22 ديسمبر، 2024 5:29 م

ءالأنوثة المُؤَلَّهَةُ عند رياض الدليمي: قراءةٌ في ديوانه ( آخرُ النّاس)

ءالأنوثة المُؤَلَّهَةُ عند رياض الدليمي: قراءةٌ في ديوانه ( آخرُ النّاس)

الأنثَى! يا إلهي، هذا الكائنُ العجيبُ! من ذا الّذي يعرفُها فيكُم؟ لا أحد. إنّهَا كلُّ ما لا يُمْكِنُكُمْ أن تتخيّلوهُ من التّناقُضات المُمكنةِ والمُستحيلة في آنٍ واحدٍ: إنّها الخيالُ والواقع، الغيابُ والحضورُ، الصّمتُ والضّجيج، الطّينُ والنّور، السّرُّ والبوح، اللّيل والنّهارُ، الحقدُ والحبُّ، الزّلزالُ والسّكينةُ، الحربُ والسّلامُ، الخديعة والوفاءُ، الكذبُ والصّدقُ والدّهَاءُ، إنّها كلُّ هذا وأكثر، لكنْ مَنْ منكُمْ أنصفَها، منْ منكُمْ غاصَ في أسرارها، بلْ منْ منكُم فكَّ رموزَهَا؟ لا أحد. إنّها المُسْتَعْصِيَةُ المُمْكِنَةُ؛ فيها الطّفلةُ والمرأةُ النّاضجةُ، وفيها المُراهِقَةُ النَّزِقَةُ والمُسِنَّةُ الحكيمةُ، وهيَ لأجلِ هذا حيّرتْ كبارَ المفكّرين والفلاسفة حتّى أنّهم سكبوا فيها بحاراً من الحِبْرِ وما وصلوا إلى شيءٍ، بل كانَ منهُم من قال فيها إنها شرٌّ لا بدَّ منه، أو إنّها حليفة إبليس لذا وجبَتْ محاربتُها وتشديدُ الخناقِ عليهَا، وكبْتُ كلّ ما فيها من فَوْرة وثورة، حتّى لا تنْفَلِتَ وتُفْسِدَ أمورَ البلادِ والعِباد، وما شذَّ عن هذا الموقف سوى المتنوّرينَ منْ أهل الحرفِ الوضيء، أولئكَ الّذين عرفُوا اللهَ وقدروه حقَّ قدْره، فقالوا عن المرأة: إننا لا ندري حقّاً من تكونُ حتّى تأسِرنَا هكذا بكلِّ ما تجمعُه من خصائل ونقائص وفضائل، فلربّما تكونُ تجلٍّ من ربّنا ونحن لا نعلمُ ذلكَ حقّاً، إذ لا أحدَ ملأَ علينا حياتنَا ووجودَنا وأنار قلوبَنا بالحبّ والعشقِ كما تفعلُ هي! ومِن هؤلاء المتنوّرين لا أستثني الشّعراءَ طبعاً، فمَن غيرهُم كانوا أشجَعَ النّاس وأقدَرهُم على رفع الحظْرِ عنْها، وحذفِ اسمِها من قائمة الخِرافِ التي تُساقُ كلَّ يومٍ إلى المذابح، ومن لائحةِ الأملاك المنقولة وغير المنقولة، والدّخُولِ بها وردةً صوفيّةً على براق المحبّة إلى المدن التي تمارسُ الحبَّ سرّاً، والحربَ علانيةً، وتخشى مصافحةَ المرأة حتى لا ينتقضَ وضوؤُها!
ولعلَّ رياض الدليمي يُعَدُّ واحداً من هؤلاء الشّعراء المتوَّجِين بإكليل البهاءِ الّذي استطاع أن يضعَ هو الآخر بصمتَه في لوح شعراء الأنثى المتبَصِّرينَ ويكشفَ عنهَا الحجابَ بعفّةِ وخشوع العارفين ليُطلعنَا على الجانب المؤلَّهِ فيها، بعينٍ صوفيّةٍ ترى في المرأةِ السيّدةَ العاشقةَ المُلْهَمَة والمُلْهِمَة، والأمَّ الرؤوم والزّوجةَ الصّالحة، والابنةَ زهرة الدّنيا والآخرة، والأختَ الفاضلة والقديسةَ المبجّلة التي لولا حضورها بكلّ تجلّياتها في أشعاره لظلّتِ القصائدُ في ديوانه بدونِها كنخلةٍ شمّاءَ جرّدتْها أعاصيرُ الزّمن وتقلّباته من الجُمّار والثّمار، أو كصحراء جرداءَ لا واحةَ ولا بئرَ فيها. وكلّ شاعرٍ كما رياض يظلُّ وسيماً أنيقاً مادام في كنفِ المرأة، وإذا حدثَ وغادرَ شُطآنَها وفيافيهَا شاخ فجأةً وإلى الأبد، وأصبحتْ قصائدهُ كمن يكتبُ الشِّعْر بأسنانه، فظّةً قاسيّةً فجّةً لا حياة فيها.
والكتابةُ عن الأنثى في ديوان رياض (آخر النّاس) ليستْ ضرباً مِنَ الوهم أو الخيال، وإنّمَا هي نوعٌ منَ الوعي بالذّات، وبالحضرةِ الإلهيّة، لذلك فإنّ المرأةَ بهِ ومعهُ تتجاوزُ مِحَنَ التاريخ الذّكوري، وتخرجُ منْ كلِّ تلكَ الأقبيّة التي أسكنَها فيها بعضُ رجال الدّين منذُ الأزل وفي كلّ الثقافاتِ، لتظْهَرَ ككينونةٍ تُلْغِي زمنَ الرّجُلِ المتعالي في توحُّده ووحدتهِ الوجوديّة وتُدْخِلُه في زمنِها، لأنّهَا وحدَها العارفةَ التي صيّرتْ رياضاً سالكاً ينهلُ من علومها وغيّرَتْ بهِ نظامَ المجموعة الشمسية وقبضتْ معهُ على طريق اللبّانة إلى أنْ أصبحَ هُوَ نفسُهُ نجمةً لا تأفلُ إلّا في حضرتِها، ولا تشتعلُ فيهَا شهوةُ الكتابةِ إلّا بوجودِها طوفاناً جارفاً، وزلزالاً مُجَدِّداً وبانياً على أنقاضِ الوهْم أبراجَ الحقيقةِ، ومُفَجِّراً لسُؤالِ الشِّعْر الأكبر قائلةً بكل ما فيها من وهجٍ: القصيدةُ أنثى، والأنثى مدرسة، والشّاعرُ فيها سالكٌ لمْ يهتدِ بعدُ إلى حروف الهجاء!
وكونُ المرأة مدرسة، أمر واقعٌ يعيهِ جيّداً رياض، لذا تجده يقول في قصيدته (ليلى):
” ليلى أنا المنشطرُ
حلماً بين السمواتِ
وهزائم القرنفلِ
ومواسم زيتون جفاء
أصلي بعد كلِّ هزةِ جذعٍ
جني ثمرٍ
خاشع في مهد السوسنِ
أَشتعلُ بصفرة اليقطين
لسلالِ شتائكِ
وحقائبِ الصغار الملونةِ
بأحلامي المجنونةِ
نسابقُ خوفنا لنهارٍ موعودٍ
ليلى أنتِ ليلة قدري
وقصيدتي الموجعة
وهمٌ مستديم”
أجل، هو معَها صغيرٌ لهُ حقائبُ ممتلئة بالأحلام، لا يمكنُهُ أن يُحَقِّقَهَا على ورقِ القصيدِ سوى بها أو معها، لأنّها هي القصيدةُ وهي النصُّ، وهي الكتابةُ، وهي التّاريخُ، بل هي الوجعُ الّذي يولَدُ بالصّدر ويقودُ الإنسانَ إلى مدارات القيامة والانبعاث كما يقولُ رياض نفسه في (قيامة نصّ):
“نصٌ
هو
وجعٌ يولد بالصدر
يكتمل بالفكر
يتخذ من الليل مهدا
على فمك قيامة
وتنهيدة جفن
أهديك إياه
حروفا مخملية
وسهادا
خاليا من الأضغاث
وسنابل تبر
تنظم قلادة سومرية
سحرا
وعبقا يجن
ملحمة بربرية
تدون على وسادة فجر
عرسا لنص
ومتعة لحرف”
الأنثى المؤلّهة هي نبع المحبّة المعراجيّة الموصِلة إلى ملكوت البهاء، ورياض بِها معميٌّ عن كلّ منظور، ومخروسٌ عن كلّ منطوق، ومُغْلَقٌ قلبُه عمّنْ سواها، ومرميٌّ قفلُه في غياهب جُبّ الخيال، مادام لا خيالَ ولا طيفَ سواها، هي التي يقولُ فيها:
((احسبيها شطحةَ قلبٍ
أو مراهقةُ خريفْ
لِمَ أنتِ حيرى
وقَدْ نَذرتُ الأعيادَ قرباناً لِلَيالي الروحْ؟
أطفئي غَضبَ البوحِ برفقٍ
وتَهَجَدي بصلاةِ الهمسِ
أَطلقي اليدَ ولا تُسَوِّري القلبَ
ولا تندمي وأنتِ تحلقينَ في سماواتَ الروحِ
وأَنجمي …))
تتصاغرُ الأكوانُ عند رياض، ولا يبقى كونٌ لا أنثى فيه، وهو لهذا يبدو في ديوانه آخر النّاسِ ممّنْ تمسَّكَ بالمرأة كغايةٍ من غاياتِ المعرفة الأولى باعتبارها دلالة على صنعةِ الصّانع الّذي يتلاشى أمامه كلُّ شيء مصداقاً لقوله جلّ جلاله: ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) (الرحمن / 26-27)، لذا فإنّ كلّ من نظرَ إلى الأنثى المؤلَّهَة لا تتحقّقُ لديه المعيّة، بالضّبطِ كما قال رياض في نصّهِ (ألوذ إلى أسوار الماء) متحدّثاً عنها بصيغة التذكير، لأنها هي وحدها من تجمع الصفتيْن مادامت هي التجلّي الأسمى للحضور الإلهي في أبهى وأرقى صورة:
((هُو الخَلاصُ
ملجأٌ وحلمٌ ألوذُ إليه
كلَّ مساءٍ
بعدَ اِنتهاءِ صلاة
ألوذُ لأسوارِ الماءْ
بلا إذنٍ
و مآذنٍ …
لازوردٌ أفوحُ في كأسهِ المشكاة
حجرٌ فيروزٌ
يُعاذُ بهِ كلَّ مساءٍ
دربٌ حَريريٌ يرقصُ بدندنةِ خلخال
هي أَحلامي …
وطنٌ هُوَ
لا تُغطيهُ سماء
ولا زلازلٌ و شُح ماء
لا مكانٌ يمرُّ منهُ المسافرونَ
ولا سُلطانٌ يَشي سلطانا
أو يقتلُ مولوداً بِنِيشانِ الحكايةِ)).