18 ديسمبر، 2024 11:17 م

آداب الحوار: لقائي مع استاذي كروان

آداب الحوار: لقائي مع استاذي كروان

كانت لي فرصة من العمر بأن ألتقي بإستاذي الدكتور ابراهيم كروان، في مدينة سولتليك سيتي في ولاية يوتا بعد مرور حوالي ثلاثة عقود من الزمن، منذ أن إنهيت رسالة الدكتوراه في عام 1991. فعن طريق الصدفة تبادلنا الرسائل عبر وسيلة التواصل الاجتماعي (الفيسبوك)، والتي عندها قررنا اللقاء في اقرب زيارة لي للولايات المتحدة. كنت على شوق كبير بأن أجلس معه للحوار حول مواضيع كثيرة، فهو بروفيسور متخصص في العلاقات الدولية والشرق الأوسط، وقد حضرت عنده مقررات في السياسة الدولية، والتي مازلت بين الحين والآخر أقدمها في محاضراتي التي ألقيها في العراق على مختلف المستويات الثقافية. ومع أننا أصبحنا أصدقاء وزملاء، غير أنني مابرحت إلا أن أنظر اليه أستاذي الذي استلهمت منه الكثير من الرؤى والمفاهيم والعمق التحليلي في المواضيع التي كنا نتاولها. فهو بالفعل استاذ وصديق وأخ في الوقت نفسه.
كانت الزيارة من نوع آخر هذه المرة عن سابقاتها التي كنا نلتقي فيها إما في مطعم (بيزا) أو في كافتيريا الجامعة، فقد إلتقيانه أنا وزوجتي هذه المرة في بيته، وقد ألح علينا بعطف وبإلتماس أخوي هو أن نمكث في بيته طوال فترة الزيارة، وكان هذا خارج عن عادتنا وهي ان نفضل البقاء في الفندق. لم نستطع رفض طلبه لأنني لا يمكنني أن أرفض طلب من استاذ لتلميذه، وكان هذا ليس نابعاً من أنه أخبرني بأن زوجته الكريمة سوف تقوم بطبخ (الباميا) باللحم (الحلال) وقامت بالإشتراك في القنوات التلفزيونية العربية حتى توفر لي الأجواء الشرق أوسطية التي تشجعني على المبيت في بيته. لكنني كنت متشوقاً الى الجلوس معه لتبادل الحديث والنقاش حول مختلف الشؤون السياسية والدولية (وخاصة العراقية منها والإمريكية).
هذه التجربة القصيرة التي استمرت لمدة يومين أعادتني الى تلك الأجواء الحوارية التي افتقدتها طويلاً خلال الخمسة عشر عاماً الماضية التي قضيتها في العراق، ليس فقط لأن الأستاذ كروان (كجميع الأستاذة الأكاديميين في الغرب) هم على درجة عالية من التواضع تكاد توصف بإنعدام حالة النرجسية عندهم، فلا يعتقدون أنهم أعلم الناس وأفقه العلماء وأعظم الباحثين في مجال عملهم، بل أنهم دائماً ما يذكرون لك من خلال حديثهم عندما يبدون رأيهم بأنهم غير متخصصين في هذا الموضوع أو تلك القضية، ويطلبون من المقابل إغنائهم بالتفاصيل والمعلومات حتى يتوصلوا الى المعرفة. هذه الصفة تكاد تكون معدومة لدينا في الوسط الثقافي السائد عندنا، والذي يزعم فيه أي “متعلم على سبيل نجاة” لدينا بأنه خبير في “جميع” شوؤن المعرفة، وأنه من فطاحل أعلام زمانه. تراهم يجادلون في أغلب مجالات وتخصصات العلوم ويبدون آراءهم في جميع المواضيع ويعلقون الأمور بما يخطر في بالهم على جُلِّها. فهم “بالفعل” فطاحل زمانهم! ولكن حديثي وزوجتي مع البرفسور كروان أعاد لي أجواء النقاش والبيئة الصحية السليمة للحوار التي تكاد تكون غائبة في اللقاءات والحوارات في ساحتنا الشرقية العربية.
فالهدف من الحوار هو التفاهم المتبادل من أجل محاولة فهم الآخر كما يريد الآخر أن يُفهَم، ولهذا يستوجب عندها الإستماع والانفتاح، والتغلب على التحيز إذا لزم الأمر، كما يتطلب الرغبة في التعلم. فأجواء الحوار هي لتبادل الآراء من أجل الإستفادة وزيادة المعلومات وبناء المعرفة الذاتية، فينتهي اللقاء بفكرة جديدة وبيان مفهوم غائم أو توضيح بُعدٍ لم يتوجه النظر نحوه من قبل. بينما تتصف لقاءاتنا وحواراتنا ونقاشاتنا بثلاثة أمور تجعل جُلّ الحديث فيما بيننا عقيماً لا نفع فيه، بل في أغلب الأحيان يكاد يكون متعباً ومرهقاً للعقل وللنفس ومكلفاً للوقت والجهد. فعندما نتحدث في لقاءاتنا (وحتى في اجتماعاتنا الرسمية) يكون الهدف من الحديث ليس الإستماع الى ما يُطرح من فكرة أو رأي، فيكاد يمرُ صوت الكلام من أذن واحدة ليخرج من الآخرى ليلتقط السامع حينها بعض الكلمات أو المصطلحات أو العبارات التي قد تكون مشابهة لما هو مخزون عنده في الذاكرة فتثير عنده الحفيظة للإعتراض أو مجرد الحديث أو إسماع صوته. فحالما ينتهي المتحدث كلامه يتحفك السامع بقصص ومقاطع ومواقف قد لا تكون لها صلة بالموضوع المطروح، ولكن الأمر هو مجرد أن هنالك تشابه بين الطروحات التي سمعها أو ترادف في الأسماء والافعال التي سمعها تواً، فالغاية في حديثه هو أن “يتكلم ويناقش ويعارض” ليس إلا. وعندها يترواد لذهنك عن ماهية علاقة هذا الموضوع بالحديث الذي يجري النقاش حوله، أو ما فائدة القصة التي سردها الآخر لتتكامل فيها المعرفة التي يرجى التوصل اليها. هذه الحالة تقود عادةً الى أمر آخر وهو أن المقابل يُشعِرُك بأن الحديث الذي سردته أو الأمر الذي طرحته أو المعلومة التي وضحتها بأن لا قيمة لها وأن الجميع له معرفة مسبقة بها. فهو في هذا الحالة إنما يريد أن يثبت بأن لا فائدة ترتجى لما عرضته في حوارك ونقاشك، أو أنها حالة عامة لم تكن غائبة عن الجميع. وهذا الحال يؤدي طبعاً دوامة ثالثة في حوار “الطرشان” الذي عندنا، وهو أنه عادةً ما يفاجئك السامع بحديث أكثر (درامية) مما ذكرته وأن ما حدث له بالذات هو أعظم شأناً وأعمق تأثيراً مما تطرقت إليه، وكأن هنالك سباق بين الجميع يتمحور حول شدة ودرجة التأثير أو قوة وعظمة الشأن للحالات الواردة ولا علاقة له بمغزى الحديث. في النهاية تصل الى نتيجة بأن ما حدث وتحدثت عنه وما سردته إنما هو شيء عادي ما كان هنالك من (داعي) لذكره بالمرة. فينفض اللقاء وكل شخص مشارك في اللقاء والحوار (والاجتماع) لم يزدد معرفة ولم يستفد من الأفكار التي جرى طرحها وأن المقابل غني عن تلك المعلومات والتوضحيات ولا حاجة له بها، وكلٌ يعتقد بأن ما يعرفه هو قمة الحق والصراط المستقيم.
يذكرني حديثنا مع البرفسور كروان بتلك اللقاءات التي ذكرها افلاطون عندما كان مع (رَبعِهِ) يجتمعون مع سقراط على الساحل وكان يحاورهم، فإبتدع لهم حينئذٍ إسلوب الجدل، والتي فيها ينتقل من فكرة ليبني عليها فكرة مضادة ليتوصل الجميع من خلال النقاش الى مفهوم مغاير يكون مفيداً لهم جميعا. هذا النقاش السقراطي هو شكل من أشكال الحوار الجدلي يتعاون فيه الأفراد فيما بينهم للوصول الى الحقيقة، على أساس طرح الأسئلة والإجابة عليها لتحفيز التفكير النقدي واستخلاص الأفكار والافتراضات الأساسية لموضوع الحوار. القرآن يذكرنا بإسلوب الحوار الحديث المفيد من خلال الآية الكريمة: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. هنا تبرز خاصية الإستماع (وليس السماع) والتي تعني الإنصات أو الإصغاء للمتحدث بإنتباه وإهتمام؛ وإن على “المستمع” – كما تذكر الآية – أن يتبع الأحسن مما يقال له. وعليه فإن القرآن يصف هذا الصنف من المتحاورين “المستمعين” بانهم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ. أما عندنا فحواراتنا هي على العكس تماماً، وكأنها توصف من خلال تحوير الآية المذكورة: الذي يسمعون القول فيعترضون على أوطأه !!!
وطبعاً من يقرأ هذا الموضوع افترض أنه سوف يكون التعليق عليه: (أي هذا نعرفه موجود وكاتبين عنه)!