مقامة نهيض حرة و غراس شريف

مقامة نهيض حرة و غراس شريف

تحمل هذه العبارة  )) نهيض حرة وغراس شريف((في طياتها معاني العزة والأصالة  , والثبات على المبادئ السامية,  ويستشهد بها على مواقف الرجال ,وقول بليغ ومُعبر , يستلهم ليضيء على مواقف الرجال الحقيقية , من تراث العباسيين والامويين من قريش , شيخ من الشام كان في صحابة هشام بن عبد الملك , سأله أبو جعفر المنصور عن تدبير هشام في بعض حروبه للخوارج ,  فوصف الشيخ له فقال:  فعل رحمه الله كذا , وصنع رحمه الله كذا ,  قال له المنصور:  (( قم , عليك لعنة الله , تطأ بساطي , وتترحم على عدوي؟)) ,  فقام وهو يقول : إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلا غاسلي , فقال له المنصور: ارجع يا شيخ ,  فرجع فقال : (( أشهد أنك نهيض حر, وغراس شريف , عد إلى حديثك )) ,فعاد الشيخ في حديثه , فلما فرغ دعا له بمال فأخذه , وقال: يا أمير المؤمنين , ما بي حاجة إليه , ولقد مات من كنت في ذكره , فما أحوجني إلى وقوف في باب أحد بعده , ولولا جلالة أمير المؤمنين وإيثار طاعته ما لبست لأحد بعده ثوباً,  فقال له المنصور: مت إذا شئت , لله أنت , فلو لم يكن لقومك غيرك كنت قد أبقيت لهم مجداً مخلداً , وذكراً باقياً .

عن أبي دفافة العبسي قال: حدثت المنصور بحديث العجلان بن سهل , وكان دخل على عبد العزيز بن القعقاع , فبينا هو جالس إذ دخل رجل متلطخ الثوب بالطين , فقال عبد العزيز: ما لك ؟ قال : ركب هذا الأحول , يعني هشام بن عبد الملك , فنفرت ناقتي فسقطت , فانتزع العجلان سيفه فنفحه به , ووثب الرجل فأخطأه السيف , ووقع في وسادة فقطعها , وقال : يا لكع أعياك أن تسميه بأمير المؤمنين , وبأسمه الذي سماه به أبوه , أو بكنيته ,  ونظرت إلى الذي يعاب به فسميته به , أما و اللّه لوددت أن السيف أخذ منك مآخذه , قال : فكان المنصور يستعيدني هذا الخبر كثيرا , ويقول: (( كيف صنع العجلان بن سهل ؟ مع مثله يطيب الملك )) .

يعكس ((النهيض الحر)) رفض الذل والخنوع , والوقوف شامخًا أمام التحديات والظلم , كان هشام بن عبد الملك يكره تقبيل اليد , حكى العتبي , قال : دخل رجل على هشام بن عبد الملك فقبل يده , فقال: أفّ , إن العرب ما قبلت الأيدي إلا هلوعاً , ولا فعلته العجم إلا خضوعاً , هناك أمثلة تاريخية أو معاصرة لرجال أظهروا عزة نفس في مواقف صعبة , مفضلين التضحية على التنازل عن مبادئهم , عن إبراهيم بن أبي عَبْلة قال: أراد هشام أن يوليني خراج مصر فأبيت , فغضب حتى اختلج وجهه , وكان في عينيه حول , فنظر إلي نظر منكر, وقال : لتلينَّ طائعاً , أولتلينَّ مكرهاً , فأمسكت عن الكلام حتى سكن غضبه , فقلت : يا أمير المؤمنين أتكلم؟ قال : نعم , قلت : إن الله قال في كتابه العزيز: (( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا)) ,( الأحزاب: 72 ) , فوالله أمير المؤمنين ما غضب عليهن إذ أبين , ولا أكرههن إذ كرهن , وما أنا بحقيق أن تغضب عليّ إذ أبيت , وتكرهني إذا كرهت , فضحك وأعفاني.

كان هشام بن عبد الملك يقرب منه الأذكياء أصحاب الحكمة والعقل الراجح , ذلك أنه لما أتته الخلافة سجد لله شكراً , فلما رفع رأسه وجد الأبرش الكلبي واقفاً , فقال : ما لك لم تسجد معي؟ فقال : يا أمير المؤمنين , رأيتك وقد رفعت إلى السماء , وأنا مخلد إلى الأرض , فقال: أرأيتك إن رفعتك معي أتسجد؟ فقال : الآن طاب السجود , فسجد , فأمر له بالإحسان الكثير وأن يكون جليسه طول مدته , وعوتب في شأنه وقيل له : ما تجالس في هذا الأبرش؟ فقال : حظي منه عقله لا وجهه.

لا يساوم الرجل الحق على كرامته وكرامة الآخرين , يشير (( الغراس الشريف )) إلى الأصل الطيب والنشأة الكريمة التي تغذي سلوك الرجل وقيمه , وأن الرجل الأصيل يتمسك بجذوره الأخلاقية والإنسانية , ويسعى دائمًا ليكون خير خلف لخير سلف , ويزودنا التأريخ بأمثلة عن كثير من الرجال الذين كانت أفعالهم امتدادًا لقيم نبيلة ورثوها عن أسرهم ومجتمعهم , ففي أيام هشام قحطت البادية فقدمت عليه العرب , فهابوا أن يكلموه , وكان فيهم درواس بن حبيب , وهو ابن ست عشرة سنة , له ذؤابة , وعليه شملتان , فوقعت عليه عين هشام فقال لحاجبه : من أراد أن يدخل عليّ فليدخل , فدخل حتى الصبيان , فوثب درواس حتى وقف بين يديه مطرقاً , فقال: يا أمير المؤمنين , إن للكلام طيّاً ونشراً , وإنه لا يعرف ما في طيه إلا بنشره , فإن أذن لي أمير المؤمنين أن أنشره نشرته , فأعجبه كلامه وقال : انشره لله درك , فقال: يا أمير المؤمنين , إنه أصابتنا سنون ثلاث , سنة أذابت الشحم , وسنة أكلت اللحم , وسنة أدقت العظم , وفي أيديكم فضول مال , فإن كانت لله ففرقوها على عباده , وإن كانت لهم , فلا تحبسوها عنهم , وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم , فإن الله يجزي المتصدقين , فقال هشام : ما ترك لنا الغلام واحدة من الثلاث عذراً , فأمر للبوادي بمئة ألف دينار, وله بمئة ألف درهم , ثم قال له : أما لك حاجة؟ قال: ما لي حاجة في نفسي دون عامة المسلمين.

تتجلى هاتان الصفتان (النهيض الحر والغراس الشريف) في مختلف جوانب حياة الرجل , مثل : مواجهة الظلم , والوقوف في وجه الباطل , والدفاع عن الحق , وتحمل المسؤولية , والوفاء بالوعود والالتزام بالمباديء , والتعامل مع الشدائد  بالثبات والصبر في أوقات الأزمات , ونصرة الضعيف , ومد يد العون , والمساعدة للمحتاجين ,  وعدم التخلي عن القيم الأخلاقية مهما كانت الإغراءات , وهكذا فأن قول المنصور نهيض حرة وغراس شريف يقدم معيارًا قيمًا لتقييم الرجولة الحقة , وأهمية أن يسعى الرجال لتبني هذه الصفات في حياتهم وأفعالهم , لتكون تلك العبارة برسالة مُلهمة تدعو إلى التمسك بالعزة والأصالة كركائز أساسية لبناء مجتمع قوي وأخلاقي .