيه المعرفة الكاملة بالنسبة لطوره، وهو ما عبرت عنه الرواية أعلاه عن الإمام الصادق “عليه السلام” : ((أمر الله ولم يشأ وشاء ولم يأمر ، أمر إبليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد ، ولو شاء لسجد ، ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء ان يأكل منها ، ولو لم يشأ لم يأكل)).

فالنهي هنا ليس شرعياً كما أسلفتُ وإنما نهي تكويني لأن ما بعد الخروج من الجنة سيضع آدم أمام العناء والشقاء الدنيوي حتى آخر يوم من حياته. أي أن آدم ارتكب معصية بحق نفسه ولكنه في نفس الوقت قام بخطوة عظيمة لتحقيق الهدف من خلقه.

…………………………………………

وبدأ التاريخي الديني والدنيوي لحظة نفخت فيه الروح، وهي المعرفة التي أدَّت إلى  اكتشاف آدم لنقائصه أو سوءآته، وليس قبل ذلك، فعندما اكتشف عيوبه ونقائصه التي بتكميلها أو إتمامها سيحصل على دنيا أوسع من هذه التي هو فيها. وأما التاريخ الديني فقد بدأ بعد ذلك عندما شعر آدم بالشقاء أو العجز أحياناً أمام مشاكل لم يكن يتوقعها، تكللت بقتل أحد ابنيه على يد الآخر. فبدأت منذ أولى مشاكله وعجزه وحاجته إلى قوة خارج هذه الطبيعة، فهو لا يستطيع أن يمطر السماء وإنما ينتظر أن تهطل فهناك من يتحكم بها، وهو لا يمتلك أن يخرج الزرع من بذوره، ولا يملك إلا أن ينتظر، ولكنه من المؤكد واجه مرات لم تعطه الأرض ما ينتظر، فاتجه إلى قوة تمتلك القدرة على إخراج تلك البذور من باطن الأرض، كان يواجه سبخ الأرض وأمراض الزرع المختلفة، والعواصف التي كانت تطيح بكوخه، والحرارة التي تحرق وجهه وهو يعمل في حقله أو يرعى أنعامه…… فلم تكن هناك على الصعيد الدنيوي أي خطوات قبل أن يعرف آدم ان عليه أن يخطو خطواته الأولى نحو صنع قرية أو مجتمع صغير، وعندما تعرض لمصاعب الحياة شعر بالندم على خروجه هذا، فعبر عن أسفه إلى خالقه، مهما كان تصوره عن هذا الخالق ولكنه من دون شك كان تصورا نقياً لم يتأثر بعد بأي مؤثرات، لأنها لم توجد بعد، وحتى أبنائه لم يكن القاتل منهما كافراً أو مشركاً لأن الشرك لم يكن هناك محفز له، ولكنهم كانوا يشعرون بقوة ما تتحكم وتؤثر بهذا العالم فتوجهوا لها.

أسف آدم الكبير لأنه كان في موضع الهناء حيث لا نزاع ولا خلافات، ولكنه بعد أن أصبح له مجتمعه الصغير بدأت المشاكل صغيرة أو كبيرة، وكانت تلقي بظلها وثقلها عليه، فاشتاق إلى جنته القديمة وباتت ذكراها تؤرقه، فأصبح من الظالمين لأنه ظلم نفسه باختياره، ولكنه ظلم يتبعه درجات من التكامل.

أحدث المقالات

أحدث المقالات