27 يوليو، 2024 4:05 ص
Search
Close this search box.

يوميات .. الباب الشرقي/5

Facebook
Twitter
LinkedIn

انتهى حوار الحضارات وصفّق الجميع، صفّق عبد الحسن ولم يعرف بم تحاوروا وماذا قالوا.

سَموأل تُصفّق بحرارةٍ وتُردّد ( رائع، رائع، هل ترى يا صديقي ؟ ).

عبد الحسن : آني جعت، انتي ما جعتي ؟

تجيبه سَموأل باستغراب : كل هذا الغذاء الروحي وتريدني أن أشتهي لُقمة ؟ لا ياعزيزي لا، دعني أتناول وجبتي باستمتاعٍ وأهضمها بهدوء.

: أجيبلچ سفن ؟

قال له سعيد جُلْجُثّة بعدما فرغ من تحية أصدقاءه والمعجبين به : ما رأيك صديقي سوني بما قدّمناه من حلول ناجعة لتحديّات البشرية ؟ كل جمعةٍ نتحاور هنا ونحلّ قضية تخصّ الوجع الكوني للأمم المسحوقة، وفي استرساله هذا، قاطعه عبد الحسن وسأله، ( انته أكيد جوعان، باعتبارك صبّيت الغذاء الروحي للوادم والمعزّب ما يصير ياكل ).

ارتبك جُلْجُثّة من جُملة عبد الحسن الاعتراضية واعتبرها إهانة، كأن رِعدةً أصابته، فصار يتأفأف ويجرّ شَعره.

عبد الحسن صاح بسَموأل التي انشغلت بغيره : الحگي يمعوده هذا اجتّه الحاله.

وحين تأخرتْ سَموأل في الجواب وتصاعدَ انفعال جُلْجُثّة، ابتعد عبد الحسن مسافة ثلاث خطوات، وخطّ على الأرض باصبعه دائرةً حول نفسه، ينفخ في وجه جُلْجُثّة ويردّد : اللّهم رَبَّ دانيال والجُبّ، ورَبَّ كل أسدٍ مُستأسد، احفظني وغَنـمي.

وإذ لم تُفد التعويذة بتهدئة سعيد الذي بدأ بالصراخ والتقدم نحوه. خافَ عبد الحسن وارتبك وصار يردّد : قل أعوذ برب النَفَق من شرّ ما سَبق، ومن شرّ حابسٍ إذا تَنك .. ثم ولّى هارباً ولم يُعقّب.

اختفى بين الحشود، يلتفت يمنةً يسرة : بألف ياعلي خلَصت من أمّ اللُبُع انّوب هذا طفر عليّ، وين أولّي هسّه ؟

يرى سَموأل من بعيدٍ ويرى جُلْجُثّة أمامها، كيف يتكلم بانفعالٍ ويشكوهُ لها ثم يدير رأسه باحثاً عنه.

عبد الحسن لا يدري كيف يعود للمشهد، بعدما كان قاب قوسين أو أدنى من الفوز بها ( الله يسامحك جُلفطّه، اشحچيت آني وهيچ صار بيك؟ ).

احتمى بعربة الأسكنجبيل وتقرفص خلفها، ناوله صاحب العربة فور جلوسه على الرصيف قدحاً عملاقاً من الأسكنجبيل المخلوط بالصودا. نظر إليه عبد الحسن بعينين مكسورتين، قد هَدّهُ الجوع والخوف، وهذه الكمية من الشراب الفوّار أمامه. أعطى ورقة ألف دينار لصاحب العربة المتوتر واستلم القدح منه، وما أن وضع حافة القدح على شفته وارتشف، صرخ به صاحب العربة ( هاك الرُبع ).

سمع عبد الحسن بالرُبع، فشهق شهقةً كادت روحه أن تخرج منه.

: عمّو ما أريد اللُبُع، عفواً، الرُبع، فدوه لعينك.

صرخ به العمّو : شنو تبخشش عليّه ؟ ألزم وبَله فلسفه.

أخذ ربع الدينار وبدأ يلوّح به ويهزّه حواليه وفوق رأسه، ليعرف مدى قُرب أو بُعد تلك المخلوقة منه !.

الشراب صعب المذاق، يحرق معدته الفارغة، شربَ منه الثُلث وأراد أن يسكب ما تبقى بين رجليه، فرصده صاحب العربة.

: شنو ما عجبك ؟ وهو يُلوّح بأداةٍ حادةٍ بيمينه عليها بقايا ثلج.

فكّر عبد الحسن بسكب الشراب والهروب منه، لكنه تصوّر أنّه لم يبق في السوق في هذا اليوم المبارك، إلّا المتنبي عليه السلام ليُبعث ويركض خلفه !. فترك الفكرة وعاد يتفاوض.

: عمّو، يعني هذا كلّه أشربه ؟.

: إي !

: صار

أخذ يكرع منه كما الجِمال، حتى امتلأَ جوفه بغازاتٍ تبحث عن مخرج، تهيّجت شفتاه وصارتا كشفتي خروفٍ شَمَّ إدراره.

تبلّل حنكه ورقبته وصدره بما سرّب من الشراب غفلةً من صاحب العربة، وحتى أنهى القدح، عجز عن التنفس تماماً وكادت عيناه أن تنفجرا، أصابه دوارٌ وفقدَ القدرة على حمل القدح وإعادته. مال صاحب العربة وأخذ القدح منه وطلب منه أن يغادر المكان فوراً.

صار يحبو كما المشلول مبتعداً عن العربة، يائساً من الحياة، حرارة الشمس والذباب الذي تجمهر حول رأسه وعنقه تزيد من انتكاسته. جلس بعد مسافةٍ على الرصيف، فأشار له صاحب العربة بالآلة الحديدية أن يقوم ويبتعد أكثر.

قال وبصوتٍ خفيّ : أدري، هو شارع مال أبوك ؟.

سمعه صاحب العربة، فترك عربته وتوجّه نحوه غاضباً والآلة الحديدية بيمينه، وفي الأثناء التحقت الغولة أمّ اللُبُع به بعدما رصدته، ومن هناك اقترب جُلْجُثّة، وصاروا سوّيةً في مرمى بصر عبد الحسن، الذي لم يملك إلّا كفّيه ليضرب على رأسه ويطلب منهم الإسراع في الإجهاز عليه ( أدري، كاتلّي سيّد لو متراهنين عَليّه اليوم ؟ ).

تكاثر الناس عليه، بين ضاربٍ ورافس، وصوت عبد الحسن من تحتهم ينادي ( اليوم ألقى جَدّكَ النبيّا .. ثمّ أباك ذا الندى عليّا ).

تدخلت قوات السُوات المتواجدة في المكان وسحبوه من تحت الأقدام بعدما صار بعينٍ واحدة، والأخرى أصابها ورمٌ وزرقةٌ مائلة إلى الإحمرار، وفقد أربعةً من أزرار قميصه الأحمر وفردةً من حذاءه أبو البوز، أجلسوه على حافة الرصيف وأحدهم يحرك منديله أمام وجهه وينفخ به وعبد الحسن يردد أبيات فروة بن المسيك المرادي ( فإن نهزم فهزّامون قدماً .. وإن نهزم فغير مُهزمينا ).

أزاح أحد الواقفين كمّ قميص عبد الحسن وتأمل في الأثر على كرشة يده.

: عمّو إذا هاي عاضّتك، تره لازم تضرب أبره مال گزاز.

: إي عمّو عضّتني. خنقته العَبرة، وخرجت الدموع من عينه المفتوحة فقط.

استقرت حالته الصحية بعد دقائق وقام من مقامه بمساعدة أهل المروءة الذين طوّقوه، وأخرج أحدهم ألف دينار وحشره في جيب عبد الحسن وربّت على ظهره، التفت إليه عبد الحسن وعانقه وبكى على كتفه. تحرك ببطءٍ وعرجٍ وعاد إلى الحديقة باحثاً عن سَموأل، وحين التقاها وصحبِها، استقبلته بدهشةٍ على حالته المزرية وسألته عن ما جرى له.

أخذ نفساً عميقاً وقال لها : فاتحه وخسرانه، ولا يهمچ، جماعه اتعاركوا وفاكَكتهم، لأن آني بَطَل.

: ياي عليك صديقي الغيور، إذن تعال وانتعش بمشروبٍ خاص لن تنساه طول حياتك.

تحسّسَ الورم بعينه وأجابها : لا عزيزتي، شربت منّه، وفعلاً مراح أنساه طول حياتي.

..

يتبع

[email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب