هل تسنى لكم ، أيها الأصدقاء ، أن قرأتم يوما”إن شعبا”من شعوب الأرض يفترس نفسه ويفتك بذاته ؟! ، وهل طرق سمعكم يوما”أن مجتمعا”من مجتمعات المعمورة يعشق الموت لأجياله ويهيم بالفناء لوجوده ؟! . لا أظن إن أحدا”منكم تجرأ يوما”على تصور إن مثل هذه الردّة البشرية ومثل هذا النكوص الإنساني ، يمكن أن تحصل لجماعة آدمية تمتلك حدا”أدنى من مقومات الوجود ناهيك عن مظاهر الحضارة !! ، كما لا أعتقد أن أحدا”منكم بلغت به شطحات الخيال لمشاهدة كل هذه الضروب من فقدان العقل ونوبات الجنون الأعمى !! . ولكن تأكدوا ، أيها الأحبة ، إن كل هذه الأمور حصلت وتحصل مع الشعب العراقي الذي حيّر العالم ودوخ الدنيا ؛ ليس فقط ببطولاته الدونكيشوتية المزيفة وانجازاته التبجحية الكاذبة فحسب ، بل وكذلك في توحشه المفرط وعدوانيته الشرسة . عجيب أن يحمل مجتمع كل هذا الكره لنفسه ويضمر كل هذا المقت لذاته !! ، للحدّ الذي يرفض بعناد غير معقول مغادرته مستنقع الهمجية الذي يرسف فيه ، مثلما يمانع بصورة غير مفهومة تقويم اعوجاجاته وتصحيح انحرافاته ، بحيث استحالت هذه الآفات إلى أمراض عضال فتّاكة لا شفاء لها ولا خلاص منها . ومن السخرية إن الأمور وصلت بالعراقيين إلى درجة لم يتركوا لغيرهم مجال إسعافهم من آفاتهم القاتلة ، ولم يمنحوا فرصة لسواهم بغية إرشادهم إلى طريق خلاصهم من آثامهم وتطهير أنفسهم من خطاياهم ، بحيث إن كل من يتوجه إليهم بالنصح والمشورة – لوجه الله لا يريد جزاءا”ولا شكورا- يقابل من جانبهم بسوء الظن وخبث الطوية ، باستثناء من يغريهم لاستئصال شأفة بعضهم البعض الآخر بلا رحمة ، ويشجعهم على ذبح بعضهم البعض الآخر بلا شفقة ، وهو الأمر الذي دفع بالتداعيات والإشكالات بلوغ نقطة اللاعودة . والمفارقة إن أحداث العراق ومشاكله بلغت من التسارع والتفاقم ، بحيث تركتنا نلهث خلفها ، دون أن نتمكن من اللحاق بها ومجارات انفلاتها ، مما استتبع إن الكتابة عنها والنقاش حولها باتت أمور نافلة لا جدوى منها ولا نفع فيها ، اللهم إلاّ من باب الحشو واللغو الفارغين . (الحقيقة لقد لفظت الكثير من المواضيع أنفاسها حتى قبل أن يتسنى لي الكتابة عنها بسبب ذلك التسارع والتفاقم ) . وإذا ما وجدت نفسي محمولا”على كتابة هذا الموضوع ، فليس في ذهني طرف آخر أروم أن يشاطرني في همومي ويواسيني في معاناتي ، بقدر ما أرغب التعبير عن إحساسي بالعبث والعدمية ، بصرف النظر عن مدى قناعتي بأكذوبة الادعاء بان العراقيين هم من أكثر شعوب العالم العربي ولعا”بالقراءة ، طالما أنها لم تنفعهم لا في نضوجهم العقلي ولا في اتزانهم النفسي ولا رشدهم الحضاري . اعذروني أيها الأصدقاء لقد سئمت الكتابة عن العراق ومملت الحديث عن العراقيين ، لا لأن جعبتي نفد مخزونها من المواضيع التي تحتاج إلى من يعالجها شرحا”وتحليلا”، وإنما لأني أصبحت على قناعة تامة ويقين مطلق بأن معجزة إلهية ، لن تحل بأرضهم ولن تمر بسمائهم ليس الآن ولا بعد ألف سنة ، ما لم ؟! . انتبهوا رجاء”لهذه (الما لم) لأنها عبارة فضفاضة لا وجود لها في قاموس لغة العراقيين ولا معنى فيها مفهوم الثقافة العراقية ، فهي تمنح – في الخطابات التي ترد فيها – أملا”بالتغيير وتعطي إشارة بالتحول ، في حين إن لا هذه ولا ذاك وارد لا في حاضر العراقيين ولا في مستقبلهم ، مثلما كان الأمر غائبا”في ماضيهم أيضا”. فالمآسي تتناسل في كنف هذا المجتمع بغير حساب والفواجع تتوالد في رحمه بلا توقف ، كما لو أنه يجتر مآسي أساطيره السومرية ويستعيد نواح أسلافه !! .
لا … لن يكفي بحقي الندم ،
والبؤس ، والضياع والألم !
وهل أبرأ حين أعلن توبتي ،
وألوذ بالصمت وأعتصم ؟!
ففي زمن أسمه الجنون ولعبته العبث ،
يكون السعيد من نجا والفائز من سلم !!