23 ديسمبر، 2024 8:43 ص

آدم ليس أول البشر الحلقة 13 – الجزء الأول

آدم ليس أول البشر الحلقة 13 – الجزء الأول

جنة آدم وشجرة الخطيئة
أصبح واضحاً عندنا أن قصة آدم بأسرها تدور أحداثها على الأرض، أي أن جنة آدم في موضع ما على الأرض، ليس هذا فحسب بل سنجد أن الجنة سواء جنة آدم أو جنة (جنات) الآخرة هي على الأرض أيضاً، لأن “الجنة” لفظاً ومعنى وهدفاً لا تصلح أن تكون على غير الأرض.
تحدد لنا بعض النصوص أن الموضع الذي سجدت فيه الملائكة لآدم جنوبي العراق، وتحديداً في النجف :
((روى العياشي : عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : أول بقعة عُبد الله عليها ظهر الكوفة، لما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم سجدوا على ظهر الكوفة)). تفسير العياشي 1 : 34. وقد فهمنا فيما مضى معنى سجود الملائكة وتسبيحها وعبادتها.
وقبل الحديث عن موضع الجنة أجد من المناسب تناول ما جاء في هذه الرواية، عن كون أول عبادة توحيدية ظهرت في جنوب العراق، وبتعبير آخر : أول عبادة منظمة ودين فيه طقوس معينة، ومن خلال استقراء ما جاء في نصوص العراق القديم يتضح لنا أن أقدم أقوام في العالم عرفوا الدين، وأن هناك في السماء قوى تتحكم بالعالم هم العراقيون القدماء، ومن المعبد العراقي خرجت أول حروف كتابة عرفتها البشرية على الإطلاق، وكان الكاهن أو رجل الدين العراقي هو المتصرف في الشؤون الدينية والدنيوية على السواء، كما أن أقدم المدن المقدسة في العالم في جنوب العراق مثل “أوروك” أو الوركاء، و”نيبور” أو نِفَّر، وأور، وبابل، وارتبط التاريخ الإبراهيمي ومن قبله تاريخ نوح بمدينة بابل ونواحيها ومنها الكوفة، وبقيت شاخصة في ذاكرة الأجيال عبر آلاف الأعوام، حتى أن يهوياكين Joachim ll 598 ــ 597 ق.م. آخر ملوك بني إسرائيل ملك يهوذا “المملكة الجنوبية”، دفن في الكوفة، كما أكد ذلك بنيامين التطيلي (يهودي إسباني) في رحلته (1165 م ــ 1173 م)، وزار قبره هناك الذي درس اليوم ولا يعرف موضعه، شأنه شأن الكثير من المواقع المهمة في الكوفة نتيجة لا مبالاة الحكومات المتعاقبة. أنظر رحلة بنيامين التطيلي، ترجمة عزرا حداد 176.
ومعنى أن الملائكة سجدت لآدم “بناء على ما فهمناه من حقيقة الملائكة” أنه الموضع الذي أصبح فيه الإنسان واعياً، وانطلق منه لتأسيس المجتمع الزراعي والمدينة الأولى، بعد أن عرف كيفية التعامل مع القوانين الطبيعية وظواهرها وكيفية تسخيرها.
فهل كان هذا الموضع أي ظهر الكوفة(النجف حالياً) الذي هو من نواحي بابل هو نفسه جنة آدم أو غيره؟.
هذا ما تؤكده لنا روايات أخرى، منها :
روى الكليني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) رواية يحدد فيها جنة عدن في الكوفة : ((ما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض إلا قيل لروحه : ألحقي بوادي السلام، وإنها لبقعة من جنة عدن)). الكافي 3 : 243.
وروى عن أبي عبد الصادق (عليه السلام) أن أحد أصحابه سأله ((إن أخي ببغداد وأخاف أن يموت بها، فقال : ما تبالي حيثما مات، أما إنه لا يبقى مؤمن شرق الأرض وغربها إلا حشر الله روحه إلى وادي السلام. قلت له : وأين وادي السلام؟، قال : ظهر الكوفة، أما إني كأني بهم حلق حلق قعود يتحدثون)). المصدر السابق، نفس الجزء والصفحة.
قبل ذلك نتعرف إلى أن الكوفة لها بُعد تاريخي عقائدي كبير جداً في نصوص أئمة أهل البيت، والروايات كثيرة، أذكر منها نموذجاً واحداً :
روى الكليني عن الإمام الباقر “عليه السلام” في حديث يصف فيه الكوفة أنها : ((هي صرة (سرة) بابل ومجمع الأنبياء “عليهم السلام”)). الكافي 3 : 494. وتفسير العياشي 2 : 147. والشيخ الطوسي في التهذيب 3 : 252.
ونجد أيضاً أن التوراة هي الأخرى ارتبط تاريخ الأنبياء فيها ببابل بشكل وثيق. جاء في سفر التكوين أن الله عندما خلق آدم وزوجه وضعهما في عدن في المشرق، ولكننا عرفنا مما سبق أن التوراة لم تتعرض للمقدمات التكوينية التي سبقت آدم كما تعرض لتفصيلها القرآن، وانتقلت مباشرة الى كون آدم خلق منذ البداية في عدن، بالتالي فقصة سجود الملائكة وما جرى مع إبليس وتفاصيل خلق آدم ومن قبله امتياز خاص بالقرآن، فعلينا بداية أن نتأكد من صحة ما جاء في النص الإسلامي أعلاه من كون الموضع الأول لآدم هو الكوفة في بابل.
حددت التوراة موضع الجنة حسب تكوين 2 : 7 ــ 15 ((وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض . ونفخ في أنفه نسمة حياة . فصار آدم نفسا حية . 8 وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا . ووضع هناك آدم الذي جبله. * وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل. وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر. * وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة. ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس. * اسم الواحد فيشون. وهو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب. * وذهب تلك الأرض جيد. هناك المقل وحجر الجزع. * واسم النهر الثاني جيحون. وهو المحيط بجميع أرض كوش. * واسم النهر الثالث حداقل. وهو الجاري شرقي أشور. والنهر الرابع الفرات * وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها)). وقد ذهب مفسرو التوراة مذاهب شتى لتحديد موضع الجنة، إلا أنهم لم يختلفوا في كونها تقع في بابل، سواء في شمال بابل أو جنوب غرب أو شرق.
((واسم بابل السومري (كا ــ دينجير ــ را) وترجمته الأكدية (باب ايلو)، وتعني (باب الإله)، والأسماء الأخرى التي أطلقت على المدينة كثيرة، منها (تندير) مركز الحياة، و(أيريدوكي) المدينة الطيبة أي الفردوس، إذ كان البابليون يعتقدون أن جنة عدن في بقعتها، و(سو ــ انا) اليد العالية، ويظن أن المعنى (ذات الأسوار العالية))). قاموس الكتاب المقدس 152. وطه باقر، بابل وبورسبا 2.
ويرى مفسرو التوراة والإنجيل : ((عدن : اسم عبري معناه “بهجة” حيث غرس الله في الأرض شجراً شهياً للنظر وجيداً للأكل وعمل حديقة سميت بجنة عدن، من أجل آدم ليسكن فيها قبل الخطيئة. وكان يسقيها نهر يشق مجراه لنفسه في عدن، ويتفرع إلى أربعة رؤوس : فيشون وجيحون وحداقل والفرات تك 2 : 14. أما موقع جنة عدن فلا يزال غير مجمع عليه حالياً كما قال غالبية الجغرافيين واللاهوتيين. وبعض منهم يعتبرون أرمينيا أنها عدن : لأن الفرات والدجلة ينبعان في أرمينيا. وهناك من يرى أن نهر عدن الذي تفرع إلى رؤوس ما هو إلا نهر الفرات ــ دجلة الذي يصب في شط العرب (في الخليج الفارسي) منقسماً على نفسه إلى عدة فروع، فجنة عدن بحسب رأيهم هي القسم الجنوبي من العراق، حيث الخصب. ويعتقد أنه أقرب الأمكنة إلى الصواب لأن فيه الصفات التي وردت في الكتاب لعدن : شرق فلسطين، فيه دجلة والفرات، وكوش التي بقربها، هي عيلام المعروفة قديماً باسم كاشو، كما أن سهل بابل كان معروفاً منذ القدم باسم “عدنو” وموقع الحويلة هو جزء من جزيرة العرب الذي يجاور العراق إلى الجنوب الغربي منه. وقد ذُكرت جنة عدن في الكتاب بعد سفر التكوين في أش 51 : 3، وحز 28 : 13، و31 : 9 و16 و18، و36 : 35، ويوئيل 2 : 3)). قاموس الكتاب المقدس 613 ــ 614.
و ((اختلفت “الآراء” في تحديد موقع جنة عدن نفسها. إلا أن بعض الآراء الحديثة تميل إلى اعتبار موقع الجنة في منطقة شط العرب. فإذا صح الرأي يكون فيشون أحد الروافد التي تصب في شط العرب. وربما كان القناة القديمة التي تسمى بلاكوباس)). قاموس الكتاب المقدس 701. هذه القناة (بالاكوباس) هي مجرى الفرات (نهر الكوفة) الذي يمر بالكوفة حالياً.
((إن البروفسور شبايزر قد بيَّن بأن التفصيلات الجغرافية التي جاءت في سفر التكوين الاصحاح الثاني 6 ــ 14 تتطلب منا أن نتصورها بأنها جزء من الشرق القديم يرتبط ارتباطاً وثيقاً ببلاد ما بين النهرين)). هاري ساكز، عظمة بابل 555. ترجمة : عامر سليمان، مطابع جامعة الموصل، الطبعة الأولى 1979.
وذكر د.أحمد سوسة : ((وهكذا فقد حددوا موقع الجنة بالنسبة الى مستقرهم على نهر الفرات في رأس دلتا نهر الفرات حيث تبدأ تفرعات النهر، فوُصفت بكونها تقع على نهر الفرات في المكان الذي يتفرع النهر فيه إلى أربعة فروع، هي فيشون وجيحون وحداقل والفرات، فيمثل الأول منخفضي الحبانية وأبي دبس، والثاني نهر الهندية الحالي، والثالث مجرى الصقلاوية القديم، أما الرابع فهو نهر الفرات أي المجرى القديم المعروف بنهر كوثا)). وأحمد سوسة، مفصل العرب واليهود في التاريخ 429.
بينما رأى وليم ويلكوكس : ((استهدفت أثناء إقامتي في العراق مدة ثلاث سنوات، دراسة نهر الفرات من منبعه إلى مصبه لأصل إلى معرفة مكان الجنة التي يمكن تأمين وصول المياه السيحية إليها خلال الاثني عشر شهراً من السنة، فظهر لي أنه لا يوجد في المنطقة الواقعة جنوب هيت مكان يمكن أن تتوفر فيه الشروط المذكورة سوى الأراضي المستصلحة في منطقة الأهوار قرب الخليج العربي، جنوب الناصرية، بجوار مدينة “أريدو” القديمة حيث كانت عدن السومريين التي سنتكلم عنها بعد قليل. والدليل على ذلك أن الأراضي الواقعة بين هيت وبين منطقة الأهوار التي تبدأ بمدينة الناصرية شمال مدينة أور الكلدانية لا يمكن أن تؤمن لها الحياة الزراعية المستديمة طول السنة في ذلك الوقت لأن القسم المنخفض منها يسقى سيحاً في فصل الصيف بسبب هبوط مستواه بالنسبة إلى منسوب ماء النهر. أما في فصل الشتاء فإنه يصبح معرضاَ لخطر الفيضان. والقسم الذي لا تصله المياه إلا في موسم الفيضان بالنظر لارتفاع مستواه بالنسبة إلى مستوى النهر فإنه لا يمكن أن تؤمن له المياه المطلوبة للزراعة في فصل الصيف. وعلى هذا فإننا إذا سرنا جنوب هيت فإننا لا نجد منطقة تصلح للإرواء المستديم طول العام جتى نصل إلى منطقة الأهوار المذكورة. “وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة ومن هناك ينقسم إلى أربعة رؤوس” تكوين 2 : 10. وكانت هذه الجنة حديقة غنَّاء مليئة بالنخل الذي لا يزال يعتبر حتى يومنا هذا شجر الحياة، كما أنها مليئة بأشجار الكروم، أشجار المعرفة التي حرم أكل ثمرها. والتربة والمناخ هنا يصلحان بطبيعتهما لنمو الأشجار المثمرة على اختلاف أنواعها. كالنخل وشجر البرتقال والخوخ والاجاص. غير أن النخل يعتبر من أهم ما تنبته هذه الأرض وذلك لأن زراعته لا تحتاج إلى جهد كبير كما يقول المثل “اغرسه في الماء واتركه فهو ينمو بطبيعته”. وينقسم النهر جنوب جنة عدن إلى أربعة فروع رئيسية، الأول يسمى “فيشون” ويشمل هذا منخفض الحبانية وأبي دبس الواقعين بين الرمادي وكربلاء واللذين تغمرهما مياه الفيضان. وكان الاعتقاد السائد قديماً أن هذين المنخفضين متصلان، ولكن المسح والتسوية اللذين أُجريا أخيراً أثبتا خلاف ذلك… والنهر الثاني : جيحون، نهر الهندية الحالي، وهو “نهر خابور” الذي دفن النبي حزقيال في إحدى ضفتيه. وقد أُطلق عليه في سفر عزرا اسم (اهورا)، أما في زمن الأسكندر فكان يسمى (بالاكوباس)، وكان يسمى في أوائل عهد الخلافة الإسلامية (نهر الكوفة). وهذا النهر يشمل كل منطقة كوش أبي نمرود الذي تبدأ مملكته في بابل وأرخ وأكاد وكالنه الواقعة في سهل شنعار. وكان يطلق اسم (كوش) في زمن موسى على بابل….. والنهر الثالث : كان يعرف باسم “حداقل” و “دقل” و “دجلة” وهو فرع الصقلاوية الحالي. ويبلغ عرض هذا النهر 250 قدماً أما عمقه فيبلغ 25 قدماً. وهو يشبه في جريه وضع القناة التي تدير الطاحونة. أما اتجاه جريه فإنه ينحدر أولاً نحو منخفض عقرقوف ثم يمر من هناك فيصب في دجلة قرب بغداد. وهذا النهر لو ترك وطبيعته فإن في إمكانه أن يزود دجلة بأكثر من نصف مياه الفرات. ولا شك أن الأقدمين كانوا يعتبرونه المنبع القديم لدجلة. أما اعتقاد البابليين “بأنه الجاري شرقي آشور” فهو في الحقيقة وصف مطابق للواقع تماماً. والنهر الرابع : الفرات. وهذا النهر غني عن التعريف فهو نهر بابل نفسه)). وليم ويلكوكس، من جنة عدن إلى عبور نهر الأردن 17 ــ 20. ترجمة : محمد الهاشمي، دار الوراق للنشر ــ لندن، الطبعة الأولى 2006. والخارطة أدناه عن خولة معارج خليل، مدن على نهر الإيتورونكال في عهود السيطرة الأجنبية للعراق من 539 ق.م وحتى 637 م، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة بغداد 2007، اقتباس عن وليم ويلكوكس، مطبعة المعارف، بغداد، 1955 :
وهناك موضع آخر اكتسب أهمية كبيرة في نصوص العراق القديم كونه جزيرة الأحلام التي ليس فيها ما ينغص الحياة، واسم هذا الموضع “دلمون” وهو يشمل أجزاء من الساحل الغربي للخليج واحتمل أنه البحرين وشمل جزيرة ايكاروس “فيلكة”، ولكن لهذا الموضع المهم قصة وأحداث مهمة وليس هو المقصود بحديثنا هذا، وربما نأتي على ذكرها في مناسبة أخرى.
فيكون النص الذي جاء أعلاه عن موضع آدم الأول سواء في التوراة أو أحاديث أئمة أهل البيت وما جاء في النصوص المسمارية في العراق القديم متفق أو متقارب، وهذا يجعلنا نفهم كل التفاصيل المتفقة بين نصوص التوراة والنصوص المسمارية من ناحية وبين النصوص الإسلامية والمسمارية من ناحية أخرى، وسنجد في الجزء الثاني أن هناك العشرات من النصوص المسمارية التي لم توجد في التوراة أو متعارضة معها، ولكنها متفقة اتفاقاً مدهشاً مع النصوص الإسلامية. كما سنرى أن آدم بعد رحلة معاناة طويلة بعد خروجه من الجنة وتمنيه العودة إليها، عاد أخيراً ودفن هناك.
وذهب الكاتب المصري سيد القمني إلى أن موضع جنة عدن في أرمينيا، معتمداً على كون منابع دجلة والفرات هناك، إلا أنه يواجه مشكلة تحديد موقعي فيشون وجيحون من ناحية، كما أنه لو التزم بالنص التوراتي كما يفترض فعليه أن يفسر لنا ارتحال آدم بعد خروجه من عدن إلى شرق عدن، أي آذربيجان وبحر قزوين، وهو موقع غير محتمل أن يكون مسرحاً لأحداث التوراة اللاحقة من دون شك.
((وروى المسعودي في إثبات الوصية : ثم اعتل آدم عليه السلام فدعى هبة الله وقال له قد اشتهيت من فواكه الجنة وروى أنه قال له امض إلى الجنة فجئني منها بعنب فانطلق هبة الله لطلب ما امره…)). وهذا يدل من ناحية على أن الجنة أرضية إذ لا نتوقع أن تكون في السماء ثم يطلب آدم من ولده أن يأتيه بشيء من ثمارها، ومن ناحية أخرى أنه كان قريباً منها عند وفاته، وهو ما سيتضح لنا من عدة مصادر مختلفة الأديان.
 
يحدثنا القرآن في مواضع متعددة أن الجنة “مفهوم متعدد” ولكنه في كل أحواله على الأرض سواء في الدنيا أو الآخرة :
((إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ)). القلم17.
((وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)). البقرة265.
((أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)). البقرة266.
((أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُوراً)). الفرقان8.
((وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً*أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً)). الإسراء 90 ــ 91.
((وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً)). الكهف32.
((لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ*فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ)). سبأ 15 ــ 16.
((وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)). الأنعام99.
هذه الآيات وغيرها تتحدث عن بساتين على الأرض بوضوح.
أما الجنة في الآخرة فهي الأخرى على الأرض كما في الآيات الآتية :
((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ*وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ*وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ*وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ*وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ*قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ*وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ*وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)). الزمر 67 ـــ 74.
نلاحظ أن القيامة تقوم هنا على الأرض، والحساب على الأرض، والجنة والنار على الأرض، وهذه المفاهيم أمثال القيامة والحساب والنفخ بالصور هي الأخرى مفاهيم تحتاج إلى إعادة نظر على ضوء القرآن وتفسيره الدقيق الذي يمكن أن نعثر عليه عند ابن عربي وصدر الدين الشيرازي وعبد الهادي السبزواري وغيرهم من العارفين، وربما تكون لنا وقفة معها لاحقاً.
جاء في الآية الأخيرة : ((وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)). وراثة الأرض الذي يترتب عليه التبوء من الجنة حيث يشاءون.
ولكن الأرض والسماء في الآخرة “الأخرى” ستكون مختلفة :
((وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ*مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء*وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ*وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ*وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ*فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ*يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)). إبراهيم 42 ــ 48.
وهذا يعني تغير في المناخ والبيئة والطبيعة : ((يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)). ومن الغريب أن نجد الإصرار على أن الجنة ستكون في موضع خيالي في الكون بينما صريح الآيات أن الحدث من أوله إلى آخره سيكون هنا على الأرض. ومن أهم ما فات المفسرين أن القرآن صريح في أن آدم خلق من تراب أو طين أو ماء، وكلها مواد أرضية، وأنه مخلوق ليكون خليفة في الأرض قبل أن يخلق : ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة30.
((يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ*فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ*خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ*وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ)). هود 105 ــ 108. لاحظ أن الذين سيخلدون في النار والجنة ارتبط خلودهم ببقاء السموات والأرض، أي أن الأرض لها صلة بوجود الجنة والنار، وهذا واضح بأن جُعل خلودهم مشروطاً ببقاءهما، ولولا أن للأرض والسماء صلة لما اشترط ذلك.
وروى السيد علي بن إبراهيم القمي : ((“النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً”. غافر46. قال : ذلك في الدنيا قبل القيامة، وذلك أن في القيامة لا يكون غدواً ولا عشياً، لأن الغدو والعشاء إنما يكون في الشمس والقمر، وليس في جنان الخلد ونيرانها شمس ولا قمر، قال : وقال رجل لأبي عبد الله “عليه السلام” : ما تقول في قول الله عز وجل : ” النار يعرضون عليها غدواً وعشياً”؟، فقال أبو عبد الله “عليه السلام” : ما يقول الناس فيها؟، فقال : يقولون : إنها في نار الخلد وهم لا يعذبون فيما بين ذلك، فقال “عليه السلام” : فهم من السعداء. فقيل له : جعلت فداك فكيف هذا؟، فقال : إنما هذا في الدنيا، فأما في نار الخلد فهو قوله : “وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ” غافر 46)). تفسير القمي 586.
روى الكليني عن : ((علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الوليد بن صبيح، عن أبي عبد الله “عليه السلام” أنه قال : دخلتُ عليه يوماً فألقى إليَّ ثياباً وقال : يا وليد رُدَّها على مطاويها. فقمتُ بين يديه، فقال أبو عبد الله “عليه السلام” : رحم الله المعلى بن خنيس. فظننت أنه شبَّه قيامي بن يديه بقيام المعلى بين يديه، ثم قال : أف للدنيا، أف للدنيا، إنما الدنيا دار بلاء يسلط الله فيها عدوه على وليِّه وإن بعدها داراً ليست هكذا. فقلتُ : جُعلت فداك وأين تلك الدار؟. فقال : ههنا. وأشار بيده إلى الأرض)). الكافي 8 : 304. والحسن بن سليمان الحلي، مختصر بصائر الدرجات 49.
وروى الكليني : ((علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الحسين بن ميسر قال : سألت أبا عبد الله “عليه السلام” عن جنة آدم “عليه السلام” فقال : جنة من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً)). الكافي 3 : 247. وتفسير القمي 1 : 43. وذكرها الشيخ الصدوق في كتابه “الاعتقادات في دين الإمامية” 79، على نحو المسلمات.
ولا ينبغي أن نقف هنا مطولاً إلا للإجابة على إشكال قد يرد في هذه الآية : ((وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)). آل عمران133. و((سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)). الحديد21. وفيهما ما يدل على أن موضع الجنة في السماء، وهذا أولاً : غير واضح بل نرى أن الأرض وردت في كونها موضع الجنة في الآيتين، وثانياً : الراجح أن السموات وردت هنا بمعنى أن أبعاد الجنة ممتدة من الأرض إلى السماء، فالأرض تتأثر بشكل واضح بالسماء سواء على النحوين المادي والمعنوي، إذ لو فسرنا السماء هنا مادياً فالشمس والقمر والهواء والأمطار ومختلف الظواهر تؤثر بشكل مباشر في الأرض، فلا أثر للحياة بكل أشكالها (الحيوانية والنباتية) لولا وجود الوئام بين السماء والأرض، أما على النحو المعنوي الذي أرجح أنه المقصود في الآية، فمعناه أن التواصل المعنوي والروحي سيكون أعلى منه فيما قبل الآخرة، أي الطور الجديد، وستنفتح للإنسان آفاق أعلى وأوسع من العصر الماضي، ويمكن أن نتمثل للمادية والمعنوية بمثالين:
أما المادية : فقد أصبح الإنسان الآن على مستوى من التطور المادي والثقافي بشكل لا يمكن أن نتصور أنه سيصل إليه لو عدنا بالزمن إلى 3,000 عام أو أقل من ذلك 500 عام، إذ أصبحت حياة الإنسان أسهل بكثير مما كانت عليه في الاتصالات ووسائل السفر والحياة المرفهة في مختلف نواحيها، وطالما كنا نسمع عن الحياة في أوربا واللهاث وراء (الحلم الأمريكي)، الذي كنا نعتبره الجنة، واعتبارنا جاء قياساً بالحياة البائسة التي نعيشها في بلداننا الشرقية التي تخضع للظلم والتخلف والانحطاط.
أما المعنوية : فنلاحظ أن فهمنا للحياة الروحية اختلف كثيراً عما كان عليه قبل 3,500 عام، إذ كان من الصعب على الإنسان أن يتعايش مع عالم مجرد عن المادة، حتى الإله لم يكن تصوره بشكل مجرد غير مجسد، ونفس الأمر بخصوص المفاهيم العالية أو الغامضة كالجان الذي تمَّ تصويره على أنه كائن خفي له القدرة على اختراق الجدران والدخول إلى جسد الإنسان والتحكم بعقله، ونعلم أن مثل هذه المفاهيم أصبحت لا تقنع الإنسان الحالي الذي إما أنه ينكرها أساساً أو يبحث عن حقيقتها كما نحاول هنا. كما أن الإنسان الآن أصبح غير مقتنع بالتفاسير التي وضعت للشرائع والقوانين وبات يبحث عن مخارج تجعل حياته أسهل وأعدل.
نفس هذين المثالين يمكن سحبهما على الآخرة “على نحو التشبيه والتقريب”، أي المرحلة الآتية، ربما بعد 1,500 كما ذكرنا سابقاً في الحلقة السادسة، على ضوء تحديد الأئمة للتطور البشري بـ50,000 عام لكل طور. فحياته ستتغير نحو الأفضل وبشكل لا يتصوره الآن، كما أنه لم يكن يتصور أنه سيكون ما هو عليه الآن قبل آلاف أو مئات الأعوام.
………………………………………………….
 
وقبل الدخول في تفاصيل قصة آدم في الجنة لا بد أن نحدد التسلسل التأريخي لأحداث آدم وزوجه حسب ما جاء في القرآن، فقبل خلقه كانت قوى الطبيعة وظواهرها تهيئ الأرض والبيئة عموماً لاستقباله، وهذا المناخ تطلب فترة ليست بالقليلة، فهناك الموضع المناسب الذي سيوفر له الطعام والمأوى والأمان، وهذا يتطلب من الطبيعة زمناً لا يمكننا أن نحدده، ولكنه بالتأكيد لم يحصل بين يوم وليلة، الخطوة الأخرى : تعلُّم آدم خلال أربعين عاماً تفاصيل الحياة من حوله وكيفية تسخير موارد الطبيعة وقواها “الملائكة” بما يتناسب مع حياته في تلك الأيام وليس أكثر من ذلك، وهنا لا ننسى أن قانون الغاب والضغوط الخارجية لم تكن موجودة هناك، وهو ما عبَّر عنه القرآن بهبوط إبليس وإخراجه من الموضع الذي أصبح جنة آدم :
((وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ*قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ*قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ*قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ*قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ*قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ*ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ*قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ*وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)). الأعراف 11 ــ 19.
وسبق أن أعطينا صورة تقريبية عن إبليس، وفي هذه الآيات توضيح أكثر لما سبق، فقوله تعالى : ((قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ))، فالهبوط هو انحسار قانون الغاب أو الفساد من هذه الرقعة من الأرض التي استقر فيها آدم مؤقتاً، والتكبر المذكور هو فرض سلطته التي كانت سائدة قبل اصطفاء آدم، والتكبر أيضاً هو الاستعلاء لقانونه وأدواته على القوانين الأخرى، فإذا ما وجد في أرض حلَّ الفساد والاقتتال والمرض والوحشية، ومن الواضح التلازم بين مقتضيات هذه الآية وهبوط إبليس كنتيجة ضرورية وهي : ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى*فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى*إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى*وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى)). طه 116 ــ 119. فكل مشاكل الإنسان إلى هذا اليوم من هذا الكائن، ولكنه أُبعد عن طريق آدم مؤقتاً، ولم يكن هنا ما يعكر صفو تأمل آدم ليستحق بعد حين أن يُصطفى من بين العالمين لتنفخ فيه الروح، والتي استحقها بعد أن وصل سن الأربعين حسب ما استظهرنا، ومن الواضح أنه سكن الجنة من قبل هذه الأحداث إذ صرحت بعض الروايات أنه أساساً كان موجوداً وزوجته في الجنة قبل لحظة الاصطفاء، ولكنه أصبح إنساناً مختلفاً بعد الاصطفاء، فأصبح وجوده في الجنة مختلفاً نفسياً وفكرياً عما قبلها كما سيأتي. وعلينا أن نعرف أن آدم كان كامل الوعي قبل قوله تعالى : ((وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ)). البقرة35)). لأننا فهمنا مما سبق ان نفخ الروح وسجود الملائكة كان قبل هذا اليوم، ومعنى “اسكن أنت وزوجك” أي استقر أنت وزوجك في هذا الموضع من دون منغصات.
كما أنه تعلَّم بالتدريج قواعد السلوك “كما عبَّر السيد الصدر فيما مضى” كالالتفات إلى ضرورة تغطية أعضائه قبل هذا اليوم أيضاً : ((إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى*وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى)). طه 118 ــ 119. وعندما يقول قواعد السلوك، فهذا يعني أن هناك باعثاً داخلياً دفعه إلى معرفة أن التعري كاملاً أمر معيب، ولكننا نستظهر أنه كان يسكن في هذا الموضع هو وزوجته لا غير، فما الذي دعاه الى تغطية نفسه مع أن زوجته لا يجد عيباً في التعري أمامها؟. هذا ما سنأتي عليه قريباً بإذن الله تعالى.