14 ديسمبر، 2024 10:58 م

وعي العقل الغربي بالإسلام

وعي العقل الغربي بالإسلام

عناصر تشكيل العقل الغربي في وعيه بالإسلام
يعود الاهتمام الغربي بدراسة الإسلام وتاريخه واتجاهاته الفكرية والاجتماعية إلى ما قبل مرحلة تشكيل الوعي الاستشراقي، وهي المرحلة اللاهوتية المسيحية؛ إذ بدأ الوعي دينياً لاهوتياً (مسيحياً)، وانتهى مركّباً من عدة اتجاهات ومدارس غربية، بالتزامن مع الصراعات العسكرية بين الدول المسلمة والدول الاوروبية، ثم موجات الغزو والاحتلال الأوروبي للبلدان الإسلامية منذ القرن السادس عشر الميلادي.
أما المرحلة الجديدة من الدراسات الغربية؛ فقد بدأت في نهاية السبعينات، مع اندلاع الثورة الإسلامية الإيرانية، ثم أخذت – تلك الدراسات – شكلها الحالي في مطلع الثمانينات مع إعلان الحركة الإسلامية العراقية عن نفسها، وصولاً إلى تأسيس حركة المقاومة الإسلامية في لبنان(1). ويشتمل الإهتمام على دراسة تيّارات النهوض الإسلامي وجذورها العقدية والفقهية والتاريخية، ورموزها وأهدافها، والقواعد الفكرية السياسية والفكرية التي تشكّل بعضها دوافع لتأسيس تيّارات الصحوة والنهوض الإسلامي. فخلال الثمانينات تأسست في الغرب مئات المراكز واللجان والمجموعات البحثية لدراسة الصحوة الإسلامية الجديدة، وصدرت آلاف الكتب والبحوث والمقالات في هذا المجال. وقد ذكرت بعض المصادر أن وكالة المخابرات الأمريكية (C.I.A) موّلت خلال عام 1983 أكثر من (120) مؤتمراً وندوة لدراسة (ظاهرة) الصحوة الإسلامية وجذورها(2).
ومنطلقنا هنا في تقويم الوعي الغربي بالإسلام والمسلمين وفهمه وتفكيك عناصره، ليس ردود الفعل تجاهه، أو وعي التناقض المسبق مع معاييره، بل المنطلق هو تكوين وعي موضوعي به، من خلال استقراء اتجاهات أكبر عدد ممكن من التيّارات والرموز التي تمثّل العقل الغربي. فالنظرة الواقعية للغرب ولبناه العقلية والفكرية والاجتماعية، ليست نظرة ستاتيكية ذات أحكام جاهزة وفي إطار إتجاه فكري وثقافي محدد، كما هو الحال مع النظرة الغربية للإسلام والمسلمين وعموم الشرق، وإن كانت هناك بعض الثوابت في هذا المجال، والتي يحاول بعض المفكّرين المسلمين تحويلها إلى بنية فكرية في مقابل الاستشراق، أطلقوا عليها عنوان: «الاستغراب»(3).
يقف فهمنا الواقعي لوعي الغرب بنا على دعامتين:
وعينا بذاتنا وعياً موضوعياً، والذي يتضمّن اكتشاف هذه الذات والعودة إليها وإعادة إنتاجها.
وعينا المستقل لبنية العقل الغربي ومعاييره في فهمنا وتقويمنا.
ويشتمل هذا الفهم على قواعد الوعي الغربي وخلفياته وأهدافه، إضافة إلى الوعي اللاهوتي السلطوي والاستشراقي والاستعماري، ومعاييره ومناهجه، وأساليبه وإفرازاته؛ إذ أن العقل الغربي الذي ينتج هذا الوعي المتجدد بالإسلام والمسلمين والصحوة الإسلامية ومظاهر الصعود الإسلامي، ليس أحادي العامل، بل يتشكل من أربعة عناصر أساسية، متمازجة ومتشابكة في نشأتها وتأثيراتها المتبادلة، هي: لاهوت السلطة والخطاب الاستشراقي والنزعة الإستكبارية وفكر النهضة الاوروبية:
1-لاهوت السلطة:
تأسس التحالف بين سلطة الدولة المطلقة والسلطة الدينية المسيحية في أوروبا، على يد الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول (272 ـــ 337 م)، خلال انعقاد المجمع المسكوني المسيحي الأول في روما (305 م)، أي بعد ثلاثة قرون من ميلاد عيسى المسيح، وهو تحالف تخادمي بين سلطة الإمبراطور وسلطة الكهنة، وقد نقل المسيحية الروحية الناصرية التي جاء بها السيد المسيح، الى مسيحية سلطوية، عنوانها “لاهوت السلطة”، وهو اللاهوت الجديد الذي حوّل الإمبراطور الروماني قسطنطين الى قدّيس، له الحق في نشر المسيحية الجديدة (القسطنطينية) واحتلال أراضي الغير واستعباد الشعوب، وفرض الدين الجديد عليها بالذبح والسيف، باسم الرب والمسيح والصليب. وقد اختلف هذا اللاهوت اختلافاً بنيوياً عن المسيحية العيسوية التي كانت السائدة آنذاك؛ فالأولى هي المسيحية الروحية الأخلاقية الاجتماعية، الخالية من التشريع ومن النظم السياسية والاقتصادية، والثانية هي المنظومة المسيحية السلطوية الإستعمارية، التي نشرت المسيحية في اوروبا والعالم بالسيف والقهر، وهي التي أسست لنظام الاستبداد الديني الكنيسي.
لقد تبلور لاهوت السلطة الأوروبية من خلطة عجيبة، جمعت بين:
تعاليم روحية أخلاقية بشّر بها النبي عيسى المسيح.
عقيدة أسسها بولس (5- 67 م)، الذي يعد المؤسس الحقيقي للعقيدة المسيحية، التي تتمحور حول شخصية السيد المسيح حصراً. وتمكن بولس، عبر هذه العقيدة، من تحويل التعاليم المسيحية من انشقاق ديني يهودي الى ديانة مستقلة على أرض الواقع. مع الإشارة الى أن بولس هو يهودي روماني أصلاً، وكان يضطهد المسيحيين الأوائل بعد عروج السيد المسيح، ثم زعم أنه رأى نور السيد المسيح في الطريق، وطلب منه الإيمان به، وأن يصبح رسوله الى العالم، لذلك أسمى نفسه بولس الرسول.
شريعة يهودية توراتية، لأن السيد المسيح لم ينشىء شريعة مستقلة عن الشريعة اليهودية، لذلك فإن المسيحيين الأوائل اعتمدوا التوراة ككتاب عقيدة وتشريع وتاريخ، وعدّوه العهد القديم، مقابل الإنجيل الذي يمثل العهد الجديد.
أنساق فلسفية يونانية، أغلبها إفلاطونية.
عرفان غنوصي.
مثيولوجيا وثنية رومانية.
ايديولوجيا سلطوية استعمارية أسسها الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول، الذي كان ذو طموحات سياسية إمبراطورية توسعية لاتنتهي، ولم يكن يعنيه الجانب الديني، بقدر ما يحقق له طموحاته.
ويعد تأسيس الديانة المسيحية الجديدة على يد قسطنطين، التأسيس الثالث للمسيحية، بعد التأسيس الأول على يد النبي عيسى المسيح ثم التأسيس الثاني على يد بولس الرسول. وقد فرضت هذه الديانة الجديدة على أوروبا، عصوراً مظلمة قاسية من التخلف والمرض والجوع والاستبداد والحروب والانكسارات، عرفت بــ “العصور الوسطى”، لأنها ديانة تركيبية متحولة وافدة لا تنتمي إلى أوروبا في الجذور الاجتماعية، ولأنها باتت سلطة قمع للعقل والعلم والمعرفة والكلمة وإرادة الإنسان، وأداة سلطوية استكبارية، نجحت في تأسيس امبراطورية استعمارية رومانية مترامية الأطراف، بعد أن استولت على أراضي الشعوب وخيراتها، واستعبدتها، وفرضت عليها المسيحية القسطنطينية. ولذلك؛ لاتوجد ايديدلوجية دينية على مر التاريخ، انتشرت بالسيف والقهر، كما انتشرت المسيحية القسطنطينية، بل أن هذه الايديولوجيا قمعت مسيحيي الشرق الأصلاء، وذبحتهم، ودمّرت كنائسهم، وفرضت عليهم اتّباع المسيحية الأوربية. وبمراجعة سريعة لما فعلته الجيوش المسيحية القسطنطينية الرومانية بمسيحيي مصر وفلسطين والشام؛ يتبين مدى تعارضها البنيوي مع المسيحية الأصيلة ومع تعاليم السيد المسيح.
وما لبثت المسيحية الرومانية المتحولة أن انتشرت في جميع البلدان الأوروبية، ثم سار على نهج قسطنطين جميع أباطرة الغرب من بعده، وباتت المسيحية ديانة أوروبية، ليس في نكهتها العامة، بل حتى في جوهرها؛ فحين اعتنق الملوك والأمراء الأوروبيين الديانة المسيحية البولسية القسطنطينية، فإنهم حوّلوها أيضاً الى ديانة أوروبية داعمة لامبراطورياتهم وملكياتهم وإقطاعياتهم، ومشرعِنة لها دينياً، أي أنهم أخضعوا المسيحية للنظام الإجتماعي السياسي السائد في أوربا؛ إذ لم تؤثر المسيحية الأصلية في واقعهم الروحي والأخلاقي والاجتماعي، بل استحال السيد المسيح نفسه أميراً أو فيلسوفاً إغريقياً ورومانياً وجرمانياً وانجلوسكسونياً في شكله وهيئته التي تصورها التماثيل واللوحات الأوروبية القديمة، والأفلام السينمائية الحديثة، فالمسيح الأوروبي رشيق طويل، أبيض البشرة، أزرق العينين، أشقر الشعر، صغير الفم، إغريقي الأنف، وهي مواصفات لاتنطبق بتاتاُ على سكان فلسطين من الكنعانيين والعبرانيين والسريان وغيرهم.
ثم حمل القساوسة الأوروبيون المستعمرون، ديانتهم هذه، الى أفريقيا والأمريكتين واستراليا وشرق آسيا، برفقة القوات المسلحة الإستعمارية البرتغالية والإسبانية والفرنسية والبريطانية والبلجيكية والأمريكية والهولندية، وحينها لم تقتصر الديانة المسيحية الأوروبية على كونها ديانة أوروبية سلطوية، بل باتت ركيزة أساسية من ركائز الإستعمار الأوروبي للبلدان الأخرى، وكثير منها بلدان إسلامية أو تسكنها كثرة سكانية مسلمة. وكان المستعمرون الأوربيون ينظرون الى هذه الشعوب باعتبارهم كفاراً وعبيداً لهم، بوصفهم شعب الله المختار، كما تؤكد التعاليم التوراتية والتلمودية التي ضمّتها المسيحية القسطنطينية الى لاهوتها السلطوي. وهنا يكمن تحديداً العنصر الاول في الوعي الغربي بالإسلام والمسلمين.
وقد بدأ التمرد الأوروبي على المسيحية القسطنطينية الرومانية يبرز تدريجياً خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، متخذاً أشكالاً فكرية أحياناً وقانونية أخرى وسياسية ثالثة وعلمية رابعة، مناهضةً لسلطة التابوهات اللاهوتية السلطوية، الكنيسية والثيوقراطيات الملكية المتحالفة معها، حتى استحال هذا التمرد صراعاً مستداماً بين سلطتي الكنيسة والحكم المطلق من جهة، والنخب الأوروبية العلمانية المتطلعة الى النهوض والبناء والتغيير من جهة أخرى، حتى أنتج هذا الصراع نهضةً شاملة خلال القرن الثامن عشر، عرفت بعصر التنوير وعصر النهضة الأوربية. وكانت العلمانية (Secularism / Laicite)، هي عنوان هذا العصر، والتي تعني باختصار “الدنيوية” وفصل الشريعة الدينية والمؤسسة الدينية عن الشأن الدنيوي، وخاصة مايرتبط بالدولة والحكم والتشريع، أو بكلمة أدق فصل سلطات الدولة ونظامها السياسي وتشريعاتها عن التشريعات الكنيسية، ومنع الكنيسة من أي تدخل في شؤون الدولة، بما في ذلك الشؤون القانونية والسياسية والافتصادية والعسكرية، واعتبار التشريع وإدارة الدولة وسلطاتها شأناً بشرياً محضاً لاعلاقة للاهوت به.
وقد أدخلت النخب الأوروبية العلمانية على معادلات الصراع هذه؛ عناصر قوة جديدة تتمثل في مخرجات التطور الفكري الميداني التراكمي، وأهمها: العقلانية المنهجية، والتجريبية العلمية، والديمقراطية السياسية والتشريعية، والليبرالية الاجتماعية والاقتصادية. وهي المذاهب التي تحولت الى نظم قائمة، قنّنت كل مجالات الفصل بين الدين والدنيا، وبين الكنيسة والدولة، وكانت بمجموعها أدوات تدمير للتخلف والاستبداد الثيوقراطي، بشقيه المتحالفين: السياسي (الدولة) والديني ( الكنيسة).
وهنا؛ يمكن القول بأن النهضة العلمانية الأوربية، قضت على ثلاثة عشر قرناً من الهيمنة المطلقة للمسيحية الأوروبية القسطنطينية، وأعادت المسيحية الروحية الاجتماعية نسبياً الى جذورها الفلسطينية، كما أعادت أوروبا نسبياً الى جذورها الالحادية العلمانية. وبكلمة أخرى؛ فإن عصر التنوير والنهضة الأوروبية، لم يكن ثورة على دين عيسى الأخلاقي، ولا على الدين بشكل عام، بل على السلطة الثيوقراطية الاستبدادية المتمثلة بسلطة المؤسسة المسيحية الأوروبية القسطنطينية.
إلّا أن المفارقة الكبرى تكمن في احتفاظ العقل الأوروبي العلماني النهضوي بعنصر لاهوت السلطة في نظرته للآخر ولأراضيه ومقداراته، سواء كان مسلماً أو وثنياً، رغم التحول البنبوي في العقل الأوروبي بعد تحوله الى العلمانية، وإسقاط تحالف لاهوت السلطة بين سلطة الكنيسة وسلطة الملك؛ إذ بقيت الحملات العسكرية الأوروبية تصطحب معها ممثلي الكنيسة والإرساليات والمبشرين القساوسة، وتدعمهم بقوة السلاح لفرض المسيحية على الشعوب المحتلة، أو للحصول على الشرعية الدينية في احتلال أراضي الغير ونهب ثروات الشعوب واستعبادها. وكان المحتل الأوروبي يعد العامل الديني هو عامل بقاء مستدام لاحتلاله؛ فإذا اعتنقت الشعوب المحتلة الديانة المسيحية؛ فإن الاوربيون سيضمنون ولاء هذه الشعوب لها، بفعل المشترك الديني، ولأن السيد المسيح هو الذي شرعن لهذا الاحتلال والاستعباد!(4).
2-الخطاب الاستشراقي:
شكّلت الخلفية الاستشراقية الفكرية عنصراً مهماً في تشكيل وعي العقل الغربي بالإسلام والمسلمين. ورغم أن ظاهر الخطاب الاستشراقي ودوافعه، ظل يتمحور حول محاولة فهم الإسلام واتجاهاته الفكرية والمذهبية، وانعكاسات ذلك في حركة الواقع، إلّا أنه كان ولايزال يعطي للدول الغربية والمجتمعات الغربية فهماً شبه دقيق لواقع المسلمين وطرائق تفكيرهم وأساليب اختراقهم والسيطرة عليهم، كما يحدد – بأسلوب مباشر أو غير مباشر – النظم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي ينبغي على البلدان الإسلامية أن تطبقها، أي أن الخطاب الاستشراقي تقدم فهماً لما يحتاجه الغرب في كل مرحلة. وكان ملفتاً أن الخطاب الاستشراقي عمل بكل ثقله بعد العام 1979 على الدخول إلى عمق البنية الإسلامية لفهم ما تستبطنه من تعاليم وأصول تشكّل الدوافع والدعائم لحراك الاستقلال الشامل والصحوة والنهوض، واستشراف مستقبل هذا الحراك واكتشاف احتمالاته، ومحاولة التحكّم ببدائله.
والاستشراق هو خطاب وبنية فكرية، وليس مجرّد أعمال وبحوث وتقارير أكاديمية، وإن كانت هذه الأعمال هي التعبير الخارجي عن ذلك الخطاب؛ إذ يعرفه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد بقوله: ((الاستشراق أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه (إعادة تشكيله)، وامتلاك السيادة عليه. أي إعادة إنتاج الشرق سياسياً، واجتماعياً، وعسكرياً، وعقائدياً وتخيلياً في مرحلة ما بعد النهضة))(5)، ما يعني أن الإستشراق ـــ غالباً ـــ يمثّل سلطة فكرية علوية أو أداة فكرية استعمارية، هدفها السيطرة وإعادة البناء، ولذلك؛ كانت قوى الاستعمار القديم والحديث، ولا سيما فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وراء تشكيل حقل الدراسات الاستشراقية الغربية، كامتداد للوعي الكنيسي بالإسلام والمسلمين.
وتتميز أغلب الدراسات الاستشراقية الأولى بالهجوم المباشر على الإسلام وعقيدته ورموزه من منطلق ديني ينسجم مع قواعد لاهوت السلطة. أما الدراسات التي تلتها، ولا سيما في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين والعقود الأولى من القرن الماضي؛ فكانت تمارس الدور نفسه، ولكن تحت غطاء أكاديمي وعلمي. وهذه الدراسات – بالخصوص – هي التي شكًلت الوعي الغربي بالشرق والإسلام والمسلمين(6). وتذكر بعض الاحصاءات أن الفترة بين عاميْ 1800 – 1950م، أي خلال قرن ونصف القرن، أفرزت (60) ألف كتاب ودراسة في الغرب، عن الشرق، بما فيه المنطقة الإسلامية. وهذا ما يشير بوضوح إلى هيمنة العقل الاستشراقي في الغرب وقوته وسعته، وفي الوقت نفسه، تؤكد أهمية الشرق للغرب كـ«مَعْجَبة»، كما يصطلح عليه الروائي الفرنسي «فلوبير»(7).
وكما هو واضح من النتاجات الحديثة؛ فإن الكاتب الغربي أو المستشرق الجديد، يفكر – عادة – بعقلية استشراقية ذات بنية جاهزة، أسسها المستشرقون السلف الأكثر تأثيراً في خطاب الاستشراق أمثال: الإنجليزي «وليم لين». والفرنسيين «دي ساسي»، و«راينهارت دوزي» و«ارنست رينان» خلال القرن التاسع عشر الميلادي، إضافة إلى مساهمة الروائيين الفرنسيين «فلوبير» و«دو لامارتين»، وكذلك من جاء بعدهم من المستشرقين الإنجليز والفرنسيين والألمان والأمريكيين وغيرهم، والذين شكّلوا بنية خطاب الإستشراق الغربي الحديث، خلال النصف الأول من القرن الماضي، وأبرزهم: «هاملتون جيب»، «لويس ماسينيون»، «فلهاوزن»، «غولد سهير» و«دنكن مكدونالد»، و«مرجليوث». كما كان لجهود بعض السياسيين الغربيين كـ«بنيامين دزرائيلي» و«كرومر» و«جيمس بلفور» و«لورانس» أثر بارز في هذا المجال.
وفي النتيجة؛ فإن الخطاب الاستشراقي ساهم مساهمة أساسية في تشكيل الوعي الغربي الثابت بالشرق وبالإسلام، وقلّما تمكّن كاتب غربي معاصر من الإفلات منه؛ لأنه يمثّل جزءاً من وعي الذات الغربية، رغم أن بعضهم يدّعي منهجاً جديداً في الدراسات الإنسانية ينسجم مع الفكر الليبرالي الحديث، في مقابل الفكر الأصولي الغربي الحديث، إلا أن الدراسات الأكاديمية الاستشراقية غالباً ما تكون أصولية، أي إنها تعيد إنتاج البنى والأفكار نفسها، وفقاً لمتغيرات وأحداث المرحلة الجديدة(8).
3- النزعة الاستكبارية الاستعمارية:
بدأت النزعة الاستكبارية الأوروبية الحديثة بالظهور خلال القرن الخامس عشر الميلادي، بالتزامن مع الحملات الاستكشافية العسكرية لقارتي أمريكا (قبل أن يتسميا بهذا الاسم) وأفريقيا والبلدان الإسلامية وشرق آسيا، وهي نزعة قديمة، تمثل امتداداً للنزعة الرومانية والاغريقية، وخاصة النزعة الاستكبارية المشرعنة بلاهوت السلطة المسيحية.
وكما ذكرنا؛ فإن دول أوروبا العلمانية الديمقراطية الليبرالية الناهضة، التي أسقطت تحالف لاهوت السلطة؛ لم تتخل عن النزعة الاستكبارية القسطنطينية اللاهوتية، التي تتضمن استخدام الديانة المسيحية كداعم استعماري، بل احتفظت بهما معاً، واكتفت بالفصل بينهما فقط؛ إذ سلبت من الكنيسة حق تدخلها بشؤون الدولة، وصادرت سلطتها التشريعية والسياسية، لکنها احتفظت لنفسها بمنافع المسيحية والتبشير المسيحي كسلطة روحية، لتستمر في استخدامها كركيزة استعمارية ضد الشعوب التي تحتلها، وهي مفارقة أوروبية أخرى؛ إذ لم يرض الأوروبيون العلمانيون التنويريون لأنفسهم أن تكون الديانة المسيحية سلطة معرفية وسياسية عليهم، لكنهم فرضوها بالقوة على الشعوب المحتلة، كجزء من سلطة المستعمر.
لذلك؛ كانت الدولة الفرنسية التي تأسست بعد الثورة الفرنسية وأسست للنظام الديمقراطي الغربي ولمنظومة الحقوق والحريات الليبرالية، كانت الى جانب الدولة الليبرالية الديمقراطية البريطانية؛ أكثر الدول توسعاً استعمارياً، واحتلالاً لأراضي الغير، واستعباداً للشعوب، ونهباً لثرواتها. وكانت الإمبراطوريتان العلمانيتان الفرنسية والبريطانية تصطحبان المبشرين المسيحيين في كل حملاتهما الاستعمارية، وتدعمان تأسيس الإرساليات التبشيرية، وتؤسسان الكنائس والمؤسسات الكهنوتية في البلدان المحتلة، لأنهما كانتا مقتنعتين بأن اخضاع الشعوب المحتلة المستعبدة لسلطاتهما، لايستتب إلّا باتباع هذه الشعوب لدين المحتل وايديولوجيته(9).
4- فكر النهضة الاوروبية:
لم تكتف جيوش الاحتلال العلماني الأوروبي، وخاصة البريطاني والفرنسي، ثم الأمريكي، بفرض دينها المسيحي على الشعوب المحتلة، كما مر، بل أرغمتها أيضاً على اعتناق العقيدة العلمانية الغربية بجذورها الوثنية الأوربية؛ فكانت المسيحية الأوروبية، بنسختها الروحية الجديدة، والعلمانية الأوروبية بثوبها الليبرالي الديمقراطي، هما القاعدتان الايديولوجيتان اللتان تمكّن الاستعمار الغربي من خلالهما فرض وجوده ومصالحه على الشعوب الأخرى، حتى بعد خروج جيوشه وسلطاته المباشرة من البلدان المحتلة، ومنحه استقلالها الشكلي، أي أن العلمانية كانت ولاتزال أهم قاعدة للاحتلال الفكري والسياسي والاقتصادي الغربي المستدام لبلاد المسلمين.
وكانت نتيجة هذا المنهج الاستعماري، القوي في بنائه؛ ظهور نخب سياسية وثقافية عميلة فكرياً، ومشبعة بأدبيات المحتل ومفاهيمه ومصطلحاته ولغته، لكنه تشبعٌ قشري سطحي، لا يرقى الى فكر الاستقلال السياسي والاقتصادي الغربي، ولا الى النهضة العلمية والتكنولوجية الغربية، لأن الغرب فرض أدبياته ومفاهيمه الفكرية والسياسية على هذه النخب، وسلبها إرادة الاستقلال والنمو والتطوير الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي. وهكذا ظل بناء السلطة، والتمسك بها، هو الهمّ الأساس للنخب العلمانية المحلية في البلدان العربية والمسلمة، سواء كانت في السلطة أو في المعارضة، العسكرية منها والمدنية، وليس همها بناء الدولة ونظامها السياسي وسلطاتها، واقتصادها وتعليمها ووسائل استثمار ثرواتها. كما قامت سياسات هذه النخب في بناء السلطة، على محاربة الإسلام وشريعته، وليس على ما يفرزه الواقع الاجتماعي للشعب وقاعدته الدينية، لأن الاستعمار الغربي زرع في عقول هذه النخب بأن مشكلة بناء الدولة والتطور الاجتماعي والاقتصادي والعلمي هو الدين وتشريعاته، ويجب التخلص من هذه التشريعات المتخلفة الرجعية التي تعيق كل أنواع التطور والتقدم، أسوة بما فعلته النخب الغربية حين تخلصت من هيمنة الدين خلال عصر النهضة والتنوير.
ولعل من أهم أسباب نفوذ العلمانية والليبرالية الى مجتمعات المسلمين: احتكاك النخب المحلية بالغرب والانبهار بانجازاته المادية، واليأس من الحلول المحلية للاستبداد السياسي، والتخلف بكل تمظهراته العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية. هذه الأسباب دفعت بعض المثقفين والسياسين العرب والمسلمين الى البحث عن علاجات وأفكار نقدية للواقع، فوجد قسم منهم في الماركسية أو القومية العنصرية أو العلمانية والليبرالية، دواءً لأمراض المجتمعات العربية والمسلمة، هذا فيما لو أحسنا الظن بهذه النخب، وأنهم لم يكونوا عملاء فكريين وسياسيين للغرب والشرق. بيد أن هذه المستحضرات الدوائية الفكرية الاجتماعية، لم تكن لتصلح لكل بيئة، بل ثبت أن استخدامها خارج بيئتها الغربية، وخاصة بهدف مواجهة الإسلام وشريعته، تؤدي الى مضاعفات خطيرة، لأنها مادة فكرية وايديولوجية اجتماعية، وليس كأدوية الطب وعلوم الهندسة والزراعة والصناعة، والتي يمكن استخدامها في كل مكان وعلى كل البشر، بصرف النظر عن نوعية الدين والعرف، وهو ما لا يمكن تعيمه على الأفكار والمذاهب الاجتماعية والسياسية والنظم القانونية، لأن هذه الفلسفات والأفكار تتعرض تعارضاً عميقاً مع الإسلام وشريعته، ومع الأعراف والبنى الاجتماعية للمسلمين.
هذا فضلاً عن أن العلمانية والرأسمالية والليبرالية هي القواعد التي قام عليها الإستعمار بكل ألوانه، فالعلمانية بعد أن طردت الدين من الحياة والدولة والقانون، فإنها توجهت لاحتلال أراضي الغير واستعباد الشعوب، بحثاً عن الموارد الخام والمواد الطبيعية وأسواق جديدة. أما الليبرالية فهي الايديولوجيا الاجتماعية التي بررت للغرب المستعمر الغازي كل أنواع الغزو الثقافي والفكري للمجتمعات الغربية والمسلمة، وفرض الحكام العملاء والدعاية للمثقفين التغريبيين.
وربما كان من حسن حظ الاستعمار الغربي وسوء حظ الشعوب المسلمة؛ إن عطش النخب العلمانية المحلية الى السلطة وصراعاتها عليها، واندفاعها للتعبير عن عمالتها السياسية للغرب، وكذا اندفاع النخب الثقافية باتجاه التعبير عن عمالتها الفكرية للغرب، وانبهارها بتطوره العسكري والعلمي والتكنولوجي؛ قد راكم من أميّتها الفكرية، بحيث لم تلتفت الى الفرق الهائل بين الدين الإسلامي وبين الدين المسيحي، بنسختيه الروحية والسلطوية، بل وعدم الالتفات الى خديعة التعميم العلماني الغربي لمفهوم الدين. وفي المقابل؛ لعب التفوق الغربي في جانب المكر والخديعة، وفي الجانب العسكري والاستخباري؛ دوراً أساساً في تمرير هذا الفهم الغربي للدين.
أما “العلمانية المستوطنة”(10)؛ فنقصد بها العقيدة العلمانية المترجمة أو الممنتجة في البلدان الأخرى غير الغربية، أي أنها العلمانية الأوروبية نفسها، ولكنها الصيغة التي استخدمها الأوروبيون كجزء من عناصر الاستعمار القديم والحديث، لترافق جيوش الاحتلال الأوروبي العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي، في حملاتها وغزواتها، ويتم توطينها في البيئات المحتلة الجديدة، وخاصة البيئات المستعمَرة العربية والمسلمة، وفرضها أمراً واقعاً فكرياً وقانونياً واجتماعياُ وسياسياً واقتصادياً، بمساعدة عملاء المحتل المخابراتيين والسياسيين والثقافيين، وكذا النخب الثقافية المنبهرة بالتطور العلمي والاقتصادي والسياسي الغربي، وأغلبهم ممن سافر الى أوروبا أو درس فيها، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين. أي إن العلمانية المستوطنة هي علمانية غير موضوعية وغير واقعية، لأنها سلعة مصدرة قسراً من أوروبا، ومفروضة بالقوة على البلدان العربية والإسلامية، بصورة مونتاج معرفي، أو نتاج مترجم أو معرّب.
وقد ساهمت أنظمة الاستبداد والتخلف والفساد في البلدان العربية والمسلمة، ولا سيما في الدولتين المستقلتين الأكبر حينها، العثمانية والقاجارية، في خلق الذرائع والمسوغات لعلمانيي البيئة العربية والإسلامية، لطرح العقيدة العلمانية كدين جديد منقذ من كل أنواع الاستبداد السياسي والديني، والتخلف العلمي والمعرفي والاجتماعي، والجوع والفقر والفساد الاقتصادي. وبالتالي؛ تعاضدت أضلاع مثلث: الإستعمار، والنخب العلمانية المحلية، وأنظمة الحكم المحلية، على توطين العلمانية الأوروبية في البلدان العربية والمسلمة، ومحاولة إعادة انتاجها بصيغ هجينة، لتتلاءم مع البيئات المحلية.
وللعلمانية الأوروبية تجليات متعارضة أحياناً، فهناك العلمانية المقترنة بفلسفة الإلحاد، كالوجودية، والعلمانية المقترنة بالإلحاد والمتعارضة مع الليبرالية، كالماركسية (الشيوعية) والاشتراكية، والعلمانية المقترنة بالليبرالية وأصالة الفرد، وهي العلمانية الغربية القائمة حالياً، والعلمانية بثوبها القومي الشوفيني، وهي ايديولوجيا تقوم على التمييز العرقي. ولا يعنينا هنا القواعد التفصيلية لهذه المذاهب الفكرية، بل ما يجمعها من قاسم مشترك، يتلخص في رفض أية علاقة للدين ومؤسسته بالدولة وسلطاتها وتشريعاتها. كما لا تعنينا المناخات الأوربية التي انتجت العقيدة العلمانية، بل محور بحثنا يدور حول موضوع العلمانية في البلدان العربية والإسلامية، والتي أسميناها “العلمانية المستوطنة”(11).
معايير وعي الغرب بالإسلام
يمكن القول إن الخلل الجوهري في فكر الغرب وثقافته، يكمن في التباين والتناقض بين معاييره النقدية التقويمية في وعي ذاته، ومعاييره المتعصبة الأصولية في وعي الآخر، أي أن الغرب لا يريد أن يفهم الإسلام كما هو، بل كما يريد أن يكون المسلمون عليه. وربما هناك عدد قليل جداً من الدراسات الغربية(12) احتوت على فهم قريب من الواقع للإسلام كنظام شامل للحياة، حيث مكّنها ذلك من وعي دوافع تيّارات الصحوة والنهوض وأسسها الفكرية، وذلك من خلال منهج آخر، انتقدت فيه المنهج الغربي السائد في الدراسات السسيولوجية للظواهر الاجتماعية، ومنها ظواهر النهوض الإسلامي. ورغم ذلك؛ فإن هذه الدراسات المستقلة في دوافعها، سارت بالاتجاه نفسه، لأنها اضطرت لاستخدام المعادلات والمصطلحات ذاتها في التحليل والاستنتاج.
وبشكل عام؛ يمكن استخلاص أهم خصائص ومعايير الوعي الغربي بالإسلام، كما يلي:
إنها تحاول فهم الإسلام من خلال المسلمين، أو من خلال الظواهر الخارجية للمجتمع وليس العكس.
تقويم حراك النهوض الإسلامي من خلال الرؤية الغربية نفسها، وليس من وجهة النظر الإسلامية، أو من وجهة نظر تيّارات النهضة.
إن وعي الغرب بحراك النهوض الإسلامي ليس وعياً مستقّلاً بوجود مستقل، بل هو جزء من وعي الغرب بذاته، لأن الشرق، وخاصة المسلمين، يمثّل «الآخر» بالنسبة لـ«الذات»، أي الغرب، و«التمثيل» بالنسبة «للحقيقة»، و«الأطراف» لـ«المركز»، وإن هذا «الآخر» الخارجي هو امتداد لعناصر الخارج في نظام «ميشيل فوكو»، وهي: الانحراف والشذوذ والجنون(13).
إن الشرق (الناقص الضعيف!) لا يمكنه وعي ذاته وعياً حقيقياً إلا من خلال وعي الغرب لها.
الرؤية الغربية تقتطع حراك النهضة الإسلامية الحديثة من سياقها التاريخي، وتدرسها كظاهرة ضمن مرحلتها الزمنية فقط، أما الخلفيات والأبعاد التاريخية والعقائدية؛ فإنها تستعيرها جاهزة من لاهوت السلطة والخطاب الاستشراقي.
أنها تعتمد النظريات الغربية الجاهزة في علم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي، كنظرية «أريكسون» في الشخصية والقيادة الدينية، أو نظرية «ماكس فيبر» في قدرة القيادة الكاريزمية (الملهمة)، فضلاً عن آراء فلاسفة اجتماعيين آخرين أمثال «ماركس» و«دوركهيم» و«برغر»، الذين يؤكدون على أن منطلق الالتزام الديني وزيادته، هو الحرمان الاجتماعي والاقتصادي. ثم تُخضع الحراكات الإسلامية للتقنيات المنهجية لهذه النظريات (حسابات وإحصاءات ورسوم بيانية).
هذه الخصائص والمعايير تجعل العقل الغربي متخبّطاً في معلوماته وتحليلاته ونتائجه، بالنظر لوعيه الذاتي بالإسلام ومرتكزات النهضة فيه، وبدوافع تيارات النهوض الإسلامي الجديد وأسسها العقدية والفكرية، وعلى حد تعبير أحد الكتّاب الغربيين: إن ما نعرفه عن هذه الجماعات أقل مما لا نعرفه، والذي نعرفه وصلنا مشوّهاً ومرتبكاً(14)، هذا إضافة إلى المنهج المنحاز في التفكير، وعدم الموضوعية في استنباط النتائج. ويطلق «روجيه غارودي» على هذا الوعي أو الرؤية تسمية «الأصولية الغربية اللاواعية والمميتة»، التي تُستخدم كمسوّغ ايديولوجي لكل تجاوزات الاستعمار(15). في حين يصف باحث آخر العقل الغربي الاستشراقي، بأنه العقل الذي يعتبر الغرب الحقيقة والمركز والقوة، ويصور الشرق تصوراً استعمارياً عرقياً وفوقياً(16).
وبالتالي؛ فالوعي الغربي بالاسلام والمسلمين والحركات الإسلامية هو وعي استعماري سلبي مرعب، شكله القساوسة والمستشرقون، ويغذّيه الباحثون الأكاديميون، وتنشره وسائل الإعلام ضمن إيحاءات نفسية سلبية، وتستثمره السلطات العسكرية والسياسية والاقتصادية. أي أن مظاهر الوعي الغربي هذا تمثّل الإفرازات الخارجية لوعي الغرب الايديولوجي بذاته وبالآخر ، وطبيعة تعامله السلطوي مع مفرداته، وفي مقدمتها الإنسان المسلم ونهوضه الجديد. وفضلاً عن الأهداف الستراتيجية والتاريخية للغرب، والتي تمثل إرادة عقله ووعيه بإزالة أي عنصر للنهوض الإسلامي، وتدمير أي مستقبل مستقل ونام وناهض للمسلمين؛ فإن أهم الأهداف المرحلية لهذه الإرادة، والتي تنفذها الأنظمة الغربية عبر حملات الغزو الإعلامي والثقافي والتآمر السياسي والمخابراتي والحصار الاقتصادي والتهديدات العسكرية:
المحافظة على صورة مشوّهة عن الإسلام في العقل الغربي الشعبي، والحيلولة دون تأثّر سكان الغرب بالمد الإسلامي أو التدين (الأصولي) كما يسميه الخطاب الغربي.
تحميل الإسلام وزر ممارسات المسلمين وتخلفهم، بما في ذلك الممارسات الإرهابية لبعض التيارات المحسوبة على الإسلام، والتي ساهم الغرب نفسه في صناعتها، بهدف اتهام الإسلام بأنه يحمل في ذاته مكامن العنف والإرهاب، وأن الحركات الإسلامية المقاومة والنهضوية هي الوجه الآخر للجماعات الإرهابية تلك.
ملء ما يسمّى بمناطق الفراغ الفكري في المجتمعات الإسلامية، من خلال الترويج لمبادئ العلمانية والليبرالية والعقلانية بشكلها ومضمونها التقليديين في الغرب، كبديل فكري ومنهجي وتنظيمي للمسلمين.
دفع أنظمة البلدان الإسلامية، لتطبيق العلمانية الليبرالية وإلزاماتها الحقوقية والثقافية، مع إعطاء بعض الحريات وتجنب مظاهر القمع الاجتماعي، ورفع شعارات إسلامية (معتدلة)، كمحاولة لتقويض ما يسمونه بالنزوع الشعبي نحو الحركات الإسلامية كخيار سياسي وفكري.
إظهار (فشل) النماذج الإسلامية المعاصرة، كالجمهورية الإسلامية الإيرانية، والحركة الإسلامية العراقية، والمقاومة الإسلامية اللبنانية، والمقاومة الإسلامية الفلسطينية، وعدم صلاحيتها سياسياً وثقافياً واجتماعياً لحل مشكلات الإنسان المعاصر، بوصفها تمثل «الإسلام الأصولي»، وتقديم ما يسمى بــ «الإسلام المعتدل»، والذي عُرف بـ «الإسلام الامريكي»(17)، كبديل عنها.
المصطلح: أحد مظاهر وعي الغرب بالإسلام
من أهم مظاهر الوعي الغربي وإفرازاته، التسميات والمصطلحات التي يعرّف بها الواقع الإسلامي والحركات الإسلامية وتيارات النهوض، وهي مفاهيم تحمل فهماً مسبقاً وأحكاماً جاهزة لا تمت إلى الموضوعية والبحث العلمي بصلة، ويراد بها التعتيم على حقيقة الواقع الإسلامي وتشويهه. ووفق هذه القاعدة؛ فإن الدراسات الغربية تقسم المسلمين إلى ثنائيات متعارضة، تنسجم مع وعي الغرب بالظواهر والأحداث التي تمثل الآخر المختلف، وليس لهذه الثنائيات وجود عقدي إسلامي؛ فمثلاً تضع مصطلح «المسلم» في مقابل «الأصولي»، و«المتديّن» مقابل «المتعصّب» أو «المتطرّف»، و«الإسلام المعتدل» مقابل «الإسلام المتشدد».
كما تضع لكل مفردة أو مصطلح تعريفاً خاصاً، فالإسلام السياسي (political Islamic) هو الإسلام الذي لا يؤمن بالفصل بين العقيدة والسياسة، ويقف في صف المعارضة لاستلام السلطة. أما الإسلام الثوري (Revolutionary Islam) أو الراديكالي (Radical Islam) فهو الإسلام الذي يهيئ المجتمع لصنع ثورة في داخله تطيح بالبنى الوضعية التي يقف عليها، والإسلام الرسمي (Official Islam) هو الذي تتبناه الحكومات المحافظة أو العلمانية، ويرادف – غالباً – الإسلام التقليدي (Traditional Islam)، ويقابل الإسلام الشعبي (Popular Islam) الذي يتبناه الجمهور المؤمن بحركة النهوض الإسلامي.
وهناك مصطلحات أطلقت لتوصيف النهضة الإسلامية، كالغضب المقدس، الهياج الإسلامي، تيّار التشدد، ولكن مصطلح «الأصولية الإسلامية» (Islamic Fundamentalism) يبقى هو الأبرز على الإطلاق؛ إذ يؤكد الغربيون على أنه التعبير الأفضل، والأكثر انطباقاً على (الظاهرة!). ينسب هذا المصطلح إلى المفكر المسيحي الماركسي المصري أنور عبد الملك(18)، كان قد وضعه بالانجليزية كمرادف لمصطلح «السلفية»، ثم تبنّاه الغربيون فيما بعد. والملفت أن بعض الكتّاب والمثقّفين المسلمين، قد استعمل ذات المصطلحات التحريفية التي يصوغها الغرب، وتبنّاها كمسلمّات، ولعلّ أحد أسباب ذلك هو ضعف أدبيات الصحوة، فروجيه غارودي المسلم – كنموذج – يقول: «إن الأصوليات، كل الأصوليات، سواء أكانت تكنوقراطية، أم ستالينية، أم مسيحية، أم يهودية، أم إسلامية، تشكل اليوم الخطر الأكبر على المستقبل»(19) أي أنه يصنف الصحوة الإسلامية كأصولية، بل ويقرنها بالأصوليات الأخرى!
وبمراجعة سريعة لجذور المصطلح – بغض النظر عن مصاديقه – نجد أنه ينطوي على انحراف كبير في الفهم والتشخيص. فمعجم لاروس (الفرنسي) الصادر عام 1984 يعرّف الأصولية بأنها «موقف جمود وتصلّب». في حين تحدد الطبعة الصادرة عام 1979 الأصولية بـ«الأصولية الكاثوليكية» فقط. ومن هنا فالأصولية تعني لدى الغرب: الجمود، العودة إلى التراث والماضي، الانغلاق التحجر المذهبي، التعصّب، وكل ما هو مضاد للحداثة والمعاصرة والعلمية والانفتاح والاعتدال والتسامح والتطور والانماء والعقلانية.
والمدلول الآخر للأصولية هو الأقلية المنعزلة في المجتمع. يذكر أن المصطلح أطلق – بادئ الأمر – على حركة مسيحية بروتستانتية متعصبة ظهرت في أمريكا في بدايات القرن الماضي ويتميز أعضاء هذه الحركة – كما تشير قواميس اللغة والمعاجم الغربية – بالتعصب إلى حد الجهل، والتمسك الحرفي بالكتاب المقدّس، وأنهم أقلية منعزلة عن المجتمع. كما وضعت كلمة الكنيسة الأصولية في مقابل الكنيسة المعتدلة المتأثرة بالتجديد والعصرنة.
ويفهم من ذلك أن خلفية إطلاق الغرب مصطلح الأصولية على الصحوة الإسلامية تتمثّل في محاولة تقريب الصورة إلى ذهن المواطن الغربي، الذي يدرك جيداً ما تعنيه الأصولية المسيحية أولاً، وثانياً الإيحاء للذهنية الغربية التي تكره الأصولية المسيحية – غالباً – بخطورة الصحوة الإسلامية؛ لأنها وجه آخر للأصولية الكاثوليكية في أوروبا والأصولية البروتستانتية في أمريكا.
وفي الوقت نفسه، انتقد بعض الباحثين الغربيين – أمثال «لورانس بروك» – استعمال تعبير الأصولية، لعدم وجود دلالة لها في الفكر العربي. في حين فنّد معظم الباحثين والمستشرقين هذا الانتقاد؛ لأن التعبير – حسب ادعائهم – يكفيه أن له دلالة في العقل الغربي، الذي يفهم أن هذه (الظاهرة) هي أصولية وحسب، وذلك انطلاقاً من كون الحقيقة المطلقة لجميع الظواهر الاجتماعية والكونية، هي وعي العقل الغربي بالظاهرة، بل لدلالاتها التاريخية والفكرية، وتأكيدها البعد السياسي للإسلام أكثر من بعده الديني(20). وهذا الفهم – هو الآخر – فهم ناقص ومشوّه؛ لأن الأصولية، حسب المداليل السلبية الغربية الاصطلاحية، ليس لها ارتباط من قريب أو بعيد بالأصولية في مدلولها الإسلامي، فالأصوليون – حسب المدلول الاصطلاحي الإسلامي – هم المتخصصون بعلم أصول الفقه، أو أصحاب النزعة لاستخدام أصول الفقه في عملية الاستنباط الفقهي، في مقابل النزعة الإخبارية.
وفي السنوات الأخيرة بدأت الدراسات الغربية تعي ظواهر أخرى في مجتمعات المسلمين، غير ما تصطلح عليه بالأصولية الإسلامية والإسلام المحافظ، وأبرزها ظاهرة «إسلام النخبة»(21) أو «اليسار الإسلامي»(22)، أو «الإسلاميون الحداثّيون» (Islamic Modernists)، كتيّار وسط بين المتطرفين (Extremists) والتقليديين، وهؤلاء يتميزون بكونهم نخباً وجماعات تتصدى لقيادة المجتمع ثقافياً وفكرياً وليس سياسياً.
ويرجع بعض الكتّاب المسلمين – ربما عن حسن نيّة – سبب ظهور الأصولية في العالم الثالث إلى الأصولية الغربية، التي يعتبرونها العلة الأولى المتسببة في ولادة كل الأصوليات الأخرى، كردّ على أصولية الغرب، إذ إن «الأصولية في العالم الثالث ولدت جراء زعم الغرب، منذ النهضة فرض نموذجه الإنمائي والثقافي»(23). ومعنى ذلك أن الصحوة الإسلامية هي مجرد ردّ فعل ضد الأصولية الغربية. وهذا الزعم خاطئ هو الآخر، رغم محاولته تعرية ادّعاءات الغرب، وردّ تهمه إليه، لأنه يؤكد – في جانب منه – كون الغرب هو «المركز»، وهو مصدر التأثيرات، وما عداه «أطراف» ومتأثرون ليس إلاّ! فضلاً عن أنه ينفي الأصالة والعمق التاريخي والفكري والاجتماعي عن الصحوة.
وعي الغرب بالنهوض الإسلامي الجديد
ظل الحديث في الأوساط الفكرية والسياسية والاجتماعية، الغربية والإسلامية، عن مستقبل النهوض الإسلامي الجديد، وما سيؤول إليه وضع التيارات الإسلامية في المرحلة القادمة، يتزايد باطراد بمرور الزمن، منذ تحقيق انجازاته الأُولى خلال العام 1979. وتختلف نتائج المقاربات في هذا المجال، وفق المقدمات والأسس والمناهج الاستشرافية التي يستخدمها كل اتجاه في تحليله ومعالجته لهذه الموضوعة. وهناك ثلاث رؤى أساسية في هذا المجال، تمثل نتاج جهود بحثية واسعة، هي: الرؤية الغربية، رؤية العلمانيين في المنطقة الإسلامية والرؤية الإسلامية الذاتية. ولا شك أن كلاً من هذه الرؤى تشتمل على عدة رؤى فرعية، تختلف فيما بينها في كثير من التفاصيل، بل وفي الأسس والمناهج أحياناً، ولكن يبقى أن هناك قاسماً مشتركاً بين اتجاهات كل رؤية، يمكن أن نعتبره الإطار الفكري العام للرؤية:
1 – الرؤية الغربية:
تستند الرؤية الغربية – غالباً – في معالجتها وتحليلها لموضوع النهوض الإسلامي الجديد إلى نظريات علماء الاجتماع الغربيين، وخاصة الاثنولوجيا والانثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع الديني، وهي نظريات جاهزة ومفصّلة على مقام النظام الغربي ومناهج تفكيره، وهي نتاج وعي العقل الغربي بالإسلام والمسلمين وفق العناصر الأربعة التي تشكله.
والنتائج الأولية التي تقدمها هذه الرؤية تؤكد أن ظواهر النهوض الإسلامي الجديد بعد العام 1979 هي ظواهر طارئة وليست أصيلة أو متجذرة؛ إذ نشأت ردّ فعل على مجموعة من الأزمات الاجتماعية في بلاد المسلمين، أبرزها: أزمة الهوية الاجتماعية الدينية السياسية، أزمة شرعية الأنظمة الحاكمة، أزمة الثقافة والسلوك المجتمعي، الصراع الطبقي، الفقر، التخلف، الشعور بالتبعية للغرب، الأزمة النفسية، ضعف قيادة النخب الحاكمة المتغربة وسوء إدارتها. وبتعبير آخر، فإن الصحوة الإسلامية، على وفق ذلك، ليست ظاهرة حقيقية، وإنما تمثّل، وبرزت نتيجة لضغوط الغرب وهيمنته، وممارسات الأنظمة الحاكمة وتبعيتها وأساليب حكمها وممارساتها القمعية، وما نشأ جراء ذلك من أزمات اجتماعية، كما أن الظواهر النهضوية الإسلامية اللاحقة لقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إنما هي محاولة للتشبّه بالنموذج الإيراني.
وبهذا التوصيف؛ بات بإمكان الرؤية الغربية أن تحدد مستقبل النهوض الإسلامي الجديد، وكأنه حتمية تاريخية؛ فهي حين تعتبر هذا النهوض مجرد ظاهرة اجتماعية محدودة ومنعزلة وغير أصيلة؛ فإنها ترفض أن يكون لهذه الظاهرة بنى حضارية وفكرية وسياسية واقتصادية حقيقية، تحقق لها الاستمرار والنمو والتمدد وتمثيل الشعب والإمساك بقرار الدولة، وبالتالي؛ فهي ظواهر ليس لها أي مستقبل، وزائلة بزوال أسبابها وعوامل ظهورها، وبانهيار نماذجها الناجحة الصاعدة.
ووفقاً لمناهج الدراسات المستقبلية؛ فإن البديل الذي تطرحه الرؤية الغربية، هو بديلها الذي تريده وتخطط له، وقد اختارته من بين مجموعة الاحتمالات، بهدف التحكّم به وبناء مقوماته المستقبلية، وهو الاسلام العلماني الليبرالي المدجن، أو مايسميه الغرب الإسلام المعتدل كما أشرنا. ويهدف الغرب من وراء إعلاناته المتكررة المركّزة عن رؤيته لمستقبل النهوض الإسلامي الجديد، ووصفها بالرؤية العلمية المتجردة، ومحاولة زرعها في عقول المسلمين ووعيهم، من خلال مختلف الأساليب والوسائل؛ يهدف إلى أن يفرض على المسلمين وعيه بذاتهم وجودهم ومستقبلهم، في محاولة قسرية لإعادة إنتاجهم واستحضارهم وتحديد مستقبلهم، على المستويين النظري والعملي. وجزء من هذا الوعي أن يشعر المسلم – دائماً – بالدونية والضعف، وعدم الثقة بالنفس والمستقبل، والهزيمة المستدامة تجاه الغرب وقيَمه ومعاييره وتفوقه الشامل. أي أن الغرب حين يضع المسلمين أمام الحتميات والخيارات والبدائل التي يفرضها؛ فإنه يقدر أن كثيراً من المسلمين سيتبنون خيارات الغرب، بوعي أو بدونه.
2 – رؤية العلمانيين في البلدان الإسلامية:
من نقطة الخيارات الغربية، ينطلق العلمانيّون في المنطقة الإسلامية، في تحديد رؤيتهم لمستقبل النهوض الإسلامي الجديد، لأنهم يعتمدون بدائل الغرب ومحدداته، ويستعيرون مناهجه في التفكير والتحليل والاستنتاج. ورغم أن هؤلاء يستندون في تكوين رؤيتهم إلى مقدمات أقرب للواقع من مقدمات الرؤية الغربية، إلا أنهم يخرجون بنتائج أكثر تطرفاً في عدم موضوعيتها، وأكثر بعداً عن الواقع من الرؤية الغربية. والسبب في ذلك يعود إلى أن علماني البلدان الإسلامية يعيشون الواقع الإسلامي من جهة، وأن مظاهر النهوض الإسلامي الجديد ومستقبلها يعنيهم بشكل مباشر من جهة أخرى، ولذلك؛ فإنهم يسقطون أمانيهم وطموحاتهم وأهدافهم على رؤيتهم؛ فتكون النتائج غير موضوعية إلزاماً وبعيدة عن الواقع.
وهذا النمط من العلمانيين هم أدوات الغرب في محاولة إعادة إنتاج الواقع الإسلامي، من خلال مشاريعهم الهادفة لعلمنة المجتمع، وفرض الأنماط الاجتماعية الغربية عليه. ويلاحظ أن بينهم من يحشر نفسه في زاوية دفع التهم التي يكيلها الغرب للمسلمين، لكنه يمارس عملية الدفاع بأساليب سلبية، وبثقافة وسلوك متغربين، وبما ينسجم مع خيارات الغرب وأطروحاته، وذلك نتيجة لحساسية العلماني المفرطة تجاه الاتهامات الغربية. وربما يرفض بعض العلمانيين الغرب السياسي أو الغرب المحتل والمستعمر، لكنه يندفع وراء التبلس بثقافة الغرب وسلوكه، لينتج ما يسمونه العلمانية الشرقية أو الليبرالية الشرقية بالعقلانية الشرقية أو المسلمة، لردّ تهمة لا عقلانية الشرق. أو تفصيل مفاهيم الحداثة والمعاصرة بلباس (مسلم)، لردّ تهمة التحجر والجمود وعدم التكيّف مع النمو والتطور، ويرفع لافتة «العلمانية» بقوة، ليقول بأن الغرب مخطئ حين يتهمنا بالتخلف الفكري، والفهم الطولي للواقع، والإيمان السطحي.
ويشترك الخطاب العلماني المحلي في البلاد الإسلامية مع الخطاب الغربي في ضرورة التخلص من التيارات الإسلامة وحراكاتها النهضوية، وتحذير الشعوب المسلمة منها، وأنها ظاهرة طارئة غير أصيلة، وأنها ستنتهي بنهاية العوامل التي أدت الى ظهورها، ويجد علمانيو المنطقة الإسلامية، بمن فيهم الأنظمة العلمانية الحاكمة، أن من واجبهم مواجهة مفردات النهوض الإسلامي بكل الوسائل، من خلال عزل التيارات الإسلامية عن الشعوب، تمهيداً للقضاء عليها. ويتمثل جزء من هذه المواجهة في ملء ما يسمونه بالفراغ الفكري والاجتماعي الناشئ عن فشل الأطروحات العلمانية المستوردة، بأطروحات أكثر بريقاً وواقعية، تقترب من بعض مظاهر الإسلام، بما يشبه « الإسلام المعلمن » أو «العلمانية المؤسلمة»(24)، وهي توليفة أكثر خطورة في المواجهة من العلمانية الأصلية، لأنها تقرأ الإسلام بغير أدواته، وتحاول توظيفه للأهداف العلمانية الأساسية نفسها.
3 – رؤية النهضة الإسلامية لنفسها:
تستند رؤية تيارات النهوض الإسلامي الجديد لنفسها إلى معطيات وحقائق التكليف وسنن الله في الخلق، لقراءة معالم مستقبلها. ورغم أن هذه الرؤية تتفرع إلى عدة رؤى ثانوية – كما مرّ – تبعاً لتعدد الاتجاهات الإسلامية، واختلافها في أساليب التحرك، والأسس الفكرية التفصيلية لكل منها؛ إلّا أن هناك قاسماً مشتركاً بين رؤى هذه الاتجاهات، يتمثّل في حقيقة أن التكامل البشرية يكمن في الإسلام، وأنه شريعة وعبادة ومعاملات ودولة ونظام سياسي وإقتصادي وقانوني، وهو دين المستقبل كما هو دين الماضي والحاضر، وأنه الحبل الذي يربط دنيا المسلم بآخرته.
ومن أبرز المعطيات والحقائق التي تستند إليها هذه الرؤية:
الفراغ الفكري والروحي العالمي، الذي حدث في أعقاب انهيار أو تصدّع كثير من الأفكار والمدارس الوضعية الغربية والشرقية، وبروز مؤشرات التصدّع في المجتمعات والنظم الغربية، وهو ما يؤكده المفكرون الغربيون أنفسهم، ولا سيما في نظام الولايات المتحدة الأميركية واجتماعه واقتصاده(25).
القوة الذاتية الهائلة التي يمتلكها الإسلام كنظام شامل للحياة، يمتلك أبلغ الحجج في الإجابة على تساؤلات الإنسان المعاصر وحل مشكلاته وتلبية حاجاته المختلفة، النفسية والعقيدية والاجتماعية والاقتصادية.
التطور النوعي والكمي في الخطاب الإسلامي المعاصر، وتمكنه من بلوغ متطلبات المرحلة والتناغم معها، وقدرته المتنامية على الإقناع والنفوذ، خاصة مع صعود بعض النماذج الإسلامية السياسية الناجحة، والتي تفوقت في نموها ونهوضها جميع الأنظمة العلمانية في البلدان الإسلامية، كالنموذج الماليزي والنموذج التركي والنموذج الإيراني.
المد الإسلامي العقدي والإيماني الشعبي، وبروز المظاهر الشاملة للالتزام بالدين، والإيمان به نظاماً لحياة الفرد والمجتمع، وهي مظاهر لم تكن مألوفة في العقود الأولى للقرن الماضي وحتى عقده السابع.
النتائج المشروطة التي تفرزها السنن الإلهية وقوانين التاريخ، وهي تسير في مصلحة النهوض الإسلامي الجديد.
وبالتالي؛ فإن النهوض الإسلامي الجديد هو مسعى جاد لبلورة ذات مستقلّة رصينة للمسلمين، لها أبعادها المتكاملة تاريخياً وحضارياً، ووعي هذه الذات المعاصرة بمعزل عن وعي الغرب لها، وانطوائها على عوامل النمو الإنساني والتقدم العلمي والتكنولوجي.
كيف تكون العلاقة المتوازنة للمسلمين بالغرب؟
مرت العلاقات بين الغرب والمسلمين، بمراحل مختلفة، منذ بدء عملية الاحتكاك الثقافي بين الطرفين في أواسط العصور الوسطى؛ فقد مثلت المرحلة الأُولى حالة من التفاعل الثقافي والاحتكاك المنتج، ولم تتضمن أهدافاً سلطوية على المستويين الفكري والسياسي، رغم أن العالم الإسلامي كان في ذروة تألقه الثقافي والسياسي والعسكري، في مقابل التخلّف القياسي الذي كان يسود الغرب؛ فقد اقتبس الغرب من الحضارة الإسلامية ـ خلال هذه المرحلة ـ معظم عناصر نهوضه. والملفت للنظر، أن ما اقتبسه الغرب من مدنية المسلمين وحضارتهم، كان يدخل في إطار المشتركات العامة، الأمر الذي حال دون حصول أي نوع من أنواع التبعية للعالم الإسلامي، على العكس مما حدث في المرحلة اللاحقة، حين تغيّرت موازين المعادلة.
وفي المراحل اللاحقة التي بدأ فيه الواقع الإسلامي بالتراجع والتفتت، تغيّرت طبيعة العلاقة الغربية الإسلامية وآلياتها؛ إذ أدخل فيها الطرف الغربي مضامين جديدة، تزامناً مع بدايات تشكيل العقل الغربي الحديث، خلال مرحلة “عصر النهضة” الأوروبية. حينها اتجه الغرب الناهض الى تشكيل منهجه الجديد في معرفة الإسلام والمسلمين، وبلورته بالتدريج، من خلال الخلفية اللاهوتية السلطوية والوعي الإستشراقي والفكر العلماني والمعارف المنهجية الجديد، وخاصة في مجالات علم الاجتماع والانثربولوجيا والاثنولوجيا، إضافة إلى قاعدة التفوّق الاقتصادي والسياسي والعسكري.
وكانت النتيجة أن أصبح وعي الغرب بالإسلام والمسلمين، يمثّل جزءاً من وعي الغرب بذاته، كما ذكرنا سابقاً؛ فالغرب في إطار هذا الوعي ـ كما يقول مفكّروه ـ هو «الذات» و«العقل» و«القوة» و«الحقيقة» و«المركز». أما العالم الإسلامي فهو بالنسبة له يمثّل «الآخر» و«الجنون» و«الضعف» و«التمثيل» و«الأطراف»(26).
هذا النزعة الاستكبارية الفوقية، كرّست الغرب بوصفه منظومة ايديولوجية (فكرية ـ سياسية)، وليس مجرد بقعة جغرافية، وجعلته يعطي الحق لنفسه بانتهاج مختلف أساليب الغزو والسيطرة والنهب تجاه العالم الإسلامي. ويتضح هذا المنهج من خلال الخطاب الغربي الحديث ومنهجه المعرفي. ولعل بريطانيا وفرنسا خلال القرنين التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، والولايات المتحدة الأمريكية منذ النصف الأول من القرن العشرين وحتى الآن، تمثل التجسيد الحقيقي للرؤية الغربية المتفوقة تجاه الآخر.
ولاشك أن المسلمين، وعموم دول العالم الثالث والجنوب، لايستطيعون تغيير الرؤية الغربية تجاهم، وليست لديهم القدرة الواقعية على تفكيك العقل الغربي، وإعادة صياغته، كما نجح الغرب قبل ذلك مع العقل المسلم غالباً، إلّا أن المسلمين بإمكانهم تشكيل رؤية واقعية متوازنة تجاه الغرب، تستند الى معايير العلاقة المتوازنة، والندية النسبية، والمصالح المشتركة، والممانعة الإيجابية، فلا رفض للمنتج الفكري والعلمي والسياسي والإقتصادي والثقافي للغرب بالمطلق، ولاقبول له بالمطلق، بل يكون الرفض والقبول معيارياً، وخاضعاً لمتطلبات الواقع، و لضوابط التكوين العقدي والفكري والثقافي الإسلامي.
هذه المعيارية تحول دون الإنغلاق على الذات وحرمان الواقع الإسلامي من الإقتباس من النتاجات الغربية المحايدة المقبولة معيارياً، و في الوقت نفسه تحول دون الإنسحاق والهزيمة أمام الغرب ونتاجاته وصادراته، أو الحيادية تجاه معاركه مع المسلمين، لاسيما معارك الخنق السياسي والغزو الإعلامي والحصار الإقتصادي والاختراق الاستخباري والتنكيل النفسي والضربات العسكرية.
الإحالات
(1) أنظر: علي المؤمن، “سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق”، الفصل السابع.
(2) انظر: فهمي هويدي، إيران من الداخل، ص 36.
(3) وفي مقدمتهم الدكتور حسن حنفي، الذي ألّف كتاباً في أكثر من (900) صفحة تحت عنوان «مقدمة في علم الاستغراب»، دعا فيه إلى دراسة الغرب، في مقابل «الاستشراق».
(4) علي المؤمن، العلمانية المستوطنة بين الإيمان المسيحي والشريعة الإسلامية (دراسة)، ص 6-24.
(5) إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة.. السلطة.. الإنشاء، ص 39.
(6) انظر: د. محمد دسوقي، “الفكر الاستشراقي: تاريخه وتقويمه”، ص 40 – 70.
(7) إدوارد سعيد، الاستشراق، ص 198 – 202.
(8) علي المؤمن، مقدمة كتاب “الفكر الاستشراقي: تاريخه وتقويمه” للدكتور محمد الدسوقي، ص 5 -6.
(9) أنظر: علي المؤمن، “القرن العشرون: مائة عام من العنف”، ص 9، و”العلمانية المستوطنة”، مصدر سابق، ص 16.
(10) أنظر: علي المؤمن، العلمانية المستوطنة (دراسة)، مصدر سابق.
(11) المصدر السابق، 12- 19.
(12) ومن أبرزها كتاب الدكتور هرير ديكمجيان – أمريكي من أصل إيراني مسيحي – الأصولية في العالم العربي وكذلك كتاب الصحفية الأمريكية روبن رايت، الغضب المقدس، وعدد آخر من دراساتها التي نشرتها في مجلة فورين أفايرز.
(13) إدوارد سعيد، الاستشراق، ص 4 – 6، من مقدمة كمال أبو ديب.
(14) انظر اوفرن بنغيو، الشيعة والسياسة، مجلة مدل إيسترن ستديس، نقلاً عن: علي المؤمن، سنوات الجمر، ص 315.
(15) انظر: روجيه غارودي، الأصوليات المعاصرة.. أسبابها ومظاهرها، ص21 – 22.
(16) الاستشراق، ص 6، من مقدمة كمال أبو ديب.
(17) وهو ما طرحته تفصيلاً مؤسسة راند الأمريكية في مؤتمراتها وندواتها وبحوثها خلال العقدين الأخيرين. أنظر: شيربل بينارد، «الإسلام المعتدل»، سلسلة تقارير مؤسسة راند.
(18) أنور عبد الملك، في كتابه: “نهضة مصر”، والذي ترجم مصطلح “السلفية” الى مصطلح (Islamic Fundamentalism) أي “الأصولية الإسلامية” عندما ترجم كتابه الى الإنجليزية.
(19) روجيه غارودي، ص 10.
(20) هرير دكمجيان، الأصولية في العالم العربي، ص 87.
(21) ويقصد بها النخبة المثقفة، وليست النخبة السياسية أو الحاكمة، ويعد “تيار اليسار الإسلامي” في مصر، أحد نماذج ظاهرة إسلام النخبة، وهو التيار الذي نظّر له المفكر المصري الدكتور حسن حنفي. انظر: ماذا يعني اليسار الإسلامي؟، مجلة اليسار الإسلامي كانون الثاني 1981، ص 5 – 48.
(22) المصدر السابق.
(23) روجيه غارودي، ص 12.
(24)أنظر: علي المؤمن، النظام السياسي الإسلامي الحديث، ص 53.
(25) انظر مثلاً: كتاب الإفلاس 1995: الانهيار القادم لأمريكا، للاقتصادي الأمريكي هاري فيجي.
(26) أنظر: ادوارد سعيد، الاستشراق.