يشهد العالم العربي والإسلامي اليوم عواصف سياسية وفكرية واقتصادية غير مسبوقة تُسخّر فيها أدوات إعلامية وثقافية واجتماعية لبث الفرقة وإضعاف الهوية الجامعة. ويبرز في قلب هذه العاصفة استغلال الانقسام السني الشيعي التاريخي كأداة رئيسية لمشاريع التفتيت. هذا الخلاف الذي غذّته تراكمات الماضي أصبح اليوم مادة دسمة لخصوم الأمة، يتاجرون به لتأجيج الكراهية وإفشال أي مشروع وحدوي.
في هذا السياق، تقع على عاتق المرجعيات الدينية الكبرى – حوزة النجف الأشرف والأزهر الشريف – مسؤولية تاريخية لقيادة موقف مشترك يعيد للأمة توازنها ويحميها من التفكك. فالقواسم العقائدية والأخلاقية المشتركة بين المذهبين تفوق بكثير ما يفرقهم بينما التحديات التي تواجه العرب والمسلمين اليوم تتجاوز أي خلاف فقهي أو اجتهادي.
لقد أوجدت الثورة الرقمية فضاءً غير مسبوق لتبادل الأفكار والمعلومات لكنها في الوقت نفسه أصبحت ساحة مفتوحة للتزييف وصناعة الأكاذيب. وهنا تبرز ضرورة مشروع علمي موحد يقوم على إنشاء مكتبتين رقميتين متخصصتين – إحداهما سنية والأخرى شيعية – تعملان بروح تكاملية، تحت إشراف علمي رصين وبتوظيف أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي وأدوات التحقق الدلالي.
يمكن لهذه المكتبات أن تؤدي أدواراً محورية في:
- كشف الأحاديث الموضوعة والتفسيرات المغلوطة التي تُستخدم لزرع الفتنة وسفك الدماء.
- إبراز المشتركات العقدية والإنسانية وفي مقدمتها الالتزام بقضايا الأمة المركزية.
- تقديم المعرفة الموثقة والمبسطة، وتيسير الوصول إلى المصادر الأصلية، مما يحد من تأثير الروايات المغرضة.
إن أخطر ما يهدد وحدة الأمة اليوم هو “مشروع الشرق الأوسط الجديد”، الذي تسعى قوى الهيمنة من خلاله إلى إعادة رسم خريطة المنطقة سياسياً وديموغرافياً بما يخدم مصالحها الاستراتيجية. ومن أبرز أدواته:
- بث الشائعات الممنهجة عبر وسائل الإعلام التقليدية ومنصات التواصل الاجتماعي، لتأجيج المشاعر الطائفية وإشغال الشعوب بخلافاتها.
- صناعة المحتوى الموجه الذي يستهدف العقول الشابة ويقدم صورة مشوهة عن الآخر.
- الرد الخبيث والموجّه الذي يوظف نصف الحقيقة أو يقتطع النصوص من سياقها ليزرع الشك ويهدم الثقة.
المطلوب ليس ذوبان مذهب في آخر، وإنما تأسيس قواعد للحوار العلمي والاحترام المتبادل، وبناء جبهة ثقافية ومعلوماتية موحدة لمواجهة الخطر الوجودي. الشراكة مع الجامعات والمكتبات العالمية لإنشاء قواعد بيانات مفتوحة وموثوقة، ليست ترفاً أكاديمياً، بل سلاحاً حقيقياً في معركة الوعي.
أن التقارب بين السنة والشيعة وبقية الأديان ممكن وضروري، لكنه يتطلب إرادة سياسية ودينية صلبة، وتقديماً للمصلحة العليا على الحساسيات التاريخية. إن ما يهدد كيان الأمة اليوم أخطر من أي خلاف داخلي، ومشاريع التفتيت لا تميز بين طائفة وأخرى. إذا ما وُظفت التقنيات الحديثة بحكمة وشفافية تحت مظلة تحالف علمي وديني، فإنها ستكون الجسر الأقوى لتقريب وجهات النظر، وتحويل المرجعيات إلى درع واقٍ يحمي الأمة في عصر المعلومات. لقد آن الأوان لأن تتحول الكلمات إلى أفعال، وأن يُكتب للتاريخ أن علماء الأمة اتحدوا حين كان الخطر أعظم.