11 أكتوبر، 2024 3:31 م
Search
Close this search box.

آخر رجال الباركر

آخر رجال الباركر

شهدت وسيلة الكتابة انتقالة مهمة وخطيرة بدأت بولادة اول قلم حبر سائل في العالم قبل (200) سنة تقريباً. هذا النوع من الاقلام استحوذت على اهتمام الجميع ولا سيما فئة الكتاب والمفكرين والتربويين.. فقد سهلت عليهم الى حد بعيد مجالات الكتابة واستنساخ المدونات، وتدوين النصوص، بل والتأليف الذي انطلق بوتائر متسارعة في مختلف ميادين المعرفة.

ومنهم، صديقنا العزيز موضوع مقالنا الاستاذ جمال الاسدي. التربوي المتنور، والكاتب المتعدد الابداعات. اصبح قلم الحبر نوع (باركر) بانواعه الـ (21) و (45) و (51)، الذي لا يستخدم سواه، رفيقه على مدار اللحظات، ينفس بمداده ما يختلج في صدره من آهات حارقة، ومشاعر جياشة، مخزونة في صدره، يفرغ عن طريقه ما يحتويه رأسه من افكار كثيرة. وعلى الرغم من كل ذلك، فانه يقسو علية احياناً، بل يكون قاسياً جداً، فقلمه الباركر، الوحيد القادر على تخفيف آلامه. فجمال وباركره صديقان، كلاهما يشارك الآخر افراحه، واحزانه. فباركره صديقه الذي ينصت الى شكواه، وأنيسه الذي يشاركه فرحته، وان غلبت جمال الحيرة، لجأ اليه، وان ملكته الحسرة، شكى اليه.

وصديقنا جمال، لا يخفي على باركره سر، فقد فتح له قلبه، وصار يسرد له عما يجول في نفسه من كلمات موحشة تهز كيانه، وعندما يشعر بأن اليأس قد قيد يديه، واغلال الغم قد اثقلت جسده، يبدأ بنشر آهاته المكبوتة على السطور، وآلامه المدفونة في مشاعره على الورق.

بعد ان اصبحت الكتابة لجمال، حياته، تسري في شرايينه، وتتغلغل في نبضات احساسه، يلجأ اليها في كل وقت ولا تفارقه، خاصة في المساء، حسبما سُرّ لي، حتى اعتاد ان يسهر وحيداً الا من ورقته وباركره. ويظل ساعات طويلة مع سكون الليل الذي يخيم على اجواء غرفة مكتبته، ملاذه الدائم، حينها يشجعه باركره ويهمس عقله بالكتابة، فتبدأ انامله بخط الكلمات، فكل الارهاق يهون، وكل الآلام تهون، مادام باركره هدفه الابداع في الخلق والصدق في التعبير عن ذوات الاخرين.

فجمال، الكاتب، كما نعرفه نحن اصدقاؤه، وقلمه الباركر، ينحني بخشوع امام قلم الابداع اذا كان نظيفاً، ويهتف للقلم الذي يمسح دموع الحزن، اذا كان في خدمة الحق والعدالة، وليس مع الذين يتصورون ان القلم في خدمة الحق والباطل على السواء.

فعمر القلم الصادق اكبر من عمر البشر، فعندما يبحر (باركر الاسدي) في محيطات اللغة بحثاً عن مواطن الكلمة الصادقة، وموانئ الفكر الهادفة، حينها يجد لذة في مقاومة التيارات المضادة في سبيل الوصول الى ما يصبوا اليه.

فباركر الاسدي- الذي لم يعد له مكان الا في جيب جمال من دون جيوب كل العراقيين- كما عهدته انا وبقية الاصدقاء، يخترق دهاليز الذاكرة عنوة، ويدخل القلب بعد ان يفتح صمامات بشوق وهدوء، ويحمل في ثنايا الروح، بشرى، حتى يدعنا نغني اغنيات الصباح الفيروزية ببهجة، ونرقص على انغام ايقاعاتها التي خطت عناوين جديدة جميلة.

مرة، كشف لي جمال، انه حاول الكتابة، الكتابة عن اي شيء، لم يتمكن، شيء ما استشعر به، فعصفه بمداه، حاور نفسه، يكلمها تارة ويعابثها، وتارة يسايرها. استمر في محاورتها، ونسى كل ما حوله، ونظر بعينين لا تريان شيئاً سوى غشاوة بيضاء كثيفة، وهز كتفه لا مبالياً، وبين حين وآخر تواردت خواطره آلاف الخواطر، تتصارع في عقله الغائب عن سطحيات الامور، اقتفى أثر الارواح الشاردة والساكنة، وتأتيه الاصوات مزيجاً غريباً كنداءات من عوالم اخرى، توجهه على انها نفسه التي تحدثه وتستجوب ما بداخله عمق يسمعه ومن يرد على اسئلته: ماذا اكتب اليوم؟ اي الكلمات؟ يجلس وينزوي وحده، ويظل سارح وسط خيالات هي مجموعة اطياف تمر من امامه.

احياناً، يجد جمال نفسه بلا فكرة مسبقة ولا استعداد مسبق، فيمسك قلمه الباركر، فيجده يكتب وكأنه قلم سحري، فقناعته تدله عليه، وباركره يستدل على طريقته…

الكتابة عند باركر الاسدي، اشبه بالحب، لا تخضع لقوانين ولا مواعيد ولا اعداد، وقد يفاجأ بحالة من السيولة الفكرية بعد حالة من القحط واليأس تماماً كما يفاجئ اي واحد منا الحب بعد ان يظن انك قد احكمت اقفال قلبك بعد ان خاض آخر تجاربه.

احياناً، كما ذكر لي جمال، يريد ان يكتب رغم استعداده لذلك، وفي هذه الحالة كما يشخص يعاني من حالة رفض او يأس شديد، وهذه الحالة يصاب بها كل شخص يحاول ان يكون صادقاً مع نفسه او يحس ان الكتابة فعل ورصد وتعرية وتغيير وتحد وجهاد وتعبير عن واقع اكبر من الذات.

ترى، يسألني جمال: هل اطلعنا او اطلع البعض على ما كتبته بقلمي الباركر النزيه؟ وهل اطلعوا على ما سطرته الاقلام المأجورة التي بالتأكيد هي من غير انواع الباركر التي تبحث عن التزييف بعد ان فقدت الضمير؟ وشتان بين هذا الباركر الحقيقي وذاك الآخر المختلف. فمن يشوه الحقائق وينطق الكذب ويلهث وراء الزيف، يسقط. ومن يسبح وسط مناخ قائظ ليكسب بالخديعة نقطة، فهو غافل، والخديعة ما عادت تنطلي حتى على السذج من الناس.

البعض يا صديقي جمال، يدور في حلقه مفرغة في قراءة ما يكتبه البعض والرد عليه. ويعتقد البعض ان من دونه اغبياء وجهلة وهو الوحيد الذي يمتلك مملكة الفهم والاستيعاب والذكاء، وينسى هؤلاء كلهم ان اغلبية الناس مسحوقة ومشغولة ولم يعد لديها الوقت لتقرأ حتى جريدة بائسة بتفاهاتها.

آه، يا باركر الاسدي، عندما حاولت ان اكتب عنك، خفت ان لا اوفيك حقك. فانت الذي امدت اخي وصديقي جمال بالشجاعة الكافية التي من خلالها اصبح قادراً على مواجهة اختلاف وجهات النظر، فكلماتي هذه التي اكتبها فيك يا باركر الاسدي قليلة في حقك، فكثيرون من تحولت حياتهم بسبب اقلامهم المتزنة التي لم تنحرف عن طريق الصواب، اما صاحبك جمال، فليس منهم بل شخص اصبح يعشقك انت الباركر مثل عشقه لسهر الليالي من اجل رفد مدادك. فقد قامت صداقة كبيرة بينك وبينه ان لم تكن عشقاً، فالعاشق يتشبه بمعشوقه، اما جمال فيتشبه بك ويتخيلك متقلداً الوسام الذي بوده ان يمنحه اياك. فقد عبرت معه حاجز الخوف والتردد الى عالم ابداء الرأي والمشاركة وعدم الخوف في قول الحق خشية من لومة لائم غبي وحقود وحسود، فلك يا باركر الاسدي ان تتخيل حالة صاحبك وهو بعيد عنك، انها حالة اشبه ما تكون بحياة الصحراء، فكل شيء فيها مخيف ولا يتحرك.

ليتك تعرف يا باركر الاسدي شعور صاحبك عندما تجبره الظروف ويكون مجبراً على الابتعاد عنك، انه شعور من فقد عزيزاً لديه، فقد تعاهدتم ان تكونوا سوية ولا تفترقوا الى الابد.

ان كلماتي التي اكتبها تعجز عن وصف شعور صديقي جمال ومدى تعلقه بك، انت قلم الباركر. انه شعور الرسام عندملا يمسك بريشته، يغرق معها في احلامه وطموحاته، وجمال كذلك معك.

لقد عرف جمال مع باركره، احلام العالم المسمى بعالم الخيال، مبحراً معه الى اعماقه، مستمداً منه المادة لتحفظ اجمل عبارات الثناء والتقدير لباركره، متمنياً ان تظل صداقته لك الى الابد وان لا يكون هناك فرق بيد هذه العلاقة.

بالتأكيد، انه عندما يجد جمال ان واقعه اليومي لم يعد تجدي معه الكتابة ولا الكلمات، سيقرر – لا سمح الله- وبأرادته ان يريح باركره ويضمه الى مجموعاته من الانتيكات والتحفيات والى ما يجمعه من تراثيات شعبية، اذا احس انه مطلوب منه ان يغير مدادك ويزيفه وبالتالي حقيقة الواقع، لانه بدء يرى البعض يبيعون اقلامهم وافكارهم لمن يدفع اكثر او اولئك الذين يحاولون ان يظلوا الجماهير ويلونها بتجاويف يسمونها ثقافة ثورية، بينما جهرة الناس مشغولة بتوفير لقمة الخبز التي تزداد صعوبة الحصول عليها كل يوم. اما الاهم من ذلك فهو، ان الجماهير تعرف مقدار الزيف الذي يبيعه البعض. لذلك هي ترفض ان ينطلي عليها كل هذا الهراء وتدير ظهرها للذين يدعون انهم يتحدثون باسمها وهم يتحدثون بأسم المال والسلطان وتكتب الجماهير بطريقة واسلوب مختلف وتلتهم كتباً من نوع آخر، وتقدس اناساً من نوع مختلف.

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات