رحيل عبقري الفن الجماهيري ،،
رحل الفنان المختلف زياد الرحباني ، هو مختلف تماما، حالة فنية خاصة بل حالة فنية طوباوية اجتماعية ملفتة ، له اشباه في مصر كالشيخ امام مع احمد فؤاد نجم ، وفي العراق كعزيز علي بشكل ما وفي تونس السملالي وربما المورالي بجانب من فنهما ، وغيرهم في بلدان العرب الأخرى،، سبقوه أو عاصروه ،
لكن زياد نبض الجمهور الفقير “المعتّر” كما كان يحب ان يقول ،رغم انه من طبقة مرموقة ومن عائلة ميسورة ، هو راصد السياسة المتمثلة بالظالم والفاسد ، ناقد المجتمع المتمثل بالعاشق المفلس والنصّاب المتكبر والتافه المتبختر ، يصنع من كل شخصية “كاريكاتور” ومنلوج ممتع معبر وعميق يعلق في الأذهان لعمقه ويتردد على اللسان لعذوبته ، لا يتناول زياد الأشخاص والأحداث من جانبها المفهوم لدينا أو الشكل المخادع الإنفصامي كما اعتدنا ان نتقبلهم ويصدّقون اننا بلعنا طعم الشخصية المدّعاة ، انما يتناولهم من جانب مخفي فيظهره بسخرية قاسية ويفضح أساليبهم وأخلاقهم التي يرفضها بطريقة مضحكة ويجعل منهم اغنية تُردّد ، “عايشه وحده بلاك”
وكذلك يصنع في الحالات والمواقف الإجتماعية “اسمع يا رضا” أو الاماكن ، فهو يستحضر المكان يتفحصه يتفقد شخوصه وتفاعلاته اليومية وحوارات ساكنيه ليستخرج لنا الصور التي كنّا نراها ولا نخزنها “نَزل السرور” ، او العقائد ومعتقديها فيسخر منهم بما لا يزدري العقيدة نفسها وانما النفاق الذي وراء تبنيها من قبل متبنيها “اللي بيصلي الاحد واللي بيصلي الجمعة” والقضايا الاجتماعية الجدلية “أنا مش كافر” بس الجوع كافر ، بس الفقر كافر بس البلد كافر ، والإنسانية والصداقة “رفيقي صبحي الجيز” عامل النظافة الكادح الذي اصطاده احد القناصة وهو يكنس الشارع صباحا ، والسياسية “امريكا مين” قال :هي اغنية مصرية (بس انا كاتبها) وقد اسندها الى مغنّ مصري لتكون أكثر واقعية “
اما سخريّته من نفسه ليُسقط عليها ما ينتقده في الناس فلم يدافع عن خطيئته او خطئه يوما بل كان يبدأ بها ، لذا فزياد يمثّل عمق الشخص المتصالح مع نفسه والرافض لمحيطه دون تمرّد او انقلاب ، ينتقد الناس ولا يعتزلهم ولا يتكبر عليهم بل يجلس معهم ويضحك منهم ومن نفسه ومن غرائب الدنيا ، فلسفة بسيطة عمودها “انني انسان اوتيت موهبة او فهما وهؤلاء ناس أوتو عطلا او غلَقا فلا يزايد احد على أحد في المثالية ،
زياد يعرف من هو المطرب الحقيقي في مجاله الفني فينتقد مطربات اليوم المشهورات بطريقة قاسية وينكر موهبتهن ولا احد يستطيع ان يقول له اخطات ، لانه يتكلم بسخرية وبساطة ولكن بعلم موسيقي فني عميق يزيده حصانة انه “ابن الرحابنة وابن فيروز” ، فمن يستطيع ان يقول له “من انت لتنتقد” ، وقد استغل زياد هذه الصلاحية احسن استغلال بمحاولاته السلميّة الناعمة لِلجْم المتطفلين على الفن النافع الهادف ، وزياد يمثل قيمة اخلاقية فنية أخرى اذ رفض عرض اسطون الخلاعة سمسار آل سعود للترفيه والإنحطاط بعرضه لملايين الدولارات للترويج لتفاهاتهم كما رفضت امه حتى الرد على اتصالاته بينما لهث الجميع زحفا لرضاه من أكبر نجوم هوليود الى قرقوزات الفن المصري والعراقي وغيرهم .
استطاع زياد ان يصنع من كلمات عادية وحالات يومية تقليدية قوالب فنية ولوحات موسيقية وقطع شعرية مؤثرة ومستمرة ، له شطحات ادرجت ضمن النظرات منها طبعا ما كان يظهر ازدواجية في شخصيته ولكن المتبصر بهؤلاء الموهوبين يعرف ان ذلك من طبائعهم فلكل موهبة ضريبة ، وله سخريّات احبها الناس رغم سقطاته غير المتحفظة احيانا في التعبير ،
لزياد أغاني مميزة منذ الطفولة فقد لحّن سالوني الناس صبيّا وغيّر كلماتها لتناسب شدة غياب أبيه ولحّن “هدير البوسطة” يافعا وباعها لعمّه ! وكتب ولحّن “كيفك انت” شابا وخصّصها لأمه ، وهو كثير الإختصار والتطرف في التعاريف المفصليّة ، قال مرة في لقاء “الوطنية هو انك تكره اسرائيل”
روح زياد الفنية خليط من سيد درويش المصري وملا عثمان الموصلّي العراقي والرحابنة اللبنانيين على لمحة من تجربة الشيخ امام مع احمد فؤاد نجم
فالنغمة رحبانية متطورة والتحديث الموسيقي منها والروح درويشية متأصّلة “ومتدروشة ايضا” والطابع جماهيري خالص يمسّ كل طبقات أو حالات الشعوب العربية دون تميبز ،
الرحابنة منتمون الى العظم ومنهم زياد فقد غنّوا للقدس اجمل ما عرف الناس من اغان عنها والاكثر عمقا وهدفا “زهرة المدائن” “شوارع القدس العتيقة” “للقدس سلام” ” سنرجع يوما” “الغضب الساطع” كذلك خلطوا قدسية المدينة بكل اديانها لم يتحيزوا لأحد على حساب الآخر بل في اوبريت “مختارات من كتاب النبي ” كانت الحصة الكبيرة لنبي الاسلام والعالمين محمد عليه الصلاة والسلام ،
قال المذيع لزياد مرّة : انت من المقتنعين ان اسرائيل الى زوال ؟
قال : “هم الاسرائيليون انفسهم غير مصدقين انهم باقون ، لذلك عندهم وزارة حرب وليست وزارة دفاع كباقي الأمم لأنهم في حالة حرب دائمة ، ومع هذا فإنهم الى زوال” .
ليس سهلا أن تعوّضنا البيئة الفنية الآتية بفنان مثل زياد الرحباني فلعله ليس فقط آخر الرحابنة بل آخر الفنانين الحقيقيين .
أدهم الشبيب31 تموز 2025