23 ديسمبر، 2024 3:25 ص

( آخرون قبل هذا الوقت ) لكمال سبتي

( آخرون قبل هذا الوقت ) لكمال سبتي

عندما يأتي ذكر أسم الشاعر العراقي الراحل (كمال سبتي ) 1954-2006 تحضر القصيدة الحديثة أو اننا نتحدث عن شاعر مغاير مميز بنصه الشعري ، أخذ على عاتقه تطوير شكل الكتابة الشعرية والذهاب بالنص الى الغور في أعماق الثقافة الواسعة التي تسلح بها الشاعر عبر قراءات مختلفة وعميقة ، كمال سبتي الذي أسس لكتابة ذاتية في قصيدة النثر الحديثة داخل العراق كان ومازال بالرغم من رحيله المبكر والمؤلم في طليعة شعراء الحداثة ليس على مستوى الشعر داخل العراق فحسب إنما في الشعرية العربية برمتها .

نقرا في مجموعته السادسة ( آخرون قبل هذا الوقت ) والتي صدرت عام 2002 في دمشق عن دار ( نينوى ) للدراسات والنشر وهي المجموعة التي حضرتُ أمسيتها في دمشق وكنت إلتقيت بكمال في صيف 2002 بعد هروبه من العراق عام 1989 . تتألف مجموعة آخرون قبل هذا الوقت من أربع قصائد نثر طويلة نسبيا كتبها على الطريقة السطرية ، أضاف فيها شاعرنا الراحل الكثير الى الشعرية العربية والى قصيدة النثر بوجه الخصوص ، يتناول الشاعر في قصائده الأربع هواجسه التي دائما ما راودته في غربته وترحاله الطويل الذي كان يعيش الغربة والمنفى داخل وطنه العراق حتى قبل هروبه منه مجبراً بعد ان ضاقت البلاد ذرعا بابنائها بسبب الحرب التي أشتعلت لثمان سنين ولم يتوقف نزيفها ! نقرأ حسب التسلسل قصائد المجموعة بدءاً من القصيدة الأولى والتي بعنوان ( مكيدة المصائر ) ص 7 فيقول كمال في مطلع قصيدته :
( الغابة ُ ،
القطيعُ سينامُ ، البيوتُ التي ضجت بحيوانات البرِّ يرسمها
مشردون على سهر الأرصفة .
القصيدة بدأت ، بدأ الركضُ إلى ما حفلت به حياتي ، ما
حفل الخطأُ بالخطأِ ، وما حفلت فضائلي بهزائمها . ربما
سأتكررُ ، ربما محنيَّ الظهر . ولثقلِ ما حفلت به حياتي أقول :
تعبتُ كي يصدقني معمرون . ربما البطولة ، تلك التي أدمنتها
عزلاءَ ، لن تكون بيت الذئب . )
لعل متانة الجملة الشعرية ورزانتها عند الشاعر (كمال سبتي) واضحة تماما لدى القارىء ويضاف لها ثقافته والقراءات المكثفة وأخلاصه وحبه للشعر والتأني بكتابة نصه الذي يصوغه مثل صائغ الذهب ، وفي آخر مقاطع القصيدة يقول كمال ص 20:
( ها أنا إذن ، يا الكتاب الذي أجهلُ ، أخرجُ من هذه المدينةِ ، أو
أدخلُ أخرى ، وحيداً . فقد تنكر لي كلُّ من عرفتُ . كلٌّ قال
للسحرة : أهلاً ، وغنى معهم بثياب العرسان ، وكل ارتدى قناع
الحديد ليحرس جثتي ..
من مرَّ في ليلي بناي؟
من بكى لجثتي في بيتِ الجراحين
لا أحد . ) ..
القصيدة محبوكة بدرجة عالية من الحرفية والابداع الذي يمتاز بهما شاعرنا الراحل كمال سبتي فيتحدث عن جثته وموته وهو يرثي نفسه قبل رحيله بسنوات وكأنه يعلم علم اليقين بما سيحصل من موت . يقول كمال سبتي بعد ان انتهى من قصيدته ( مكيدة المصائر ) والتي شرع بكتابتها صيف عام 1997 وقبل ان يكتمل النص عام 1998 بلغه نبأ رحيل ( أوكتوفيا باث ) لذلك ستهدي هذه القصيدة نفسها خجلة ، الى ذكراه . نلاحظ حتى في اهدائه للقصيدة يتحدث بلغة الشعر العالية ..
في قصيدته الثانية والتي بعنوان ( حكاية في الحانة ) ص23 يبتدأها بجملة ( أكثر أعدائي ) وهي للحلاج فيبدا القصيدة ويقول :
( الجسد رماد . آخرون عند حافةِ النهر كانوا يملأون سلالهم
خواتم الجثث . قلت : أنّى تخرجُ إليّ في هذا الوقت والجسد
رمادٌ . كان للملكةِ خدمٌ تجسسوا عليَّ يوم تسللتُ إلى حديقةِ
القصر لاسمع جاريتها أشعاري . كان سعداءُ قد شتموني
بالجنون في حفل تقليد الأوسمة . وكان قضاةٌ قد استحلفوني
للشهادة في قتلِ الملك …
يأخذ بايدنا الشاعر كمال سبتي في نصه المدهش (حكاية في الحانة ) الى مديات تاريخية يوظفها بصور رائعة تجعلنا نعيش بين رماد جثث الماضي والكذابين والمتملقين الذين يظهرون في كل الأزمان والعصور وهم يرقصون لكل نظام يقوده دكتاتور او ملك يأتي بعد قتل من سبقه ! فهو يرثي بلاده التي ترزح تحت فواجع الحروب والموت ، ويستمر في نصه ليؤرخ لنفسه هذا الموت حيث يقول ص 27 :
(سأؤرّخ لنفسي هذا الموت ، فأعني عليه ، وأعني عليّ ، وأعني
عليك لكي أخرج إلى الليل والنهار ، لكي اسأل الطبيعة عن نهرٍ
لغسل جسدي وشمسٍ لتنضيده .
فقيرَ اليدين والشفتينِ اضيعُ في هذه الحربِ ، سلاحي غيبُ
الكتب ، وطريقي ألا أكون في طريقِ ، أستنجدُ بما كنتهُ ذات مرة ٍ
في قصيدة البار ،يوم تعرفتُ الى نفسي وسميتني شاعراً ) .
كمال ينجح في محاكاة الذات شعريا ويقدم حكايته في الحانة بسردية شعرية فائقة تتفوق بلغتها حتى على القصائد الموزونة التي تكثر فيها الغنائية لتلفت الانظار ، بينما نص كمال النثري فيه ما يفوق الكثير من قصائد الوزن والقافية وكأن نص فيه موسيقى تبرز نوتاتها عبر كل كلمة أو جملة يقولها الشاعر وبانسيابية تدلل على إمكانية شعرية فائقة الجودة ونص يتقدم كثيرا على الزمن الذي يكتب فيه وهو نص منفتح على كل الإتجاهات الثقافية والفكرية بالاضافة الى اتجاه ذات الشاعر التي يتحدث إليها ، عندما نقول بان الشعر الحقيقي باقي لانه شعر كوني يظل يتجدد بعد قرون من الزمن وهكذا هو نص كمال سبتي تحديدا ..
القصيدة الثالثة هي نفس عنوان المجموعة وأسمها ( آخرون قبل هذا الوقت ) يقول الشاعر كمال سبتي في مطلعها ص 39 :
( الشتاءُ قرب البحر .
أخرجُ طيعاً لدموع الساحل فينبئني الصيادون نبأ البحر .
لم يصل النعش بعد . أصغي إلى عجوزٍ ترسم عكازاً على
الرمل ، وإلى حانة الساحل ِ مهجورةً من الساحلِ ، لا غريب
سواي إذن ولا قبر سوى قبرك .. مأتم تسمعه البحارةُ ليسألوا
العجوز عمن لم يهلك بعدُ . لا غريب سواي . أصادق البحر
بالمعطف الصوفي ّ بذكرى اللصوص ذوي الأرجل الخشبية
بسفن الحملِ والغرقى الزنوج .)
في هذه القصيدة التي تحاكي سوداوية الموت وفكرته ، فالبحر في الشتاء يبدو كئيباً مخيفاً وفوق ذلك غرقى من سفنٍ ولم يكن ثمة غريب هناك غيره ، فالشاعر الذي يبكي غربته ووحدته التي عاشها محاولا عبر نصه ان يذلل الغربة ويجعل منها مركبا يبحر به بنجاح وهو يجوب البحار ليصل الى بر الأمان وعبثاً يحاول فهو الذي يضع مشاهد الموت أمامه في كل خطوة يخطوها في غربته داخل الوطن او خارجه . .
وفي آخر قصائد المجموعة والتي تحت عنوان ( البلاد ) يقدم الشاعر رثاءً لبلاده التي خاضت الحروب وويلاتها منذ ثورة العشرين والذي يستشهد الشاعر كمال سبتي ببيانهم في بداية القصيدة مع مقطع للجواهري حيث يقول ص 61 :
( ها نحنُ نُبعِدُ فَيتبعوننا ). البيان الأخير للثُّوار 1920 }
( ويا خَسِرَ الصَّفقةَ الرابحُ ) . الجواهري
القارب الذي لاح لي في النهر كان جثةً .
أنكفئُ الى سعادة شُبّاكٍ ،
الى عُريٍ لا يضاءُ بمصباحٍ ،
والى حطبِ شتاءٍ يشعلهُ غزاةٌ صحراويون .
يَصهِلُ حِصانُ الذهب والفضة ،
يصهل حصانك يا أمير .
يرتجف الفنجان ،
يلطخُ بالقهوة خريطة مهربة .
يصهل حصانك يا أمير ،
حصان الذهب والفضة يا أمير .
لا يبقى لي شبّاك ولا عريٌ …
ولابد من القول ان مجموعة كمال سبتي آخرون قبل هذا الوقت هي مجموعة أضافت الكثير الى تاريخ الشعرية العربية عامة والعراقية خاصة وبخاصة قصيدة النثر التي يتفوق فيها بإمتياز عال منذ مجموعته الرابعة ( متحف لبقايا العائلة والتي صدرت في بغداد عام 1989 وتلتها آخر المدن المقدسة والتي ترجمت لبعض اللغات ، كمال سبتي شاعر الحداثة الذي ترك لنا إرثا شعريا مهما عبر مجاميعه السبع الى جانب كتاب تنظيري ومقالات ودراسات كثيرة ..
رحمك الله يا كمال ايها الشاعر والانسان ، ستنتبه الاجيال اللاحقة لمنجز كمال الكبير وتقيّمه فهو لا يقل عن كل الشعراء الكبار ….