أ. الدين كتجربة حرّة
في أصل نشأته، كان الدين دعوة مفتوحة للضمير الإنساني، لا يحتاج إلى قوة قهرية أو جهاز سلطوي ليفرض نفسه. هو تجربة روحية تنبع من الداخل، حيث يجد الفرد في الصلاة والخشوع والذكر سبيلًا للسمو والتطهر، لا أداة للانضباط السياسي. الدين لله يعني أن العلاقة قائمة على الحرية: الإيمان خيار، والطاعة لله ليست مرسومًا سلطويًا بل انقيادًا قلبيًا نابعًا من القناعة.
هذا ما نلمسه في البدايات التأسيسية للأديان. فالمسيحية الأولى كانت حركة إيمانية صغيرة مضطهدة من قبل الإمبراطورية الرومانية، والإسلام في مكة كان دعوة أخلاقية وروحية تواجه الطغيان المكي من خارج بنية السلطة، لا من داخلها.
ب. الدين حين يلبس ثوب السلطة
لكن التحول يبدأ حين تكتشف الدولة أن الدين يملك قوة رمزية هائلة، وأن بإمكانها استثمار هذه القوة لبناء شرعيتها. هنا ينتقل الدين من فضاء الحرية إلى فضاء السلطة. لم يعد “نداءً من السماء” بقدر ما أصبح “مرسومًا من القصر”..يتجلى هذا التحول في ثلاث صور أساسية:
ج. أمثلة تاريخية على هذا التحول
المسيحية مع الإمبراطور قسطنطين (القرن الرابع): انتقلت من ديانة مضطهدة إلى دين الدولة الرسمي. هذا التحول منح الكنيسة قوة هائلة، لكنه سلبها حرية الروح، إذ صارت أداة لإمبراطورية تريد توحيد شعوبها باسم الصليب.
الإسلام الأموي والعباسي: جرى تحويل خطبة الجمعة إلى أداة سياسية، بحيث تُلعن فيها المعارضة، ويُعلن الولاء للخليفة. الإمام مالك نفسه تعرّض للتعذيب لأنه رفض إصدار فتوى تجبر الناس على بيعة بعينها.
العصر الحديث: في الأنظمة الجمهورية ذات الطابع الديني (إيران مثلًا)، صار الدين مرجعية رسمية تفرض نفسها عبر أجهزة الدولة، لا عبر قناعة المؤمنين.
د. من المقدس الحر إلى المقدس المؤدلج
التحول من “الدين لله” إلى “الدين للسلطة” يعني أن المقدس لم يعد مجالًا للبحث عن الله، بل مجالًا لتثبيت الدولة. هنا نفرق بين:
الفيلسوف سبينوزا تنبّه إلى هذه النقطة حين فرّق بين الدين بوصفه أخلاقًا تقود إلى الحرية، والدين بوصفه مؤسسة تابعة للسلطة تنتج الطاعة. وكانط ميّز أيضًا بين “الدين الأخلاقي” (القائم على العقل الحر) و”الدين الكنسي” (القائم على الطاعة العمياء).
هـ. النتائج المترتبة على هذا التحول
حين يتحول الدين إلى سلطة، يفقد جوهره الروحي، ويخسر المجتمع حريته في الإيمان. وتكون النتيجة: